" عناية الإسلام بتطييب النفوس "
" عناية الإسلام بتطييب النفوس "
اعتنى الإسلام بهذا الخُلق غاية الاعتناء، بل شرع لذلك أحكاماً عديدة، في مناسبات متعددة، فمن ذلك:
استحباب التعزية لأهل الميت ؛ لتسليتهم، ومواساتهم، وتصبيرهم، وتطيب خواطرهم على فقد ميتهم.
وكذلك جاء الشرع بإقرار الدية في القتل الخطأ ؛ لجبر نفوس أهل المجني عليه، وتطييباً لخواطرهم (انظر: المغني (9/488)).
ولذا كان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على نشر هذا الخلق بين أصحابه رضوان الله عليهم واضحاً وجلياً، فمن ذلك: - مواساة من فقد عزيزاً أو تحمل ديناً: فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: « يا جابر: مالي أراك منكسراً؟» قلت: يا رسول الله استشهد أبي قتل يوم أحد، وترك عيالاً وديناً، قال: «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال: « ما كلَّم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحاً، فقال: يا عبدي تمنَّ عليَّ أعطك؟ قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يُرجعون » (رواه الترمذي وحسنه الألباني ).
- وكان عليه الصلاة والسلام يساعد من وقع تحت هم الدين فيوجهه للحل: فقد دخل ذات يوم المسجد ؛ فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة رضي الله عنه، فقال: «يا أبا أمامة مالي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟»، قال: هموم لزمتني و وديون يا رسول الله، قال: «أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟ » قلت: بلى يا رسول الله قال: «قل إذا أصبحت و إذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعو بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال»، قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل همي، وقضى عني دَيني (رواه أبو داود، قال الشوكاني: لا مطعن في إسناد هذا الحديث تحفة الذاكرين).
- وكان عليه الصلاة والسلام يطيب نفوس المهمومين والمظلمين منهم:
فلما قال المنافق عبد الله بن أُبي لأصحابه: " لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ " [المنافقون:8] وسمعه زيد ابن أرقم رضي الله عنه فأخبر عمه ؛ فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل لابن أُبي؛ فحلف وجحد، قال زيد رضي الله عنه: فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذَّبني... فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد... فينما أنا أسير... قد خفقت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فعرك أذني وضحك في وجهي ؛ فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا (رواه الترمذي (3313) وصححه الألباني ).
أنواع المنكسرين، وكيف نطيب خواطرهم؟
واحتياج الناس اليوم إلى الكلمة الحانية، والمواساة الكريمة، والخدمة الطيبة، والسعي في قضاء حوائجهم، أمر ضروري ومهم، وبالذات في هذا العصر الذي كثر فيه الكلام، وقل فيه العمل، وظهر فيه الشح والأثرة، وتعانق فيه الفقر والجهل.
ومن الخطأ الجسيم أن يغفل أهل الصلاح والخير عن خواطر المستضعفين وأهل الابتلاء، ويهمشوا قضايا الناس واحتياجاتهم اليومية.
فليس من الفضول أن تُؤسس الجمعيات التي ترعى العجزة والأرامل والأيتام، وليس من العبث أن نسعى في حاجات الفقراء، والمستضعفين، والمرضى، والمنكوبين.
وأصحاب العقول المنكسرة اليوم أنواع: فمنهم الفقراء والأرامل والأيتام ففي صلتهم تطييبٌ لخاطرهم وجبرٌ لمصابهم:
(كانت لأبي بَرْزَة جَفنة [أي: قصعة] من ثَريد غدوة، و جَفنة عشية، للأرامل واليتامى والمساكين) (سير أعلام النبلاء ) (وكان صاحب المغرب المنصور يجمع الأيتام في العام، فيأمر للصبي بدينار وثوب ورغيف ورمانة) (سير أعلام النبلاء ).. وهذا القاضي محمد بن علي المرْوَزيُّ (عُرِفَ بالخياط ؛ لأنه كان يخيط بالليل للأيتام والمساكين، وَيَعُدُّهَا صدقة) (سير أعلام النبلاء ) وهذا أحمد بن علي الرفاعي (كان يجمع الحطب، ويجئ به إلى بيوت الأرامل، ويملأ لهم بالجرَّة) (سير أعلام النبلاء ).
وممن يحتاجون إلى تطيب خواطرهم اليوم أهل المصائب والابتلاءات:
وذلك بتصبيرهم على مصيبتهم، والتخفيف من معاناتهم وأحزانهم، بالكلمة الطيبة، والفعل الحسن، فعندما صُلب عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما في مكة قيل لابن عمر رضي الله عنهما: إن أسماء في ناحية المسجد، فما كان منه عندما سمع ذلك إلا أن ذهب مسرعاً يواسيها، ويطيب نفسها على ابنها. فيقول لها: (إن هذه الجثث ليست بشئ، وإنما الأرواح عند الله: فاتقي الله واصبري) (سير أعلام النبلاء ) وسمع إبراهيم بن محمد بن طلحة، أن عروة بن الزبير قد قطعت رجله ؛ فذهب إليه يواسيه، فقال له: (والله ما بك حاجة إلى المشي، ولا أرب في السعي، وقد تقدمك عضو من أعضائك، وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع للبعض إن شاء الله، وقد أبقى الله لنا منك ماكنا إليه فقراء، من علمك ورأيك، والله ولي ثوابك والضمين بحسابك) (سير أعلام النبلاء ).
قال قتيبة بن سعيد رحمه الله: (لما احترقت كتب ابن لهيعة، بعث إليه الليث بن سعد من الغد بألف دينار) (سير أعلام النبلاء ).
وممن تشتد الحاجة إلى مواساتهم أيضاً عوائل الأسرى: وذلك بالتواصل معهم بالزيارة، وكفالتهم، وحسن رعايتهم، لإعفافهم عن السؤال، وحفظهم من الابتزاز ؛ فكم تهون على الأسير مصيبته، حين تقر عينه بصيانة ذريته.
ومما تشد الحاجة إليه في زماننا، تطيب خواطر الخدم وجبر نفوسهم: فبعض هؤلاء ترك الأهل والأوطان، متغرباً، يبحث عن لقمة العيش وأسباب الرزق، فيحتاجون منا الوقوف إلى جانبهم، ومواساتهم، وتطييب نفوسهم.
قال أحمد بن عبد الحميد الحارثي رحمه الله: " مارأيت أحسن خُلقاً من الحسن اللؤلؤي ! كان يكسو مماليكه كما يكسو نفسه " (سير أعلام النبلاء ).
بل إن هذا الأدب الإسلامي مطلوب حتى مع الأعداء !! يقول ابن القيم رحمه الله: " جئت يوماً مبشراً لابن تميمة بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه،ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له " (مدارج السالكين ).
مختارات