فقه حقيقة العبودية (٤)
والعبد إنما يفخر ويعتز بمالكه وسيده ومولاه كما قال إبراهيم للنمرود: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)} [البقرة: ٢٥٨].
والحر يفتخر ويعتز بما يملك من الأموال والأشياء.
وماذا يملك الإنسان.
وماذا بيده.
وماذا يملك الرب.
؟: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)} [المائدة: ١٢٠].
ولا يكون العبد عبداً لله حقاً حتى يكون مما سوى الله تعالى حراً، فإنه لا يكون عبداً لله خالصاً حتى لا يكون عبداً لما سواه.
فإذا كان يرضيه ويسخطه غير الله فهو عبد لذلك الغير، وفيه من الشرك بقدر محبته له، وعبادته لذلك الغير زيادة.
ومن عرف ربه، وعرف جلاله وجماله وكماله، وجد لذة عبادته، وطاب له الاشتغال بها، وثقل عليه الاشتغال بغيرها لوجوه:
أحدها: أن الكمال محبوب بالذات، وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بعبادة ربه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فإنه يستنير قلبه بنور الإلهية، ويتشرف لسانه بشرف ذكر الله، وتتجمل أعضاؤه بجمال سنن الله.
الثاني: أن العبادة أمانة، وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً، وأداء الأمانة من أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني، فمن حفظ أوامر الله وحدوده حفظه الله وأكرمه، ومن أضاع أوامر الله وحدوده أهلكه الله وأهانه.
الثالث: أن الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور، ومن الاشتغال بالخلق إلى الاشتغال بطاعة الحق، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة.
والله تبارك وتعالى هو الملك الحق المبين، وكل ما سواه عبد مملوك، والله سبحانه بيده كل شيء، وما سواه ليس بيده شيء كما قال عزَّ وجلَّ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)} [الأعراف: ٥٤].
والناس في العبودية قسمان:
الأول: عبيد الطاعة، وهم أهل الإيمان، والعبيد ليس لهم إلا باب سيدهم، يسألونه من فضله وإحسانه، ويلوذون به ويستعينون به، وإضافتهم إليه كإضافة البيت الحرام إليه كما قال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (٦٣)} [الفرقان: ٦٣].
الثاني: عبيد القهر والربوبية، وإضافتهم إليه كإضافة سائر المخلوقات إليه، وهذه العبودية يدخل فيها عموم الخلق كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣)} [مريم: ٩٣].
وعبادة الله عزَّ وجلَّ تقوم على أصلين:
المحبة.
والخوف.
فبالمحبة يكون امتثال الأمر.
وبالخوف يكون اجتناب النهي.
وينبغي أن يكون خوف العبد ورجاؤه سواء، فأيهما غلب هلك صاحبه، وعند الموت يُغلِّب جانب الرجاء على الخوف.
والله حكيم عليم، وله في خلقه شئون، ولا يقع في الكون شيء إلا بإذنه.
ومن سنة الله التي لا تتخلف أنه سبحانه كما أودع الماء حكمته في إزالة أوساخ الجسم به، وجعل ذلك سنة لا تتبدل، فكذلك أودع ما شرعه من أقوال العبادة وأفعالها حكمته التي تطهر النفس وتزيل عنها أدرانها.
فكما يزيل الماء الوسخ الظاهر، فكذلك العبادة تزيل الدرن الباطن، وكلاهما موضوع للتطهير، سنة الله التي لا تتبدل، وهو الحكيم الخبير: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٢٣)} [الفتح: ٢٣].
وكما أن الماء إذا لم يحسن الإنسان استعماله في غسل الأجسام والأشياء فإنه لا يؤثر في تطهيرها، لا سيما إذا خالطه شيء لا يتلاءم مع طبيعته، فكذلك العبادة إذا أداها العبد أداءً ناقصاً، أو لابسها شرك أو رياء، فإنها تفقد خاصيتها بالتطهير والتزكية للروح، ومن ثم لا تقبل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)} [الكهف: ١١٠].
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق توحيداً وإيماناً، وأكملهم عبودية لله، وأكملهم محبة له، وأكملهم افتقاراً إليه، وأكملهم توبة واستغفاراً لله عزَّ وجلَّ.
فهو أفضل الخلق عند الله، وأكرمهم منزلة، وهو سيد ولد آدم، والخير كله من الله، والخلق كله لله، والأمر كله لله، وليس للمخلوق منه شيء، بل المخلوق فقير إلى الله من كل وجه، والله غني عنه من كل وجه، محسن إليه من كل وجه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)} [فاطر: ١٥].
وقال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣)} [النحل: ٥٣].
والعبد إذا أصبح أو أمسى وليس همه إلا الله وحده تحمَّل الله عنه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه.
وفرَّغ قلبه لمحبته.
ولسانه لذكره.
وجوارحه لطاعته.
وإذا أصبح أو أمسى والدنيا همه، فرَّق الله عليه شمله، ووكله إلى نفسه، وحمله هموم الدنيا وأنكادها.
فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق.
ولسانه عن ذكره بذكرهم.
وجوارحه عن طاعته بطاعتهم وخدمتهم وتنفيذ أوامرهم.
فهو يكدح كدح الوحش والحيوان في خدمة غيره.
وسنة الله جارية أن كل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلي بعبودية المخلوق، ومحبته وخدمته وطاعته ولو كان في معصية الله، فهو إما عبد لخالقه ومولاه، أو عبد لهواه.
ومن أحب الله أنس به، ومن أحب غير الله عُذب به، وأصابه الخذلان من جهة ما تعلق به: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٧٢)} [الإسراء: ٧٢].
مختارات