﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله والحمد لله، وبعد:
الوقفة الأولى:
في دلالة الآية على أن الله سبحانه لم يعطِ الناس من العلم إلا مقدارًا قليلًا، وذلك بالنسبة إلى علمه تعالى؛ قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: وإنما معنى الكلام: وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا قليلًا من كثير مما يعلم الله؛ جامع البيان (١٤٣/١٣).
الوقفة الثانية:
في دلالة الآية على أن الأصل في الإنسان الجهل؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [النحل: 78].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم...)؛ صحيح الجامع.
الوقفة الثالثة:
في دلالة الآية على سعة علم الله تعالى؛ عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه، قال: بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة، وهو يتوكأ على عسيب معه، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يجيء فيه بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسألنه، فقام رجل منهم، فقال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فسكت فقلت: إنه يوحى إليه، فقمتُ فلما انْجلى عنه، قال: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]؛ رواه البخاري.
الوقفة الرابعة:
في دلالة الآية على أن الفضل لله وحده، فهو الذي علم ويسَّر أسباب العلم، وهو الذي أعطى أدوات التعلم، وهذا يحمل العبد على التواضع وعدم الغرور؛ قال تعالى: ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].
قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: خص هذه الأعضاء الثلاثة، لشرفها وفضلها، ولأنها مفتاح لكل علم، فلا وصل للعبد علم إلا من أحد هذه الأبواب الثلاثة؛ تيسير الكريم الرحمن (٤٤٥/١٤).
الوقفة الخامسة:
في دلالة الآية على عظمة الله تعالى وعظمة علمه سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59].
قال العلامة السعدي في تفسيره على هذه الآية: هذه الآية العظيمة من أعظم الآيات تفصيلًا لعلمه المحيط، وأنه شامل للغيوب كلها التي يطلع منها ما شاء من خلقه، وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، فضلًا عن غيرهم من العالمين، وأنه يعلم ما في البراري والقفار، من الحيوانات، والأشجار، والرمال والحصى، والتراب، وما في البحار من حيواناتها، ومعادنها، وصيدها، وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها، ويشتمل عليه ماؤها.
﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ﴾من أشجار البر والبحر، والبلدان والقفر، والدنيا والآخرة، إلا يعلمها.
﴿وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ﴾من حبوب الثمار والزروع، وحبوب البذور التي يبذرها الخلق؛ وبذور النوابت البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات.
﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ﴾هذا عموم بعد خصوص ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، وهو اللوح المحفوظ، قد حواها، واشتمل عليها، وبعض هذا المذكور، يبهر عقول العقلاء، ويذهل أفئدة النبلاء، فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته، في أوصافه كلها، وأن الخلق - من أولهم إلى آخرهم - لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته، لم يكن لهم قدرة ولا وسع في ذلك، فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم، الحميد المجيد، الشهيد، المحيط، وجل مِنْ إله، لا يُحصي أحد ثناءً عليه، بل كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، فهذه الآية دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء، وكتابه المحيط بجميع الحوادث.
الوقفة السادسة:
في دلالة الآية على قصور علم العبد، وأن عليه أن يكل ما يجهله إلى علم الله تعالى؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: الواجب على كل مؤمن أن يكل ما أشكَل عليه إلى أصدق قائل، ويعلم أن فوق كل ذي علم عليمًا، وأنه لو اعترض على ذي صنعة أو علم من العلوم التي استنبطتها معاول الأفكار، ولم يحط علمًا بتلك الصناعة والعلم، لأزرى على نفسه، وأضحك صاحبَ تلك الصناعة والعلم على عقله؛ مفتاح دار السعادة (271/2).
الوقفة السابعة:
في دلالة الآية على وجوب التسليم للعليم الحكيم في مسائل الشرع والأمر والنهي، والقضاء والقدر والتعليل.
وذكر جل ذكره قول الملائكة الكرام: ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32].
قال أهل التفسير: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾؛ أي: ننزهك من الاعتراض منا عليك، ومخالفة أمرك.
﴿لَا عِلْمَ لَنَا﴾ بوجه من الوجوه ﴿إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ إياه، فضلًا منك وجودًا، ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾العليم الذي أحاط علمًا بكل شيء، فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، الحكيم: من له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق، ولا يشذ عنها مأمور، فما خلق شيئًا إلا لحكمة، ولا أمر بشيء إلا لحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه اللائق به، فأقروا واعترفوا بعلم الله وحكمته، وقصورهم عن معرفة أدنى شيء، واعترافهم بفضل الله عليهم، وتعليمه إياهم ما لا يعلمون، ولا شك أن العباد يتفاوتون في العلم، فكم بين الله وبين عبده من سعة في العلم!
الوقفة الثامنة:
في دلالة الآية على أن العبد عليه أن يستعين بالله تعالى في طلبه للعلم، فهو سبحانه الذي يؤتي العلم وييسر أسبابه، فقد قال سبحانه لأعلم الخلق صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، وقال: ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 5].
الوقفة التاسعة:
في عموم الآية، فتشمل العلوم الشرعية والعلوم الكونية، وأن العباد لم يؤتوا من ذلك إلا القليل منها.
الخاتمة:
هذه الآية العظيمة تحمِل العباد على التواضع وتعظيم الله تعالى، والتسليم له، وأنه العليم الحكيم الذي وسع علمه كل شيء، فلا يخفى عليه خافية؛ قال تعالى في كتابه: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110].
وقال: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7].
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزِدنا علمًا، إنك أنت العليم الحكيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبها يزن الغانم
مختارات