زاد الطريق
إنَّ أي مسافر لمدينةٍ ما لابد أن يعلم طبيعة الطريق الذي سيسير فيه والعوائق التي ستقابله عليه، وإلا فإنه قد يسير لمسافات طويلة جدًا وفي النهاية يكتشف أنه يسير في طريقٍ خاطيء!
وهكذا السائر في الطريق إلى الله عزَّ وجلَّ، عليه أن لا يكتفي بمجرد هدايته إلى الطريق ومعرفته إياه.. فالأمر لا ينتهي بارتياد الأخ للمساجد أو إرتداء الأخت النقاب، بل هناك ما هو أهم وأخطر من ذلك.. وهو::
الهدايـــة على الطريـــق
يقول ابن القيم " فالهداية إلى الطريق شيء والهداية في نفس الطريق شيءٌ آخر..
ألا ترى أن الرجل يعرف أن طريق البلد الفلاني هو طريق كذا وكذا ولكن لا يحسن أن يسلكه؟
فإن سلوكه يحتاج إلى هداية خاصة في نفس السلوك؛ كالسير في وقت كذا دون وقت كذا، وأخذ الماء في مفازة كذا مقدار كذا، والنزول في موضع كذا دون كذا.. فهذه هداية في نفس السير قد يهملها من هو عارف بأن الطريق هي هذه، فيهلك وينقطع عن المقصود " [رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (1:9)]
وقد علمنا أن الطريق الوحيــد الموصل للجنة، هو:: إتبـــاع كتاب الله وسُنَّة رسوله بفهم السلف الصالح..
لكن بعد أن علمنا الطريق، كيف نسير خلاله حتى نصل إلى الهدف؟!
يُبين الإمام ابن القيم مدى حاجتنا إلى الهداية أثناء سيرنا على الطريق، في كتابه (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر) قائلاً:
أمر سبحانه عباده كلهم أن يسألوه هدايتهم الصراط المستقيم كل يومٍ وليلة في الصلوات الخمس، وذلك يتضمن: الهداية إلى الصراط والهداية فيه..
كما أن الضلال نوعان: ضلال عن الصراط فلا يهتدي إليه، وضلال فيه.. فالأول: ضلال عن معرفته، والثاني: ضلال عن تفاصيله أو بعضها.
ولما كان العبد في كل حال مفتقرًا إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره، فإنه بين أمور لا ينفك عنها:
1) من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو محتاج إلى التوبة منها..
كأن يقوم ببعض الأعمال على غير علم، وإنما مجرد تقليد لغيره.
2) وأمور هدي إلى أصلها دون تفصيلها، فهو محتاج إلى هداية التفصيل..
كأن يُهدى إلى الالتزام الظاهري دون الاهتمام بالباطن، أو يُهدى إلى الصلاة دون الخشوع فيها، أو إلى الصيام دون تحقيق التقوى منه..
وهذا خلل لابد من علاجه حتى لا يتعثَّر على الطريق،،
3) أو هدي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها ليزداد هدى..
كأن يُهدى إلى الإيمان عن طريق العلم، لكن لا يستكمل طلب العلم الذي يورثه الخشية من الله عزَّ وجلَّ.. فيظل يتنقل بين فروع العلم المختلفة دون أن ينتهي من الأصل؛ وهو العلم الذي يؤدي إلى معرفة الله عزَّ وجلَّ.
4) وأمور هو محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي..
فبداية التوبة تصاحبها همة ونشاط، ولكن الإيمان يبلى فيصاب صاحبه بالفتور بعدها.. لذا فهو دائمًا بحاجة إلى تجديد الإيمان في قلبه وألا يركن على نشاطه في بداية الالتزام..
قال رسول الله " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم " [رواه الطبراني وصححه الألباني، صحيح الجامع (1590)]
والطاقة الإيمانية لا تتجدد إلا بـــالشكر..
فمن لم يشكر نعم الله تعالى عليه واصطفائه له، يتعثَّر،،
5) وأمور هو خالٍ عن اعتقادٍ فيها، فهو محتاج إلى الهداية..
فهناك الكثير من الأمور التي تجهلها عن ربِّك، وعن نبيك، وعن دينك، وحتى عن نفسك تحتاج إلى الهداية إليها.
6) وأمور لم يفعلها فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية..
كبعض السُنن المهجورة في حياتنا، التي لا يكاد يقوم بها إلا قليلٌ جدًا من الناس.
يقول ابن القيم " ولا يتم المقصود إلا بالهداية إلى الطريق والهداية فيها، فإن العبد قد يهتدي إلى طريق قصده وتنزيله عن غيرها ولا يهتدي إلى تفاصيل سيره فيها وأوقات السير من غيره وزاد المسير وآفات الطريق.
ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: {.. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا..} [المائدة: 48].. قال: " سبيلاً وسُنَّة "، وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير..
فالسبيل: الطريق، وهي المنهاج..
والسُّنَّة: الشرعة، وهي تفاصيل الطريق وكيفية المسير فيه وأوقات المسير..
وعلى هذا فقوله سبيلاً وسنَّة، يكون السبيل المنهاج " [شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر (16:36)]
فالطريق هو الإسلام، والسُّنَّة هي المنهج الذي ستسير وفقه والذي سيُنير لك الطريق.. وعلى الطريق يوجد مُعينات وعوائق وعلائق وقواطع.. وتتفاوت قدرات الناس في السير على هذا الطريق، فمنهم من سيسير بسرعة البرق ومنهم من سيسير زحفًا حتى يُكب على وجهه على الصراط يوم القيامة.. وبقدر تعثرك وهفواتك في طريقك في الدنيا، بقدر ما ستكون سقطاتك على الصراط يوم القيامة..
فبنا نتزوَّد للسير على الطريق بمعرفة المُعينات والعوائق التي ستواجهنا عليه؛
حتى لا نقف أو نتعثَّر..
أولاً: مُعينـــات على الطريـــق..
♥♥ واعظ الله في القلب ♥♥
فالطريق عليه داعٍ هو واعظ الله في قلبك، وهذا الواعظ هو الذي سُيحركك ويدفعك للسير في الطريق الصحيح..
عن خالد بن معدان قال: " ما من عبد إلا وله أربع أعين: عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح عينيه اللتين في قلبه فيبصر بهما ما وعد بالغيب، وإذا أراد الله بعبد غير ذلك تركه ما هو عليه ثم قرأ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] " [صفة الصفوة (2:374)]
فقلبك له عينــان يبصر بهما.. يقول الله جلَّ وعلا {.. فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]
كما إنه يسمع.. قال تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]
فعليك أن تسمع وتُنصت لواعظ الله في قلبك وإيــــاك أن تُهمله..
وهو ذلك الصوت الذي ينبعث من داخلك ليؤنبك على كسلك وتقصيرك في حق الله تعالى، ويحثَّك على السير في الطريق الصحيح.. لذلك تحتاج إلى:
1) تطهير قلبك؛ لإزالة الران من عليه.. لأنه لو طُبِعَ على قلبك، لن توفق لسماع نداءه وبالتالي تأخذك الغفلة إلى طريقٍ آخر.. قال تعالى {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100]
2) الاستماع إلى القرآن بقلبك.. فاستمع وانصت لآيات القرآن في كل حين واستشعرها بقلبك؛ حتى تُهدى إلى الصراط المستقيم.
3) الاستماع إلى المواعظ بنية العمل بها.. فتستمع لدروس العلم والمواعظ، لتمتثل لها وتعمل بها.. والعبرة بالأشياء التي تغيَّرت فيك وليس بالكم الذي تسمعه.
قال تعالى {.. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (*) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (*) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66،68]
ثانيًا: عوائــق على الطريــق..
فيوجد على الطريق سدود وأحجار، تجعلك تتعثر فيه.. لكنها لن تظهر لك إلا إذا بدأت في السير الفعلي إلى ربِّك عزَّ وجلَّ..
يقول ابن القيم " وأما العوائق: فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها، فإنها تعوق القلب عن سيره إلى الله وتقطع عليه طريقه، وهي ثلاثة أمور:
1) شرك.. 2) وبدعة.. 3) ومعصية..
فيزول عائق الشرك: بتجريد التوحيد، وعائق البدعة: بتحقيق السُّنَّة، وعائق المعصية: بتصحيح التوبة.
وهذه العوائق لا تبين للعبد حتى يأخذ في أهبة السفر ويتحقق بالسير إلى الله والدار الآخرة. فحينئذ تظهر له هذه العوائق ويحس بتعويقها له بحسب قوة سيره وتجرده للسفر، وإلا فما دام قاعدًا لا يظهر له كوامنها وقواطعها " [الفوائد (1:166)]
ثالثًا: علائـــق على الطريـــق..
يقول ابن القيم " وأما العلائق: فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذ الدنيا وشهواتها و رياساتها وصحبة الناس والتعلق بهم، ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضه إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى، وإلا فقطعها عليه بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع.
فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه وآثر عندها منه. وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره، وكذا بالعكس. والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه. وذلك على قدر معرفته وشرفه وفضله على ما سواه " [الفوائد (1:166)]
رابعًا: قطَّاع على الطريــق..
يقول ابن القيم " فبين العمل وبين القلب مسافة.. وفى تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب؛ فيكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحق والباطل ولا قوة في أمره.
فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه، لاستنار وأشرق..
ورأى الحق والباطل وميَّز بين أولياء الله وأعدائه وأوجب له ذلك المزيد من الأحوال.
ثمَّ بين القلب وبين الربِّ مسافة.. وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه، من: كبر وإعجاب وإدلال ورؤية العمل ونسيان المنة وعلل خفية لو استقصى فى طلبها لرأى العجب " [مدارج السالكين (1:439)]
فلذلك ضاعت قلوبنا، لما لم يعُد للأعمال آثارٌ عليها.. {.. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]
والحل:: الاعتصام بالله عزَّ وجلَّ والتوكل عليه وحده والاستعانة به..
قال تعالى {.. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]
وحينها ستضيق المسافة بين العمل والقلب، فيؤثر فيه أي عمل يسير.. مما يُثمر علاقة وثيقة بالله سبحانه وتعالى،،
ولكي تكون حذرًا في سيرك، لابد أن تعلم من هم القطاع الذين سيواجهونك على الطريق.. ومن أهمهم:
1) شياطين الجن (إبليس وأعوانه)..
قال تعالى {.. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38].. فعلى الرغم إنهم كانوا يعلمون طريق الحق، إلا إن إبليس أغواهم وزيَّن لهم طريق الضلال حتى ساروا خلفه.
2) شياطين الإنس (أهل الكفر والضلال)..
فأولئك سيسعون دومًا لإلقاء الفتن والشبهات؛ حتى يحيد المؤمنين عن سبيلهم.. قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44]
3) أهل الزيغ والنفاق..
فهؤلاء يعرقلونك في الطريق ويلقون في قلوب المؤمنين الشبهات.. قال تعالى {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88]
4) أهل البدع والضلال..
قال تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]
5) علماء السوء..
وهم من أخطر قطاع الطريق؛ لأنهم في الظاهر أدلاء بينما في الحقيقة هم مُضلين عن السبيل..
عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله " إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان " [رواه الطبراني وصححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (132)]
يقول ابن القيم " علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا، قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم. فلو كان ما دعوا إليه حقًا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطاع الطرق " [الفوائد (1:60)]
قال الشاعر:
يا معشر القراء يا ملح البلد... مايصلح الملح إذا الملح فسد؟!
6) المنتكسون..
فهؤلاء ضلوا بعدما هُدوا، فضلوا سواء السبيــل.. يقول الله جلَّ وعلا {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137]
7) جبل النفس الوعر وإتباع هواها..
فالنفس عقبة كؤود من الصعب اجتيازها.. يقول تعالى {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (*) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد: 11،12]
8) فتن الدنيــــا..
فعندما يتمكن حُب الدنيا والمال من القلب، سيكون من الصعب أن تسير في الطريق..
9) العادات والتقاليد..
يقول ابن القيم " ما على العبد أضر من ملك العادات له، وما عارض الكفار الرسل إلا بالعادات المستقرة الموروثة لهم عن الأسلاف الماضين فمن لم يوطن نفسه على مفارقتها والخروج عنها والإستعداد للمطلوب منه فهو مقطوع وعن فلاحه وفوزه ممنوع " [مدارج السالكين (1:146)]
10) الإتبـــاع الأعمى..
فمن لم يتبع سبيل المؤمنين، يقع في الضلال المبين.. قال تعالى {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67]
هذه عوائـــق عشر على الطريــــق، تبصَّر بها؛ حتى لا تتعثر...
مختارات