" المسارعة إلى القربات "
" المسارعة إلى القربات "
من وسائل حفظ الأوقات واستثمارها: التفرغ للعبادات ومجاهدة النفس في الاستزادة من الخير والقربات؛ فإن فضل العبادة لا يضاهى، وخيرها عند الله لا يتناهى، وبابها واسع لا يُرَدُّ، وبحرُها عميقٌ لا يُحَدُّ. ومن ذلك:
19- أداء النوافل والرواتب: فالعبادة والتَّبَتُّلُ والتَّطَوُّعُ والتَّنَفُّلُ من أوسع طرق الجنة وأعظمها؛ فقد رَغَّبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبًا في الحفاظ على الرواتب و المداومة عليها والتفرغ لأدائها كل وقت وحين؛ فعن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير فريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة» أو: «إلا بني له بيت في الجنة» قالت أم حبيبة: فما برحت أصليهن بعد (رواه مسلم).
فاحرص - أخي الكريم - على حفظ وقتك في أداء هذه الرواتب؛ فإنها سبب لإرث بيت في الجنة، وسبب العطاء والمنة، ولقد جُعل التطوع وما فيه من سنن راتبة جبرًا للنقص الذي يكون في أداء الفرائض؛ فالفرائض لا تكتب تامَّةً إلا إذا استوفت شروط أدائها من طهارة وخشوع وحسن إقبال على الله، فإن كانت تامةً فهو الفلاح والنجاح، وإن كانت ناقصةً فالتَّطَوُّع لعله يُتمُّ النقص الذي كان في أدائها.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أوقات هذه الرواتب وحَثَّ على القيام بها؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ثابر على اثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتًا في الجنة؛ أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر» (رواه الترمذي وهو حديث حسن).
اغتنم في الفراغ فضل ركوع فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيح رأيت من غير سقم ذهبت نفسه الصحيحة فلته
فاغتنم - حفظك الله - وقتَك في الحفاظ على الرَّواتب والمواظبة عليها، واجتهد في أداء النوافل في سائر الأوقات؛ فإنها سببٌ لمحبَّة الله لك؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه - تبارك وتعالى - قال: «من عادى لي وليًا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ من أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» (رواه البخاري مطولا).
20- تلاوة القرآن وحفظه: فإن حفظَ الأوقات في تلاوة كتاب الله تعالى هي التجارة الرابحة التي لا يعتريها البوار، ولا تهدر فيها الأوقات والأعمار؛ بل إن القارئَ للقرآن الكريم يحصل له من الأجر والثواب العظيم ما لا يخطر له على بال؛ قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها؛ لا أقول الم حرف؛ ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (رواه الترمذي والحديث صحيح).
فاجتهد - رعاك الله - في تدبُّر كتاب الله وتلاوته، وتفرغ له بالانضمام إلى حلقات التحفيظ في المساجد ودور القرآن، وجاهد نفسك في حفظه وإتقانه، تأتي يوم القيامة مع البررة، ويكون لك شفيعًا عند الله.
هذا الذي كنت أطويه وأنشره حتى بلغت به ما كنت آمله
فرافقته وفارق من يفارقه فالوحي أنفس شيء أنت حامله
واعلم - أخي الكريم - أن تلاوةَ القرآن وتَعَلُّمَه خيرُ عمل يقوم به المسلم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم مَنْ تَعَلَّم القرآن وعَلَّمَه» (رواه البخاري).
ووقتك يا فتى غال نفيس ففي الخيرات فابذله يا صاح
شعارك فاجعل القرآن دومًا وتسبيح المساء مع الصباح
21- الاشتغال بذكر الله عز وجل: وذكر الله من أيسر العبادات وأسهلها على الإطلاق؛ فهو جدير بأن تُبْذَلَ فيه الطَّاقات، وتقضى في الاشتغال به الأوقات؛ لا سيما وفضله عند الله عظيم، وخيره جزيل كريم؛ فذكر الله - جل وعلا - أداتُه اللسان، وحركة اللسان أخفُّ حركات الجوارح وأيسرُها؛ لو تحرك عضو من الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة اللسان، لشق عليه غاية المشقة؛ بل لا يمكنه ذلك، لذا فإن ذكر الله أيسر العبادات وأجلُّها وأفضلها.
فبادر - أخي الكريم - إلى هذا الخير العظيم، واشغل نفسك بذكر الله وشكره، واعلم أن الذكر سببٌ لطمأنينة النفوس وراحة القلوب والأبدان؛ قال تعالى: " أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ "، والذِّكْرُ لا يأخذ من الأوقات إلا القليل؛ ولكن ثوابَه عند الله عظيم جليل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه، ومن قال: " سبحان الله وبحمده " في يوم مائة مرة، حُطَّتْ عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (رواه البخاري ومسلم).
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن أقول " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " أَحَبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس» (رواه مسلم).
أخي الكريم: فاغتنم وقتك في ذكر الله - جل وعلا - في الخروج والدخول، وعند النوم واليقظة، وفي طريقك وحضرك وسفرك، وفي السوق وفي العمل، وكن ملازمًا للأذكار في سائر الأحوال.
والأذكار التي ينبغي الحرص عليها كثيرة جدا يستحسن حفظها من الكتب الجامعة للأذكار نحو كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، وإنما قصدنا هنا الإشارة إلى صرف أوقات الفراغ بذكر الله بالتسبيح والتهليل والاستغفار والتوبة وقراءة القرآن؛ فإن ذلك من أسباب السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة، والله من وراء القصد.
22- قيام الليل: فإذا كانت المدارَسةُ في النهار تغذي العقول والأفكار؛ فإن الليلَ مدرسةٌ تهذِّب الروح وتكسوها الطمأنينة والصفاء، لذلك فإن دقائقه غالية ثمينة يعز تعويضها في النهار.
فإذا وجدت أخي الكريم من ليلك وقتًا فلا تضيِّعْه في السَّهَر والغفلة، ولا تبدِّدْه أمام فسوق التلفاز والقنوات الفضائية، ولا تعبث به مع النفوس الدَّنيَّة؛ فأوقات الليل لحظات مباركة طيبة، جدير بك أن تحفظها بالقيام والاستغفار والدعاء؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حتى يبقى ثلثُ الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له» (رواه البخاري ومسلم).
وهذا الشافعيُّ - رحمه الله - كان من أحسن الناس اغتنامًا لأوقات ليله؛ فقد جَزَّءَ - رحمه الله - الليلَ ثلاثةَ أجزاء ؛ الثلث الأول يكتب فيه، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام.
فاغتنم حفظك الله أوقات ليلك في الذكر والدعاء والعبادة والتَّبَتُّل، واعلم أن قدوتَك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى تَوَرَّمَتْ قدماه، وقطر منها الدم؛ وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تَأَخَّر.
23- الدُّعاء والتَّضَرُّع إلى الله: والدعاء من أَحَبِّ العبادات إلى الله وأوجب ما ينبغي حفظ الأوقات به؛ فهو دلالة على العبودية والذُّلِّ والحبِّ والطمع فيما عند الله من جزيل العطاء وكريم الثواب والجزاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها مأثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه إحدى ثلاث: إما أن يستجيب له دعوته، أو يصرف عنه من السوء مثلها، أو يَدَّخر له من الأجر مثلها» (رواه الحاكم وصححه).
فابذل جهدك - رحمك الله - في أن تكون سَؤولًا لله - جل وعلا - ملحاحًا في دعائه والاستغاثة به، وإظهار الفقر والذل بين يديه، ولا تعجز أن تسأل الله من خير الدنيا والآخرة؛ فإن العجزَ كلَّ العجز أن تستثقل الدعاء وتستعجل الإجابة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعجز الناس من عجز عن الدعاء» (رواه الطبراني في الأوسط وصححه الألباني في صحيح الجامع).
واحرص أن يكون دعاؤك في الأوقات الفاضلة التي جاء التَّنْصيصُ على أنها أوقاتُ استجابة؛ كأدبار الصلوات المكتوبة، وبين الأذان والإقامة، والثلث الأخير من الليل، وعند نزول الغيث، وفي المرض والسفر وغيرها من الأوقات الفاضلة، واعلم أن الله - جل وعلا - قريبٌ منك يسمعك ويجيبُ دعاءك؛ قال تعالى: " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ".
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده
مختارات