نفقات العلاج
نفقات العلاج
والذي دسَّ سم البخل في قلب المريض هو أعدى أعدائه: شيطانه، حيث تسلل إلى القلب على حين غفلة من صاحبه فنفث فيه من سحره، لكن الله مطلع.. رآه ففضحه، وكان فضيحته على رؤوس الأشهاد حيث نُشِرت على صفحات القرآن، ليخلد هذا التحذير فينا إلى قيام الساعة. قال عز وجل: ﴿ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ﴾ [البقرة: 268].
قال مقاتل والكلبي: " كل فحشاء في القرآن فهي الزنا إلا في هذا الموضع فإنها البخل "، ويؤكِّد هذا ابن القيِّم قائلا: " أمَرَه بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش، وهذا إجماع من المفسرين أن الفحشاء هنا: البخل ".
وهذا السم له تركيبة خاصة ومفعول محدد كما هو واضح في الآية، ومن مفعوله أن يُحدِث أثرين خطيرين: أن يصرف العبد عن كل خير ويرغِّبه في كل شر. قال ابن القيِّم: " وهذان الأمران هما جِماع ما يطلبه الشيطان من الإنسان، فإنه إذا خوَّفه من فعل الخير تركه، وإذا أمره بالفحشاء وزيَّنها له ارتكبها ".
إن خوف الفقر هو أول حلقة في سلسلة طويلة يجر بعضها بعضا، وهو داء يفتح على صاحبه عشرات الأدواء ودوامة الشقاء، لذا كان سفيان الثوري يقول:
" إياكم وخوف الفقر، فإنه ليس للشيطان سلاح يقاتل به ابن آدم أشدَّ من خوفه الفقر، لأنه إذا خاف الفقر أخذ من الباطل، ومنع من الحق، وتكلم بالهوى، وظن بربه سوء الظن، فلقي كل سوء ".
قصة وعبرة
يا حارس نعمته وخازن ورثته، ألا تعلم أنه:
قد يجمع المال غير آكله ويأكل المال غير من جمعه
واسمع لتعرف صدق ما أقول:
قال فرقد: دخلنا على الحسن [ت: 110] فقلنا: يا أبا سعيد! ألا يعجبك مِن محمد بن الأهتم؟ فقال: ماله؟ فقلنا: دخلنا عليه أنفا وهو يجود بنفسه، فقال: انظروا إلى ذاك الصندوق - و أومأ إلى صندوق في جانب بيته – فقال: هذا الصندوق فيه ثمانون ألف دينار أو قال درهم لم أؤدِّ منها زكاة، ولم أصل منها رحما، ولم يأكل منها محتاج، فقلنا: يا أبا عبد الله.. فلمن كنت تجمعها؟! قال: لروعة الزمان، ومكاثرة الأقران، وجفوة السلطان.
فقال الحسن: انظروا من أين أتاه شيطانه فخوَّفه روعة زمانه، ومكاثرة أقرانه، وجفوة سلطانه؟ ثم وجَّه إليك الخطاب قائلا:
أيها الوارث! لا تُخْدَعنَّ كما خُدِع صاحبك بالأمس، جاءك هذا المال لم تتعب لك فيه يمين، ولم يعرق لك فيه جبين، جاءك ممن كان له جموعاً منوعاً، من باطل جمعه، من حق منعه، ثم قال: إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال ثم يموت ويدعه لغيره، فيرزقه الله فيه الصلاح والإنفاق في وجوه البِر، فيجد ماله في ميزان غيره!!
وما تزوَّدَ مما كان يَجمعه إلا حنوطا غداةَ البين معْ خِرَقِ
وغيرَ نفحةِ أعوادٍ تُشدُّ به وقلَّ ذلك مِن زادٍ لمنطلــقِ
إنها ليست مصيبة واحدة أن يفقد الإنسان ما جمعه بالموت، بل مصيبتان ومصيبتان عظيمتان. قال يحيى بن معاذ: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلها في ماله عند موته. قيل: ما هما؟! قال: " يُؤخذ منه كله، ويُسأل عنه كله ".
أخي.. ما زال يصرخ فيك الصارخ: ما حكَّ جلدك مثل ظفرك، فتولَّ أنت جميع أمرك، ولماذا تترك نفسك فريسة لأهلك ينفقون بالنيابة عنك من مالك بعد موتك، يتصدقون أو يغفلون، يُرسلون إليك من مالك أو به يشتغلون وعليه يقتتلون، من هنا حسم ميمون بن مهران الموازنة قائلا: " لأن أتصدَّق بدرهم في حياتي أحب اليَّ من أن يُتصَدَّق عني بعد موتي بمائة درهم ".
إن المال نعمة من الله إما أن نقضي بها الحياة الزائلة هنا أو نبني بها الحياة الدائمة هناك، ومن هنا حرص الأذكياء على تحويل المال من نعمة مؤقتة زائلة إلى نعمة دائمة باقية، وليس ذاك إلا بإنفاقه، ولقد أحسن أبو العباس أحمد بن مروان يصف كل جامع لورثته بخيل على نفسه:
وذو حرص تراه يلُمُّ وفرا لوارثه ويدفع عن حماه
ككلب الصيد يمسك وهو طاوٍ فريسته ليأكلها سواه
البخلاء يختنقون
وعلى الضد من ذلك يكون حال البخيل ؛ فإن هو همَّ يوما بالصدقة ضاق صدره وانقبضت يده، خوفا من نقص المال بعد أن صار جمعه كل همه وغايته، يقول ابن القيم وهو يصف بركات الإحسان ومضاعفات داء البخل في دقة واقتدار:
" فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرا، وأطيبهم نفسا، وأنعمهم قلبا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرا، وأنكدهم عيشا، وأعظمهم هما وغما ".
وقد ضرب النبي لذلك مثلا من أبلغ ما يكون فقال:
« مثل البخيل والمُتصدِّق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثُدِيِّهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق شيئا إلا سبغت على جلده حتى تُخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن يُنفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع ».
وهذا مثل رائع غزير الفوائد ضربه النبي للبخيل والمتصدق، فشبَّههما برجلين أراد كل منهما أن يلبس درعا يستتر به من عدوه، والدرع أول ما يقع على الصدر والثديين إلى أن يُدخِل الإنسان يديه في كميها، فجعل المنفق كمن لبس درعا فهي تتسع عليه كلما أنفق وتظل تتسع حتى تستر جميع بدنه بل وتصل إلى الأرض حتى تمحو أثار أقدامه من ورائه حين يمشي، بعكس البخيل فهو كمثل رجل غُلَّت يداه إلى عنقه، وكلما أراد لبس الدرع اجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته.
والمراد: أن الجواد إذا همَّ بالصدقة انشرح لها صدره وطابت بها نفسه، فتوسع في الإنفاق حتى صار عنده عادة لا يستطيع الانقطاع عنها، والمراد كذلك أنها تستر عوراته في الدنيا والآخرة كما يستر هذا الثوب السابغ جسد من يلبسه، وأن الصدقة تمحو خطايا صاحبها كما يمحو الثوب الطويل آثار أقدام لابسه إذا مشى.
والبخيل بعكس هذا كله ضيِّق الصدر إذا حدَّث نفسه بالصدقة شحَّ وانقبضت يداه، وقد اعتاد إمساك المال فصار له عادة لا فكاك منها، مفضوح ببخله بين الناس لا يستره شيء كمن لبس جبة إلى ثدييه، فبقي مكشوف العورة مفتضحا في الدنيا والآخرة.
أخي.. احذر مالك.. أنفقه وإلا أسرك.. أخرجه من عندك وإلا استعبدك.. أدرك قلبك منه قبل أن يصيبه بالجشع.
إذا المرء لم يُعتِق من المال نفسه تملَّكه المال الذي هو مالكه
ألا إنما مالي الذي أنا منفق وليس لي المال الذي أنا تاركه
إذا كنتَ ذا مال فبادر به الذي يحق وإلا استهلكته مهالكه
معلِّم نبي وشارح وفي
والمعلِّم وسيد المعلِّمين هو النبي يضرب لنا المثل الثاني تأكيدا وتعليما وتوضيحا وتبيينا، حتى لا يعود لأحد منا حجة أو ذريعة. قال :
« إنما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها، إنه لا يأتي الخير بالشر، أن مما يُنبِت الربيع يقتل حَبَطا أو يُلِمُّ إلا آكلة الخَضِر، فإنها أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت وبالت، ثم رتعت ».
والتلميذ هو ابن قيم الجوزية الذي بدأ شرحه لهذا الحديث على صفحات كتابه إغاثة اللهفان فقال:
" أخبر أنه إنما يخاف عليهم الدنيا، وسمَّاها زهرة ؛ فشبهها بالزهر في طيب رائحته وحسن منظره وقلة بقائه، وأن وراءه ثمرًا خيرًا وأبقى منه.
وقوله: « إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يُلِمُّ » من أحسن التمثيل المتضمن للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والمسرة فيها، وذلك أن الماشيه يروقها نبت الربيع فتأكل منه، فربما هلكت حبطا، والحَبَط انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض، فكذلك الشرِه فى المال يقتله شَرَهه وحرصه، فإن لم يقتله قارب أن يقتله وهو قوله: « أو يُلِمُّ »، وكثير من أرباب الأموال إنما قتلتهم أموالهم، فإنهم جمعوها من غير حِلِّها ووضعوها في غير حقها.
وقوله « إلا آكلة الخَضِر »: تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته، مَثَّله بالشاة الآكلة من الخضر بقدر حاجتها، أكلت حتى اذا امتلأت خاصرتاها، وإنما تمتد من امتلائها من الطعام، وثنَّى الخاصرتين لأنهما جانبا البطن.
وفي قوله « استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت »: أنها أعرضت عما يضرها من الشَّره في المرعى، وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها الانتفاع والفائدة، ثم إنها استفرغت بالبول والثَّلط ما جمعته من المرعى في بطنها، فاستراحت بإخراجه ولو بقي فيها لقتلها، وكذلك جامع المال فإنه من مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة وإلا هلك ".
ولذا رُوِي أن رسول الله رأى رجلا بدينا فأشار إلى بطنه وقال: « لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك »، أي لو كنت أنفقت ما أكلت على الفقراء صدقة وفضلا لوقيت نفسك المرض، ولنلت في الجنة الغرض، فإن النعمة إذا أُكِلت صارت بعد قليل إلى المزبلة، وإذا تُصدِّق بها سافرت إلى أعلى عليين.
مضاعفات القوة
1. مفتاح بوابة البر
يا مريض القلب.. دواؤك في الصدقة، وأقسم بالله على ذلك، فإن أبيت إلا كتاب الله تطلب منه الدليل، فأعطني سمعك: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [الليل: 5–7].
والمعنى أي نُيَسِّر له كل خير، ونحبِّب إليه كل طاعة، ونفتح له أبواب المعروف، ونصده عن المنكرات، ويشهد لذلك قوله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، فلابد للدواء حتى يُحدث أثره ويسري مفعوله أن تكون صدقتك من أفضل ما تملك وأكثر ما تحب، وإلا ظللت طريح الفراش خائر الهمة صريع الشيطان، تنوي الطاعة فلا تقدر، وتعزم على الخير فتخونك قواك، وقد حثنا رسول الله على هذا النوع الغالي من الإنفاق فقال:
« أفضل الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ».
لكن ما هو البِرُّ؟!
أجاب ابن القيم:
" فالبر كلمة جامعة لجميع أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد ".
قصة آية
لكن ما قصة هذه الآية: ﴿ لَنْ تَنَالوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وما أثرها في القلوب الحية؟!
حين أدرك الصحابة رضي الله عنهم قيمة هذا الدواء الناجع ؛ جرَّبوه واستعملوه، فكان الواحد منهم إذا ازداد حبه لشيء من ماله بذله لله رجاء نيل البر، فعن أنس بن مالك قال: " كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب امواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: ﴿ لَنْ تَنَالوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله.. إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿ لَنْ تَنَالوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو بِرَّها وذُخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله : بخ!! ذلك مال رابح.. ذلك مال رابح ".
ورأى زيد بن حارثة ما فعله أخوه فغار، وما أربح الغيرة في الطاعات، وما أحبها إلى رب السموات، ذلك أنه لما نزلت: ﴿ لَنْ تَنَالوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال: يا رسول الله.. هذه في سبيل الله، فحمل رسول الله عليها أسامة بن زيد، فكأن زيدا وجد في نفسه، فلما رأى ذلك منه النبي قال: " أما إن الله قد قبلها ".
والمشاهد أن لهذه الآية سرا عجيبا وتأثيرا فريدا وأثرا عظيما لكل من كان له قلب حي ووعي ذكي، لذا لما سمعها الصحابة باعوا أغلى ما يملكون في سبيل نيل ما إليه يطمحون، لكن أين كان الصديق من كل هذا؟! وهل كان غائبا عن شهود هذا الخير مع أفضليته؟! وهل يترك غيره يسبقه دون أن ينافسه؟! كلا والله، فقد كان الإنفاق من أفضل ما يحب المرء علامة متعارفا عليها بين أبناء هذا الجيل، وسجية تفيض بها كتب السير عنهم حتى ذكر عمر بن شبَّة في أخبار المدينة أن دار أبي بكر التي أُذِن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد، ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه، فباعها فاشترتها منه حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم، ولسان حاله:
كأنك في الكتاب وجدت أنَّ (لا) محرمة عليك فلا تحِلُّ
فما تدرى إذا أعطيت مالاً أيكثر في سـماحك أم يقِلُّ
إذا حضر الشتاء فأنت شمس وإن حضر المصيف فأنت ظلُّ
وفارس آخر في الميدان وهو أشد الناس شبها برسول الله كما روت ذلك عنه عائشة رضي الله عنها، وهذا هو عبد الله بن عمر حيث لم يطق صبرا وهو يقرأ هذه الآية في صلاته، فائتمر بأمرها ونفَّذ على الفور ما أرادته الآية وهو داخل الصلاة!! فقد أخرج أحمد في الزهد عن مجاهد قال: " كان ابن عمر قائما يصلي، فأتي على هذه الآية: ﴿ لَنْ تَنَالوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، فأعتق جارية له وهو يصلي قد أراد أن يتزوجها ".
وموقف آخر لكن هذه المرة خارج الصلاة وهو يقرأ نفس الآية العجيبة ؛ وكان راكبا يوما على راحلة عظيمة، فأعجبته فأناخها وجعلها لله تعالى.
وفي موقف ثالث اشترى سكرا وتصدَّق به، وكثيرا ما كان يفعل، فقال له أصحابه: لو اشتريت لهم بثمنه طعاما كان أنفع لهم من هذا، فيقول: " إني أعرف الذي تقولون، ولكن سمعت الله يقول: ﴿ لَنْ تَنَالوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ وابن عمر يحب السكر ".
وفهم التابعون الدرس لأنهم تلاميذ نجباء، ولأن المعلِّم واحد، والكتاب الذي يُستقى منه خالد، فتسلَّموا الراية عن طريق الربيع بن خثيم الذي جاءه سائل يسأل، فخرج إليه في ليلة باردة، فاذا هو كأنه مقرور (من القُرِّ وهو البرد)، فنزع بُرنسا له، فكساه كان يزعم أنه من خزٍّ، فأعطاه إياه، ثم تلا الآية نفسها: ﴿ لَنْ تَنَالوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾.
ومن قبل الربيع كان خامس الخلفاء الراشد عمر بن عبد العزيز، وكان لزوجته فاطمة بنت عبد الملك جارية بارعة الجمال وكان عمر راغبا فيها، وكان قد طلبها منها مراراً فلم تُعطِه إياها، فلما ولي الخلافة زيَّنتها وأرسلتها إليه، فقالت: قد وهبتكها يا أمير المؤمنين لتخدمك، فقال: من أين ملَكتِها؟ قالت: جئت بها من بيت أبي عبد الملك، ففتش كيف تملكها، فقيل: إنه كان على فلان العامل ديون فلما توفي أُخذت من تركته، ففتش عن العامل وأحضر ورثته وأرضاهم جميعًا بإعطاء المال، ثم توجه إلى الجارية -وكان يهواها هوى شديدا- فقال: " أنت حرة لوجه الله تعالى!! ".
ولذا لم يكن غريبا أن يعتبر سعد بن عبادة الصدقة أساس صلاح سائر الأعمال، فيدعو قائلا: اللهم ارزقني مالا أجود به، فإنه لا يُصلِح الفعال إلا المال، ثم أنشد قائلا:
أرى نفسي تتوق إلى فعال فيقصر دون مبلغهن مالي
فلا نفسي تُطاوِعني بِبُخل ولا مالي يبلِّغُني فِعالي
وما هذا إلا لغيرته في الخير وسعيه لينال ما نال إخوته من الفضل، وتسري في قلبه نفس اللذة.. لذة الانتصار على الهوى، ولذة اليقين بموعود الله، ولذة الإيثار الأخوية، ولذة السمو الأخروية، فلله درُّه من صحابي عالي الهمة وسامق العزم.. هتاف نفسه وحديث قلبه:
يا لهْف نفسي على مالٍ أجود به على المقلِّين من أهل المروءات
إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ما ليس عندي لَمِن إحدى المصيبات
2. أخرجها من قلبك أولا:
قال تعالى:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]
قال ابن القيِّم في جلسة تفسير خاصة بهذه الآية:
" فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص والتثبيت عند النفقة ؛ وهو إخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره بإخراجه، وسمحت به نفسه، وخرج من قلبه قبل خروجه من يده، فهو ثابت القلب عند إخراجه غير جزع ولا هلع، ولا متبع نفسه ترجف يده وفؤاده ".
لكن.. لماذا ختم الله الآية بقوله: ﴿ عَلِيمٌ ﴾؟!
والجواب: أي عليم بمكنونات القلوب ومحتويات الضمائر، ومن ثَمَّ عليم بمن يستحق هذه المضاعفة ممن لا يستحق، فلا يظن أحد أن سعة عطاء الله تقتضي وصوله لكل منفق، فإن كان عطاؤه لا يضيق بأحد إلا أنه كذلك ليس لأي أحد، فإنه سبحانه حكيم يضع فضله في مواضعه، ويمنعه من لا يستحق.
احذر: آفتان قلبيتان
قال عز وجل:
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 265]
والآية تشبِّه محسوسا وهو ثمار الزروع بآخر غير مرئي ولا محسوس وهو ثواب المنفق عند الله، فجعل الله الثواب المترتِّب على الصدقة الخالصة من آفتي الرياء والتردد ضِعف الثواب العادي للصدقة كما تشير الآية: ﴿ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ﴾، قال السدي: " كما أضعفت ثمرة تلك الجنة فكذلك تُضاعف ثمرة هذا المنفق ضعفين ".
فلو أن رجلا نال في الجنة قيراطا بصدقته فإن المخلص الذي ما تردَّد له قيراطان، وهي كما ترى ليست سوى أعمال قلوب لكنها ترفع صاحبها إلى أعلى عليين، لذا فهي منازل نادرة وحِكر عليكم أيها الراغبون في التميِّز بالدرجات والتفرُّد بأعلى المقامات.
إن اليد التي تنفق لابد لها من قلب يعمل معها على التوازي، فالصدقة وحدها لا تكفي، بل لا بد أن يصاحبها عمل قلبي حتى تُقبل، وإلا ذهبت أدراج الرياح، وخسر صاحبها ماله دون أن يجد ثوابه، ولذا قال ابن القيِّم معلِّقا على الآية السابقة:
" فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية ؛ إحداهما: طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر المنفقين، والآفة الثانية: ضعف نفسه وتقاعسها وترددها: هل يفعل أم لا، فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة الله، والآفة الثانية تزول بالتثبيت، فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل وهذا هو صدقها، وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده وهذا إخلاصها ".
ومعنى الخلاص من الآفة الثانية أي من ضعف النفس وتقاعسها: أن لا يتردَّد أحدهم أبدا في إنفاق في مجالات الخير، بل إذا نازعته نفسه مثلا أن يخرج ألفا أو ألفين أنفق ألفين، وإذا حدَّثته أن ينفق اليوم أو غدا أنفق اليوم، فما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أعلاهما قدرا وأكثرهما أجرا.
3. البعد عن المَنِّ والأذى
أولا: المَنُّ
والمَنُّ هو تذكير المنعِم المنعَم عليه بإنعامه، وهو أمر يبعث على الحسرة والألم، لأن المنفق بعد جهاد طويل مع نفسه وصراع مرير مع قلبه ؛ قد أحبط عمله بمنِّه وتفضله على غيره وفي طرفة عين.
وعند أبي حامد الغزالي أن القلب هو مصدر هذا البلاء حيث قال رحمه الله: " وعندي أن المَنَّ له أصل ومغرس، وهو من أحوال القلب وصفاته، ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح ".
وبمزيد تفصيل يشرح ابن القيِّم كلام أخيه أبي حامد قائلا:
" فالمَنُّ نوعان أحدهما: منٌّ بقلبه من غير أن يصرِّح به بلسانه، وهذا إن لم يُبطِل الصدقة ؛ فهو من نقصان شهود منة الله عليه في إعطائه المال وحرمان غيره وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه، فلله المنة عليه من كل وجه، فكيف يشهد قلبه مِنَّة لغيره؟!
والنوع الثاني: أن يمُنَّ عليه بلسانه، فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه، ويريه أنه اصطنعه، وأنه أوجب عليه حقا، وطوَّقه مِنَّة في عنقه، فيقول: أما أعطيتك كذا وكذا، ويُعدِّد أياديه عنده. قال سفيان: يقول أعطيتك فما شكرت، وقال عبد الرحمن بن زياد: كان أبي يقول: إذا أعطيتَ رجلا شيئا ورأيتَ أن سلامك يثقل عليه فكفَّ سلامك عنه، وكانوا يقولون: إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها، وإذا أُسدِيت إليكم صنيعة فلا تنسوها: وفي ذلك قيل:
وإن امرأ أهدى إليَّ صنيعة وذكَّرنيها مرة لبخيل
وقيل: صنوان من منح سائله وَمَنَّ ومن منع نائله وضنَّ ".
لكن لماذا حرَّم الله سبحانه على عباده المنَّ؟!
أجاب ابن القيِّم:
" وحظر الله على عباده المَنِّ بالصنيعة، واختص به صفة لنفسه، لأن منَّ العباد تكدير وتعيير، ومَنُّ الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير.
وأيضا فإنه هو المنعم في نفس الأمر، والعباد وسائط، فهو المنعم على عبده في الحقيقة.
وأيضا فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يَمُنُّ عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله.
وأيضا فالمِنَّة أن يشهد المعطي أنه هو رب الفضل والإنعام، وأنه ولي النعمة ومُسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا الله.
وأيضا فالمانُّ بعطائه يشهد نفسه مترفعا على الآخذ مستعليا عليه غنيا عنه عزيزا، ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته، ولا ينبغي ذلك للعبد.
وأيضا فإن المعطي قد تولى الله ثوابه ورد عليه أضعاف ما أعطى، فبقي عوض ما أعطى عند الله، فأي حق بقي له قِبَل الآخذ، فإذا امتنَّ عليه فقد ظلمه ظلما بيِّنا، وادعى أن حقه في قلبه.
ومن هنا والله أعلم بطلت صدقته بالمَنِّ، فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله ؛ وعوض تلك الصدقة عنده، فلم يرض به، ولاحظ العِوض من الآخذ والمعاملة عنه، فمنَّ عليه بما أعطاه أبطل معاوضته مع الله ومعاملته له ".
لكل شيء علامة
وعلامة المَنِّ الظاهرة: التحدث به وإظهاره، وعلامته الباطنة: طلب المكافأة عليه بأي شكل من أشكال الشكر أوالدعاء أو الخدمة أو التوقير والتعظيم أو القيام بالحقوق والحوائج، فهذه كلها من المَنِّ، وقد أشار أبو حامد الغزالي كذلك إلى علامة من علامات المَنِّ ربما لا يفطن لها الكثير من أحياء القلوب وذلك حين سئل: فهل من علامة يمتحن بها قلبه فيعرف بها أنه لم ير نفسه محسنا؟! فأجاب رحمه الله بكلم نادر نفيس:
" فاعلم أن له علامة دقيقة واضحة، وهو أن يُقدِّر أن الفقير لو جنى عليه جناية مثلا ؛ هل كان يزيد في استنكاره واستبعاده له على استنكاره قبل التصدق، فإن زاد لم تَخْلُ صدقته من شائبة المنة، لأنه توقع بسببه ما لم يكن يتوقع قبل ذلك ".
وأشار في موضع آخر إلى علامة أخرى خفية من علامات المَنِّ مرتبطة بالعلاقة التي تربط المنفق بمن مدحه أو ذمه، فقال في ذكره لعلامات الإخلاص:
" وعلاماته أن لا يجد في نفسه استثقالا للذام عند تطويله الجلوس عنده أكثر مما يجده في المادح، وأن لا يجد في نفسه زيادة هزة ونشاط في قضاء حوائج المادح فوق ما يجده في قضاء حاجة الذام، وأن لا يكون انقطاع الذام عن مجلسه أهون عليه من انقطاع المادح، وأن لا يكون موت المادح له أشد نكاية في قلبه من موت الذام، وأن لا يكون غمُّه بمصيبة المادح وما يناله من أعدائه أكثر مما يكون بمصيبة الذام، وأن لا تكون زلة المادح أخف على قلبه وفي عينه من زلة الذام ".
ثانيا: الأذى
قال أبو حامد الغزالي:
" وأما الأذى فظاهره التوبيخ والتعيير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار وفنون الاستخفاف، وباطنه وهو منبعه: أمران ؛ أحدهما: كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه، والثاني: رؤيته أنه خير من الفقير، وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه، وكلاهما منشؤه الجهل ".
أما كراهيته لرفع يده عن المال فهو حمق لأن من كره بذل درهم في مقابل ألف درهم شديد الحمق، ومعلوم أن المتصدِّق يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل والجنة في الآخرة، فضلا عن كون ذلك منه شكرا لنعمة المال مما يستوجب المزيد، وكونه تطهيرا للقلب من آفات الشح والبخل، فأي كراهة لهذا الخير؟!
وأما الثاني وهو رؤيته أنه خير من الفقير ؛ فهو أيضا جهل لأنه لو كان عالما حقا لرأى الفقير محسنا إليه بقبوله حق الله عز وجل منه، وحق الله هو وحده الذي يطهِّر ماله ويدخله الجنة، ولو لم يقبل الفقير صدقة الغني لبقي الغني في الإثم واستحق العقوبة ؛ فقد جعل الله الفقير نائبا عنه سبحانه في قبض حقه تبارك وتعالى، فليدرك كل متصدِّق أنه يؤدي إلى الله حقه بهذه الصدقة، وما الفقير إلا آخذ رزقه من يد الله بعد أن استلمته يد الله من كف الغني، فكيف تؤذي الفقير بعد ذلك بأذاك؟!
ومثال هذا أنك لو كنت مدينا لأحد بمال وبعثت بهذا المال خادمك ليؤديه لصاحبه، فلو مننت على خادمك بعد ذلك بهذا المال لكنت جهولا سفيها، إذ ما هو رسول يؤدِّي الحق إلى صاحبه، وأنت الساعي في سداد الواجب الذي عليك، فكيف تمنُّ به على من عاونك في قضاء حاجتك وبلوغ غايتك؟!
4. الصدقة المتجرِّدة:
قال عز وجل:
﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22].
وقوله: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ ﴾ أي ولا يحلف، والقصة أن أبا بكر الصديق كان يعطف على قريبه ونسيبه مِسْطَح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، ومن فقراء المهاجرين مسكينا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر ، لكنه وقع في عرض عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، فمنع عنه أبو بكر النفقة، وأقيم عليه الحد في ذلك،، فلما نزلت هذه الآية: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ﴾ إلى قوله: ﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾، قال الصديق: بلى والله إنا نحب يا ربنا أن تغفر لنا، ثم أُرجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدا، فقد فهم الصديق من الآية أن الجزاء من جنس العمل، والمعنى: كما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك، وقد شرح الكيلاني صنيع أبي بكر وإنكاره لحظ نفسه، فقال آمرا كل مقتف للأثر طامع في الأجر:
" كن مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس ".
إننا حين نتصدق نعامل الله بصدقاتنا، ونضعها في يده، ولا نبالي أمدح الناس أم ذموا، أشكروا أم كفروا، وإذا ذمك من تصدَّقت عليه، وأساء إليك من أحسنت إليه، فتذكَّر وصية الكيلاني على الفور تربح، فإن هذا علامة إخلاصك ودليل إرادتك بصدقتك وجه الله لا مدح الناس، واطمح بقلبك في نيل شرف قوله : « أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح ».
والكاشح: المبغض المعادي، فإنه طوى كشحه على بغضه وعداوته، وإنها فلسفة هذا الدين الرائع في نزع بذور العداوة وغرس شجر المحبة بدلا منها، وما أجمل ما قال أبو الحسين سراج بن عبد الملك في ذلك ينصحك بالتشبُّه بالغيث:
بُثَّ الصنائع لا تحفل بموقعها من آملٍ شكَرَ الإخوان أو كفرا
فالغيث ليس يبالي أين ما انسكبت منه الغمائم تُربا كان أو حجرا
5. وقت الإنفاق:
عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النِّمار أو العَبَاء متقلِّدي السيوف عامتهم من مُضَر بل كلهم من مُضَر، فتمعَّر وجه رسول الله لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلال فأذَّن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1] والآية التي في الحشر ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18] تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره ؛ حتى قال: ولو بشقِّ تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثبات رأيت وجه رسول الله يتهلل كأنه مَذْهَبَة، فقال رسول الله : « من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها وَوِزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ».
ويشهد لأفضلية وقت الإنفاق قول الله تعالى:
﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ﴾ [الحديد: 10]
وأكثر المفسرين على أن المراد هنا بالفتح: فتح مكة، وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام وقلة المسلمين، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق، والأجر على قدر النصب، وقد قدَّم الله الإنفاق على القتال إيذانا بفضيلة الإنفاق.
فانظر أخي أوقات المحن ونزول البلاء بالأمة وتوالي النكبات عليها، وإذا رزقك الله بجار مكروب، أو صادفت في مسيرة حياتك فقيرا أرهقته الفاقة فاعلم أنها فرصة ثمينة، وردُّ الفرصة التي عرضها الله عليك علامة إعراض منك عن الرب سبحانه، فاعمد إلى مالك وقتها فأخرجه، فإن صدقة كهذه تجعل وجه رسولك يتهلل لك كأنه الذهب، ويُسَرُّ بك بينا هو في قبره ؛ لأنك تنقذ أمته وهو أرحم الناس بأمته، بل وسيتهلل وجهه أكثر يوم أن يلقاك في القيامة على الحوض، وينظر إليك نظرة المبتسم الراضي وهو يسقيك بيده الشربة المباركة التي تُبيد الظمأ إلى الأبد.
6. عشرة من عشرة:
قال ابن القيِّم محصيا أنواع الجود:
" و الجود عشر مراتب:
أحدها: الجود بالنفس وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر:
يجود بالنفس إذ ضنَّ البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
الثانية: الجود بالرياسة، وهو ثاني مراتب الجود، فيحمل الجواد جوده على امتهان رياسته والجود بها، والإيثار في قضاء حاجات الملتمس.
الثالثة: الجود براحته ورفاهيته وإجمام نفسه فيجود بها تعبا وكدا في مصلحة غيره، ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامره ؛ كما قيل:
متيَّم بالندى لو قال سائله هب لي جميع كرى عينيك لم ينَمِ
الرابعة: الجود بالعلم وبذله، وهو من أعلى مراتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال ؛ لأن العلم أشرف من المال، ومن الجود به: أن تبذله لمن يسألك عنه بل تطرحه عليه طرحا، ومن الجود بالعلم: أن السائل إذا سألك عن مسألة: استقصيت له جوابها جوابا شافيا لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة ؛ كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا نعم أو لا مقتصرا عليها، ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في ذلك أمرا عجيبا: كان إذا سئل عن مسألة حكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم: أعظم من فرحه بمسألته، فمن جود الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألة السائل بل يذكر له نظائرها ومتعلقها ومأخذها بحيث يشفيه ويكفيه، وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي عن المتوضىء بماء البحر فقال: « هو الطهور ماؤه الحِلُّ ميتته »، فأجابهم عن سؤالهم، وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه.
الخامسة: الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه، وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد كما أن التعليم وبذل العلم زكاته.
السادسة: الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه كما قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين اثنين: صدقة، ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه: صدقة، والكلمة الطيبة: صدقة، وبكل خطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة: صدقة، ويميط الأذى عن الطريق: صدقة.
السابعة: الجود بالعرض كجود أبي ضمضم من الصحابة كان إذا أصبح قال: اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني: فهو في حِلٍّ، فقال النبي : « من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم »، وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه.
الثامنة: الجود بالصبر والاحتمال والإغضاء، وهذه مرتبة شريفة من مراتبه، وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال وأعز له وأنصر وأملك لنفسه وأشرف لها، ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار، فمن صعب عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود، فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا قبل الآخرة، وهذا جود الفتوة. قال تعالى: ﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ﴾ [المائدة: 45]، وفي هذا الجود قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40] فذكر المقامات الثلاثة في هذه الآية: مقام العدل وأذِن فيه، ومقام الفضل ونَدَب إليه، ومقام الظلم وحَرَّمه.
التاسعة: الجود بالخُلُق والبشر والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر والاحتمال والعفو، وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان. قال النبي : « لا تحقرنَّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه »، وفي هذا الجود من المنافع والمسار وأنواع المصالح ما فيه، والعبد لا يمكنه أن يسع الناس بحاله، ويمكنه أن يسعهم بخلقه واحتماله.
العاشرة: الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرض له بحاله ولا لسانه، وهذا الذي قال عبدالله ابن المبارك: إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل، فلسان حال القدر يقول للفقير الجواد: وإن لم أُعطك ما تجود به على الناس، فجُد عليهم بزهدك في أموالهم وما في أيديهم تفضل عليهم وتزاحمهم في الجود، وتنفرد عنهم بالراحة ".
وإذا أراد منفق أن يسبق منفقا فلينفق عشرة نفقات من هذه العشرة ليسبق من حقق سبعة أو خمسة أو أقل من ذلك، وبذا يتضاعف أثر الصدقة إلى ما لا يتصوره عقل مريض أو طبيب.
مختارات