" من كلام العلماء 2 "
* قال محمود بن والان: سمعت عبد الرحمن بن بشر، سمعت ابن عيينة يقول: «غضب الله داء ولا دواء له» قلت: والكلام للذهبي – دواؤه كثرة الاستغفار بالأسحار والتوبة النصوح (سير أعلام النبلاء).
* قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يومًا: سئل بعض أهل العلم أيما أنفع للعبد: التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيًا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإن كان دنسًا فالصابون والماء الحار أنفع له، فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسه؟ ومن هذا الباب أن سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث والطلاق والخلع والعدد ونحوها بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص، ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه كانت أفضل من كل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛ لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء، فهذا أصل نافع جدا يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها؛ لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها؛ فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، وينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها إن كان ذلك وقته؛ فتفوته مصلحته بالكلية لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثوابا وأعظم أجرا، وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال، وتفاوتها، ومقاصدها، وفقه في إعطاء كل عمل منها حقه وتنزله في مرتبته وتفويته لما هو أهم منه أو تفويت ما هو أولى منه وأفضل لإمكان تداركه والعود إليه وهذا المفضول إن فات لا يمكن تداركه فالاشتغال به أولى، وهذا كترك القراءة لرد السلام وتشميت العاطس وإن كان القرآن أفضل؛ لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول والعود إلى الفاضل؛ بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة فاتته مصلحة رد السلام وتشميت العاطس وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت والله تعالى الموفق (الوابل الصيب).
* وقال رحمه الله تعالى: إن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسك؛ فمن أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجوء إلى الله تعالى والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده؛ فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين لا يمكنه أن يسير إلا بهما؛ فمتى فاته واحد منهما؛ فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل، وهذا معنى قوله في الحديث الصحيح من حديث بريدة رضى الله عنه: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»؛ فجمع في قوله: «أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي» مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل؛ فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلسًا، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو: الإفلاس؛ فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقامًا ولا سببًا يتعلق به ولا وسيلة مِنْهُ يَمُنُّ بها؛ بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع، وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود إلى الله تعالى عليه ويتداركه برحمته.
ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى، والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها؛ حب كامل، وذل تام، ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين؛ وهما مشاهدة المنة التي تورث الذل التام، وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غرة وغيلة، وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته(الوابل الصيب).
* وقال أيضًا: ولهذا أمر الله سبحانه رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم وهو طاعته، وهو المقدمة الأولى، وأمر بانتظار وعده وهو المقدمة الثانية، وأمر بالاستغفار والصبر؛ لأن العبد لابد أن يحصل له نوع تقصير وسرف يزيله الاستغفار ولابد في انتظار الوعد من الصبر؛ فبالاستغفار تتم الطاعة، وبالصبر يتم اليقين بالوعد؛ وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55] (إغاثة اللهفان).
* وقال أيضًا: وأما تأثير الاستغفار في دفع الهم والغم والضيق فلما اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة: أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم والخوف والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب؛ حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم وسئمتها نفوسهم ارتكبوها دفعًا لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم؛ كما قال شيخ الفسوق:
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار (الطب النبوي).
* وسأل رجل ابن الجوزي رحمه الله تعالى: أيما أفضل: أسبح أو أستغفر؟ قال: الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور (سير أعلام النبلاء).
* واستطال رجل على أبي معاوية الأسود رحمه الله تعالى فقال: أستغفر الله من الذنب الذي سلطت به علي (عيون الأخيار).
* قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ويأس الإنسان أن يصل إلى ما يحبه الله ويرضاه من معرفته وتوحيده كبيرة من الكبائر؛ بل عليه أن يرجو ذلك ويطمع فيه؛ لكن من رجا شيئًا طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه، وإذا اجتهد واستعان بالله تعالى ولازم الاستغفار والاجتهاد فلابد أن يؤتيه الله من فضله ما لم يخطر ببال، وإذا رأى أنه لا ينشرح صدره ولا يحصل له حلاوة الإيمان ونور الهداية فليكثر التوبة والاستغفار وليلازم الاجتهاد بحسب الإمكان؛ فإن الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وعليه بإقامة الفرائض ظاهرًا وباطنًا ولزوم الصراط المستقيم مستعينًا بالله متبرئًا من الحول والقوة إلا به؛ ففي الجملة ليس لأحد أن ييأس بل عليه أن يرجو رحمة الله، كما أنه ليس له أن لا ييأس؛ بل عليه أن يخاف عذابه؛ قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57](الفتاوى).
* قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الباب الرابع عشر في مفتاح الجنة... وفي المسند من حديث معاذ ابن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على باب من أبواب الجنة»، قلت: بلى، قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله» وقد جعل الله سبحانه لكل مطلوب مفتاحًا يفتح به؛ فجعل مفتاح الصلاة الطهور؛ كما قال: مفتاح الصلاة الطهارة، ومفتاح الحج الإحرام، ومفتاح البر الصدق، ومفتاح الجنة التوحيد، ومفتاح العلم حسن السؤال وحسن الإصغار، ومفتاح النصر والظفر الصبر، ومفتاح المزيد الشكر، ومفتاح الولاية المحبة والذكر، ومفتاح الفلاح التقوى، ومفتاح التوفيق الرغبة والرهبة، ومفتاح الإجابة الدعاء، ومفتاح الرغبة في الآخرة الزهد في الدنيا، ومفتاح الإيمان التفكر فيما دعا الله عباده إلى التفكر فيه، ومفتاح الدخول على الله إسلام القلب وسلامته له والإخلاص له في الحب والبغض والفعل والترك، ومفتاح حياة القلب تدبر القرآن والتضرع بالأسحار وترك الذنوب، ومفتاح حصول الرحمة الإحسان في عبادة الخالق والسعي في نفع عبيده، ومفتاح الرزق السعي مع الاستغفار والتقوى، ومفتاح العز طاعة الله ورسوله، ومفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل، ومفتاح كل خير الرغبة في الله والدار الآخرة، ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل، وهذا باب عظيم من أنفع أبواب العلم وهو: معرفة مفاتيح الخير والشر، لا يوفق لمعرفته ومراعاته إلا من عظم حظه وتوفيقه، فإن الله سبحانه وتعالى جعل لكل خير وشر مفتاحًا وبابًا يدخل منه إليه (حادي الأرواح).
* وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى: الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب ومن العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل؛ فإن العابد لله والعارف بالله في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة يزداد عملًا بالله وبصيرة في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقها؛ فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد؛ لما فيه من المصالح وجلب الخيرات ودفع المضرات وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية، وقد ثبتت دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد واقترانها بشهادة أن لا إله إلا الله من أولهم إلى آخرهم ومن آخرهم إلى أولهم ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد والاستغفار للخلق كلهم وهم فيها درجات عند الله ولكل عامل مقام معلوم؛ فشهادة أن لا إله إلا الله بصدق ويقين تذهب الشرك كله دقه وجله خطأه وعمده أوله وآخره وسره وعلانيته، وتأتي على جميع صفاته وخفاياه ودقائقه، والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته ويمحو الذنب الذي هو من شعب الشرك؛ فإن الذنوب كلها من شعب الشرك فالتوحيد يذهب أصل الشرك والاستغفار يمحو فروعه فأبلغ الثناء قول: لا إله إلا الله، وأبلغ الدعاء قول: أستغفر الله.
وقال: التوبة من أعظم الحسنات والحسنات كلها مشروط فيها الإخلاص لله وموافقة أمره باتباع رسوله والاستغفار من أكبر الحسنات، وبابه واسع فمن أحس بتقصير في قوله أو عمله أو حاله أو رزقه أو تقلب قلبٍ فعليه بالتوحيد والاستغفار؛ ففيهما الشفاء إذا كانا بصدق وإخلاص، وكذلك إذا وجد العبد تقصيرًا في حقوق القرابة والأهل والأولاد والجيران والإخوان فعليه بالدعاء لهم.
وسئل رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أصرَّ من استغفر وإن عاد في اليوم والليلة سبعين مرة» هل المراد ذكر الاستغفار باللفظ، أو أنه إذا استغفر ينوى بالقلب أن لا يعود إلى الذنب، وهل إذا تاب من الذنب وعزم بالقلب أن لا يعود إليه وأقام مدة ثم وقع فيه أفيكون ذلك الذنب القديم يضاف إلى الثاني أو يكون مغفورًا بالتوبة المتقدمة...؟
فأجاب: الحمد لله؛ بل المراد الاستغفار بالقلب مع اللسان فإن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» كما في الحديث الآخر «لا كبيرة في الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار»؛ فإذا أصر على الصغيرة صارت كبيرة، وإذا تاب منها غفرت؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الآية، وإذا تاب توبة صحيحة غفرت ذنوبه؛ فإن عاد إلى الذنب فعليه أن يتوب أيضًا وإذا تاب قبل الله توبته أيضًا (الفتاوى).
* قال ابن القيم - رحمه الله تعالى: فصل- وأما الاستغفار فهو نوعان: مفرد، ومقرون بالتوبة؛ فالمفرد كقول نوح عليه السلام لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10، 11]، وكقول صالح لقومه: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46]، وكقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
والمقرون كقوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]، وقول هود لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52]، وقول صالح لقومه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]، وقول شعيب: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]؛ فالاستغفار المفرد كالتوبة بل هو التوبة بعينها مع تضمنه طلب المغفرة من الله وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره، لا كما ظنه بعض الناس أنها الستر؛ فإن الله يستر على من يغفر له ومن لا يغفر له؛ ولكن الستر لازم مسماها أو جزؤه؛ فدلالتها عليها إما بالتضمن وإما باللزوم، وحقيقتها وقاية شر الذنب، ومنه " المغْفر " لما يقي الرأس من لأذى والستر لازم لهذا المعنى وإلا فالعمامة لا تسمى " مغْفرًا " ولا القبع ونحوه مع ستره فلا بد في لفظ المغفر من الوقاية.
وهذا الاستغفار هو الذي يمنع العذاب في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]؛ فإن الله لا يعذب مستغفرًا (مدارج السالكين).
* قال الإمام الذهبي - رحمه الله تعالى - قلت: الطريقة المثلى هي المحمدية، وهو الأخذ من الطيبات، وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51].
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء، وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني»؛ فلم يشعر لنا الرهبانية، ولا التمزق ولا الوصال بل ولا صوم الدهر، ودين الإسلام يسر وحنيقية سمحة، فليأكل المسلم من الطيب إذا أمكنه، كما قال تعالى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، وقد كان النساء أحب شيء إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وكذلك اللحم، والحلوى، والعسل، والشراب الحلو البارد، والمسك، وهو أفضل الخلق وأحبهم إلى الله تعالى، ثم العابد العري من العلم، متى زهد وتبتل وجاع، وخلا بنفسه، وترك اللحم والثمار، واقتصر على الدقة والكسرة، صفت حواسه ولطفت، ولازمته خطرات النفس، وسمع خطابًا يتولد من الجوع والسهر، لا وجود لذلك الخطاب والله في الخارج، وولج الشيطان في باطنه وخرج، فيعتقد أنه قد وصل، وخوطب وارتقى، فيتمكن منه الشيطان، ويوسوس له، فينظر إلى المؤمنين بعين الازدراء، ويتذكر ذنوبهم، وينظر إلى نفسه بعين الكمال، وربما آل به الأمر إلى أن يعتقد أنه ولي، صاحب كرامات وتمكن، وربما حصل له شك، وتزلزل إيمانه؛ فالخلوة والجوع أبوجاد الترهب، وليس ذلك من شريعتنا في شيء؛ بلى السلوك الكامل هو الورع في القوت، والورع في المنطق، وحفظ اللسان، وملازمة الذكر، وترك مخالطة العامة، والبكاء على الخطيئة، والتلاوة بالترتيل والتدبر، ومقت النفس وذمها في ذات الله، والإكثار من الصوم المشروع، ودوام التهجد، والتواضع للمسلمين، وصلة الرحم، والسماحة وكثرة البشر، والإنفاق مع الخصاصة، وقول الحق المر برفق وتؤدة، والأمر بالعرف، والأخذ بالعفو، والإعراض عن الجاهلين، والرباط بالثغر، وجهاد العدو، وحج البيت، وتناول الطيبات في الأحايين، وكثرة الاستغفار في السحر. فهذه شمائل الأولياء، وصفات المحمديين، أماتنا الله على محبتهم (سير أعلام النبلاء).
* عن محمد بن المنكدر، عن أنس مرفوعًا: «إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد وجلاؤها الاستغفار»(ميزان الاعتدال).
* ذكر محمد بن مسرور عن أبيه قال: سمعت سليمان بن أسود القاضي يقول: قد برز الناس للاستسقاء في بعض أيام سعيد بن سليمان، فلما ابتدأ خنقته العبرة، وأشكلت عليه الخطبة، فاختصرها، وكثر من الاستغفار، والضراعة، ثم صلى، وانصرف، فسقى الناس ليومهم (المقتبس من أنباء الأندلس).
* قال أعرابي: من أقام بأرضنا فليكثر من الاستغفار، فإن مع الاستغفار القطار (عيون الأخبار).
* قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: عجبت لمن يهلك والنجاة معه. قيل: وما هي: قال الاستغفار (عيون الأخبار).
* حدث يزيد بن أبي عطاء أنه سمع عمر بن عبد العزيز وهو يخطب الناس على المنبر في خلافته يقول: يا أيها الناس، من ألم بذنب فليستغفر الله وليتب إليه؛ فإنما الهلاك في الإضراب عن الاستغفار؛ فإني قد علمت أن الله قد وصف في رقاب أقوام خطايا قبل أن يخلقهم لابد لهم أن يعملوا بها فمن ألم بذنب فليستغفر الله وليتب إليه (مختصر تاريخ دمشق).
* عن سفيان الثوري قال: قال الربيع بن خيثم: داء البدن الذنوب ودواؤها الاستغفار وشفاؤها ألا تذنب في الدنيا (بغية الطلب في تاريخ حلب).
* وقال أبو عبد الله جعفر الصادق رضى الله عنه: «من استبطأ رزقه فليكثر من الاستغفار»(الطبقات الكبرى للشعراني).
* وقال وكيع بن الجراح رحمه الله تعالى: طريق الله بضاعة لا يرتفع فيها إلا صادق، وكان إذا آذاه شخص يرفع التراب على رأس نفسه، ويقول: لولا ذنبي ما سلطت هذا علي، ثم يكثر من الاستغفار حتى يسكن ذلك المؤذي عنه (الطبقات الكبرى للشعراني).
* عن علي بن ربيعة قال: جعلني علي خلفه ثم سار بي في جبانة ثم رفع رأسه إلى السماء ثم قال: اللهم اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب أحد غيرك، ثم التفت إلي فضحك؛ قال: جعلني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ثم سار بي في جانب الحرة ثم رفع رأسه إلى السماء ثم قال: «اللهم اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب أحد غيرك» ثم التفت إليَّ فضحك فقلت: يا رسول الله، استغفارك ربك والتفاتك إليَّ تضحك؟ قال: «ضحكت لضحك ربك لعجبه لعبده أنه يعلم أنه لا يغفر الذنوب أحد غيره» (المطالب العالية للحافظ ابن حجر العسقلاني).
* قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «... بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول الأطباء ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله تعالى والتوكل عليه والانطراح والانكسار بين يديه والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب؛ فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه، وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورًا كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية...»(زاد المعاد).
مختارات