" أراد قتل الضيف فقتل ابنه "
" أراد قتل الضيف فقتل ابنه "
كان تاجرًا متوسط الثراء، يعمل بشراء الأبقار من العراق أو من إيران، ثم ينتقل بها هو ورجاله مرحلة مرحلة حتى يصل إلى سورية، ولبنان، وقد يصل إلى مصر، ليبيع ما لديه من الأبقار، ثم يشتري أقمشة ومصنوعات أخرى ويعود بها إلى العراق.
وكان الرجل مسلمًا حقًا، قوامًا صوامًا منفقًا على الفقراء، قائمًا بواجباته نحو ربه ونحو الناس، ورعًا تقيًا نقيًا، ما له ليس له وحده؛ بل للمحتاجين من أقربائه وأهل بلدته ولكل طالب محتاج.
وفي إحدى سفراته بتجارته، هطل ثلج كثير، فسد الطرق، وقتل الأعشاب فماتت أبقاره عدا أربعة منها: فصرف رجاله، وأخذ يتنقل بها من مكان إلى آخر، وكان في نيته أن يصل إلى حلب الشهباء، ليؤدي ما عليه من ديون هناك حسب طاقته ويطلب تأجيل ما بقي عليه منها إلى العام القادم لأن تجارته في هذا العام لم تربح وإن مع العسر يسرا.
وفي مساء ذات يوم وصل إلى قرية صغيرة في طريقه من الموصل الحدباء إلى حلب الشهباء، فطرق باب أحد بيوتها، فلما خرج إليه رب الدار، أخبره بأنه ضيف الله، وأنه يريد أن يبيت ليلته في داره، فإذا جاء الصباح سافر إلى قرية أخرى، ورحب صاحب الدار بضيفه، وأدخل أبقاره إلى صحن داره، وقدم الطعام للضيف والعلف للأبقار.
كان صاحب البيت معدمًا، وكان قد أصابه ما أصاب الناس من هطول الثلج بكثرة ولمدة طويلة، فماتت مواشيه، وتضرر زرعه.
وكان متزوجًا وله ولد واحد في العقد الثاني من عمره، وكان في داره غرفتان: غرفة يأوي إليها هو وزوجه، وغرفة يأوي إليها ولده.
واجتمعت العائلة حول الضيف الجديد، وابتدأ السمر شهيًا طليًا، عرف المضيف من خلاله أن ضيفه يحمل مبلغًا من المال.
وفي الهزيع الثاني من الليل، آوى المضيف مع زوجه إلى غرفتهما، وأوى الضيف إلى غرفة ولد الضيف، فنام الولد على فراشه في الزاوية اليمنى من الغرفة، وآوى الضيف إلى فراشه في الزاوية اليسرى من الغرفة.
وبعد أن سأل المضيف ضيفه عما إذا كان يحتاج إلى شيء ما، واطمأن إلى راحته، وتأكد حتى من وجود الماء لديه، غادر إلى غرفته لينام هو أيضًا.
وفي غرفته همست له زوجه: يا فلان ! إلى متى نبقى في عوز شديد؟ هذا الضيف غني، ونحن بأشد الحاجة إلى ماله وأبقاره.
إننا مقبلون على مجاعة لا يستطيع الأغنياء أن يتغلبوا عليها إلا بمشقة بالغة، وسنموت نحن بدون ريب، إننا الآن نأكل يومًا ونجوع أيامًا، فكيف بنا إذا حلت بالقرية المجاعة المترقبة ولا مال عندنا ولا طعام؟ «إن الفرصة سانحة اليوم، ولن تعود مرة أخرى في يوم من الأيام! هلمّ إلى الضيف فاسلبه ماله، وخذ أبقاره، حتى تبقى على حياتنا وحياة ولدنا الوحيد».
وقال لها الرجل: كيف وهو ضيفنا؟! كيف أسلبه ماله وأبقاره؟! كيف يسمح لنا بسلبه؟!
قالت زوجه: «اقتله، ثم نرميه في حفرة قريبة في بطن هذا الوادي ومن يعرف بخبره؟ من!!» وتردد الرجل، وألحت المرأة، وكان الشيطان ثالثهما، فزين للرجل قول امرأته، وألح هو أيضًا في الإقدام على قتل الضيف... ولكي تقطع المرأة على زوجها داء تردده، ولكي يقطع عليه الشيطان قالت المرأة لزوجها: «إن ما تفعله ضرورة لإنقاذنا من الموت الأكيد، والضرورات تبيح المحرمات».
واقتنع الرجل أخيرًا، وعزم على قتل الضيف وسلب ما لديه من مال ومتاع.
كان الوقت في الثلث الأخير من الليل، وكان كل شيء هادئًا ساكنًا، وكانت الأنوار مطفأة، ولم تكن أنوار المنازل في حينه غير سراج يوقد بالزيت.
وقصد الرجل خنجره، وشحذه، ثم يمم شطر غرفة الضيف وابنه ومن ورائه زوجه تشجعه.
ومشى رويدًا رويدًا، على رؤوس أصابع رجليه، واتجه شطر الزاوية اليسرى من الغرفة حيث يرقد الضيف، وتحسس جسمه حتى تلمس رقبته ثم ذبحه كما يذبح الشاة.
وجاءت إلى الرجل زوجه، وتعاونًا على سحب الجثة الهامدة إلى خارج الغرفة، حيث اكتشفا هناك أنهما ذبحا ابنهما الوحيد.
وشهق الرجل شهقة عظيمة، وشهقت المرأة، فسقطا مغشيًا عليهما، وعلى صوت الجلبة استيقظ الضيف، واستيقظ الجيران، ليجدوا ابن الرجل قتيلاً، وليجدوا أمه وأباه مغشيًا عليهما راقدين إلى جانب الجثة الهامدة على الأرض.
وسارع الضيف وسارع الجيران إلى الرجل وامرأته بالماء البارد يرشونه على وجهيهما، وسارع هؤلاء إلى تدليك جسدي الرجل وامرأته، فلما أفاقا أخذا يبكيان بكاء مرًا، وطلبا إلى الجيران إبلاغ الحادث إلى الشرطة، فجاءت على عجل وألقت القبض على الجانيين.
ما الذي حدث في غرفة نوم الضيف وابن المضيف؟ لقد قام الابن إلى فراش الضيف بعد أن غادر أباه الغرفة، وأخذ الرجلان يتجاذبان أطراف الحديث، وكان الحديث ذا شجون، فطال أمده، حتى نام الولد على فراش الضيف بعد أن غلبه النعاس، ولم يشأ الضيف أن يوقظ ابن مضيفه، فترك فراشه له بعد أن أحكم عليه الغطاء، ثم آوى إلى فراش ابن المضيف.
وحين قدم المضيف إلى غرفة الضيف وابنه، كان متأكدًا من موضع فراش كل واحد منهما، فذبح ابنه وهو يريد الضيف، فكان كالخارجي الذي أراد اغتيال عمرو بن العاص في عماية الفجر، فاغتال بدله خارجة بن حذافة، فلما علم بالخبر، هتف من صميم قلبه: «أردت عمرًا وأراد الله خارجة...».
ودفن الجيران الولد القتيل، واستقر والده في السجن (عدالة السماء).
مختارات