" الفتنة التي تموج كموج البحر "
" الفتنة التي تموج كموج البحر "
عن شقيق، عن حذيفة أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: «أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ كما قال قال: هات إنك لجريء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: ليست هذه، ولكن التي تموج كموج البحر؟ قال يا أمير المؤمنين لا بأس عليك منها، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال: يفتح الباب أو يكسر؟ قال: لا، بل يكسر قال: ذلك أحرى أن لا يُغلق، قلنا: علِم الباب؟ قال: نعم، كما أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليظ (معناه حدثته حديثًا صدقًا محققًا ليس هو من صحف الكتابيين، ولا من اجتهاد ذي رأي، بل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم) فهبنا أن نسأله، وأمرنا مسروقًا فسأله، فقال: من الباب؟ قال عمر» [رواه البخاري: (3586)].
وفي رواية ربعي عن حذيفة عند مسلم: (144) قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا فأي قلب أشْربها نكت فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْبادًا (شدة البياض في سواد) كالكوز مجحيًا (أي منكوسًا) لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه» (والمعنى أن الرجل إذا تبع هواه وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز، فإذا انكب انصب ما فيه، ولم يدخل شيء بعد ذلك)
قال حذيفة: وحدثته: أن بينك وبينها بابًا مغلقًا يوشك أن يكسر قال عمر: أكسرًا لا أبا لك، فلو أنه فتح لعله كان يعاد قلتُ: لا؛ بل يكسر، وحدثته: أن ذلك الباب رجلٌ يقتل أو يموت، حديثًا ليس بالأغاليط».
أصل الفتنة في كلام العرب: الابتلاء والامتحان والاختبار، قال القاضي: ثم صارت في عرف الكلام لكل أمر كشفه الاختبار عن سوء قال أبو زيد: فتن الرجل يفتن فتونا إذا وقع في الفتنة وتحول من حال حسنة إلى سيئة.
والفتنة بالأهل تقع بالميل إليهن أو عليهن في القسمة والإيثار حتى في أولادهم، ومن جهة التفريط في الحقوق الواجبة لهن، وبالمال يقع الاشتغال به عن العبادة أو بحبسه عن إخراج حق الله، والفتنة بالأولاد تقع بالميل الطبيعي إلى الولد وإيثاره على كل أحد، والفتنة بالجار تقع بالحسد والمفاخرة والمزاحمة في الحقوق وإهمال التعاقد قاله ابن المنير.
وخصَّ الرجلُ بالذكر؛ لأنه في الغالب صاحب الحكم في داره وأهله، وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم، كما يقول ابن أبي جمرة.
ثم أشار إلى أن التكفير لا يختص بالأربع المذكورات؛ بل نبه بها على ما عداها، والضابط أن كل ما يشغل صاحبه عن الله فهو فتنة له، وكذلك المكفرات لا تختص بما ذكر؛ بل نبه به على ما عداها، فذكر من عبادة الأفعال الصلاة والصيام، ومن عبادة المال الصدقة، ومن عبادة الأقوال الأمر بالمعروف.
وقوله (تموج كموج البحر) أي تضطرب اضطراب البحر عند هيجانه، وكنى بذلك عن شدة المخاصمة وكثرة المنازعة وما ينشأ من ذلك من المشاتمة والمقاتلة.
لقد علم عمر من الأخبار النبوية أن بأس الأمة بينهم واقع، وأن الهرج لا يزال إلى يوم القيامة، كما وقع في حديث شداد رفعه: «إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة» أخرجه الطبري وصححه ابن حبان، وعلم عمر أنه باب هذه الفتنة، فروى الطبراني بإسناد رجاله ثقات أن أبا ذر لقي عمر فأخذ بيده فغمزها، فقال له أبو ذر أرسلْ يدي يا قُفْلَ الفتنة.. وفيه أن أبا ذر قال: «لا يصيبكم فتنة ما دام فيكم» وأشار إلى عمر (فتح الباري).
قال النووي: والحاصل أن الحائل بين الفتن والإسلام عمر رضى الله عنه وهو الباب؛ فما دام حيًا لا تدخل الفتن، فإذا مات دخلت الفتن، وكذا كان (صحيح مسلم بشرح النووي).
وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون فتن؛ ألا ثم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه» قال: فقال رجل: يا رسول الله ! أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: «يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم، هل بلغت؟ اللهم، هل بلغت؟ اللهم، هل بلغت؟» فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: «يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار»[رواه مسلم: (2887)].
وعن عُديسة بنت أهبان قالت: «لما جاء علي بن أبي طالب ههنا (البصرة) دخل على أبي فقال: يا أبا مسلم ألا تعينني على هؤلاء القوم؟ قال: بلى فدعا جارية له فقال: يا جارية أخرجي سيفي فأخرجته، فسل منه قدر شبر، فإذا هو خشب، فقال: إن خليلي وابن عمِّك عهد إليَّ: «إذا كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفًا من خشب» فإن شئت خرجتُ معك قال: لا حاجة لي فيك، ولا في سيفك»حسن [رواه ابن ماجه (3962)].
وعن سعيد بن جبير قال: خرج علينا عبد الله بن عمر، فرجونا أن يحدثنا حديثًا حسنًا، قال: فبادرنا إليه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن حدِّثنا عن القتال في الفتنة، والله يقول: " وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ " فقال: هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمك؟ إنما كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وكان الدخول في دينهم فتنة، وليس كقتالكم على الملك»[رواه البخاري: (7095)].
وعن عامر بن سعد قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله، فجاء ابنه عُمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شرِّ هذا الراكب، فنزل، فقال له: أنزلتَ في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضربه سعد في صدره، فقال: اسكتْ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي»[رواه مسلم: (2965)].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتن: القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذًا فلَيَعُذْ به»[رواه البخاري (7081) ومسلم: (2886)].
وعن المقداد بن الأسود قال: أيمُ الله! لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن السعيد لمن جنب الفتن، إنَّ السعيبد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتُلي فصبر فواهًا» صحيح [رواه أبو داود: (4263)].
مختارات