" لقد ضيعتني يا أبي!! "
" لقد ضيعتني يا أبي!! "
سعادة ترفرف حولي... كل شيء أراه جميلاً... على الرغم أن حالتنا المادية كانت متوسطة، بل أشياء كثيرة كنت أفتقدها، ولا أستطيع الحصول عليها، ولكن القناعة تبدد كل الآمال الواسعة والأماني العريضة، كنت أهنأ بكل شيء عندي... وأحمد الله على نعمه العظيمة... ويكفي سعادة وهناء أن يعيش الإنسان في كنف أبوين وأنعم بها من نعمة... أبوين يغدقان عليه من فيض حنانهما وعطفهما... ويزداد الإنسان سعادة وراحة إذا كان متمسكًا بشرع الله، يرفل في الخير، وينعم بالإيمان، إنها الحياة الطيبة... هكذا كنت بفضل الله ومنته... ولكن والدي لم يكن تعجبه هذه الحياة؛ فقد كنت ألمس منه الكآبة الدائمة... والحزن المستمر... والتفكير الطويل... دائمًا يتأفف من حياتنا... كان يتمنى أن يكون من رجالات الأعمال المرموقين... يريد أن يكون كفلان صاحب الشركة... أو علان رئيس المؤسسة، وعلى الرغم من قناعة أمي، فكم نصحته ووجهته. لقد كانت كثيرًا ما تردد يا أبا فلان نحن في نعمة وخير والحمد لله، يكفي الستر والعافية، فكان يتضجر من كلامها... كانت تذكره بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف عليكم أن تبسط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم»(رواه البخاري ومسلم) فيتأفف من قناعتها... ويقول لها دائمًا: ستعيشين طوال حياتك هكذا تحبين الفقر... لم يقف أبي عند هذا الحد، فقد أخذ يجمع الأموال من هنا وهناك إلى أن تجمعت في يديه ثروة هائلة... وفي الوقت الذي كان يبخل فيه على أسرته بملبس أو طعام من باب الاقتصاد، كان يبعثر الأموال الطائلة على زملاء العمل، وأصحاب رؤوس الأموال، وذلك للمصالح المتبادلة كما يزعم، وكان لا يتم ذلك إلا في الفنادق، أو المطاعم الفاخرة، لأن منزلنا المتواضع ليس أهلاً لمثل هذه الشخصيات البارزة... لقد تغير أبي تمامًا، أصبحت الدنيا، والمؤسسات، والشركات، والعقارات أكبر همه... أصبح التفاخر والتعالي سمته... أصبحت المظاهر البراقة الزائفة جل اهتمامه... غفل أن هذه الحياة زائلة، وأن متاعها فانٍ... كم ذكرته بذلك... كم خوفته من الموت... ولكنه كان يعرض ولا يتعظ، تزوج بأخرى وبالطبع كانت قريبة لأحد الأثرياء... أسكنها في قصر فخم، وأثاث وثير، ولديها الخدم والحشم... بينما نحن لا نجد أحيانًا لقمة العيش فقد تركنا ورحل... ونسي أو تناسى أنه خلف وراءه زوجة مريضة... وأبناء يتضورون جوعًا... لقد ترك أمي التي صبرت عليه، وتحملته، وعاشت معه على القناعة والرضا والكفاف... تركها وهي تقاسي الآلام والأمراض، قائلاً لها: سأتركك مع الفقر الذي تحبين... تقطع قلب أمي أسى وحزنًا على هذا الإنسان الذي أعطته كل شيء، وبذلت من أجله الكثير لم يكلف نفسه أن ينفق على أهل بيته أو أبنائه، بل أصبحنا نستقبل الصدقات والإعانات من الناس... والناس يتهامسون هذه عائلة فلان الثري، ويشيرون إلينا: انظروا كيف حالهم!! استمر هذا الحال إلى أن تخرجت من المرحلة الثانوية... وذات يوم إذ بطارق على بابنا وكانت المفاجأة... عندما تصارخ إخوتي الصغار أبي... أبي، لم أصدق عيني وأنا أراه... إنه فعلاً هو... إنه أبي... ما الذي جاء به كان يحمل بين يديه الهدايا، واللعب، والحلوى، والملابس... قلت في نفسي لعل الله هداه، عمت السعادة قلبي، واستبشرت خيرًا... جلس معي ومع أمي، وأخذ يعتذر عن كل ما بدر منه، وأنه أحس بغلطته في حقنا... وأنه سيعوض تلك الأيام السالفة... إلخ ما قاله...ثم بعد ذلك لمحني وابتسم، وهو يقول: يا بنيتي ما شاء الله عليك كبرت وأصبحت عروسة جميلة متى أفرح بك فهمت أمي مغزاه فقامت من المجلس... استغل هو الفرصة فقال لي: اسمعي يا بنيتي ستودعين حياة الفقر والعوز والحاجة... هناك شاب ذو خلق ودين، ومن عائلة ثرية جدًا... بل إنه يملك العقارات، والشركات، سيلبي لك كل طلباتك... سترفلين في الخير والنعيم... لا أريد إلا موافقتك... دب في نفسي الحزن والغم على حال والدي... إنه لم يتبدل... لم يتغير فيه شيء... إنه هو كما تركنا، ما زال حب الدنيا يجري في عروقه.
قلت له: ألهذا الأمر جئتنا؟!! قال: لا... لقد اشتقت إليكم وأنا يا ابنتي لا أريد إلا مصلحتك... صدقيني... إنها فرصة ثمينة لن تتكرر... لا تضيعيها عليك، قلت له بلهجة حازمة: مصلحتي هي أمي وإخوتي الصغار... كيف سيعيشون وأنت متخلي عنهم... حتى المصروف، والنفقة لا تعطيهم كيف سيكون حالهم؟ أخشى عليهم من الضياع هذا ما يشغل بالي ويملأ تفكيري... أما الزواج فإنني لا أفكر فيه الآن.
قال: لا عليك أعدك بأن أمك وإخوتك سيعيشون معي، وسأغدق عليهم بكل ما تشتهيه أنفسهم... ولكن فكري الآن في نفسك، سيحضر العريس غدًا، وسيأتي مأذون الأنكحة والشهود، وسيتم كل شيء... لم يمهلني لأتكلم... لأرفض... ليكون لي رأي... سلمت أمري إلى خالقي قلت: لعل زواجي هذا يخفف عن أمي وإخوتي. لعل الله يفرج عنهم... وفعلاً جاء غدًا بما يحمله من مخاوف ورهبة... لم أر العريس فقد خرج مسرعًا بعد أن تم عقد النكاح... بحجة أنه مشغول ولكثرة ارتباطاته... وحدد أبي موعد الزفاف... لم أوافق على هذا الزواج حتى نفذ أبي وعده لي في ضم أمي وإخوتي إليه... وفعلاً أسكنهم في بيت لا بأس به بالقرب من قصره الفخم... وأصبح ينفق عليهم... جاء يوم الزفاف... وعندما أراد العريس الدخول علي؛ ليأخذني إلى عش الزوجية... كانت الصاعقة التي جعلتني أجهش بالبكاء... بل أنهار... فذلك الشاب الممتلئ فتوة وحيوية ونشاطًا، لم يكن إلا رجلاً مسنًا يتوكأ على عصاه... رجلاً في السبعين من العمر... ولكم أن تتصوروا كيف يتم التوافق بين فتاة غضة تبلغ من العمر تسعة عشرة سنة مع إنسان في سن أجدادها.
رفضت أن أذهب معه... أو أن أسير خطوة واحدة... أخذت أصرخ لقد خدعتني يا أبي لن أسامحك... كيف هُنت عليك إلى هذا الحد تبيعني بهذه السهولة ولأجل حفنة من دنيا... تقتل فيّ الحيوية والنشاط لأجل مطامع نفسك. هل تريد أن تقضي على زهرة عمري... وأن تذبل ريحانة شبابي مع رجل كهذا... هل تريد أن تدفنني حية مع إنسان بلغ من العمر عتيًا..؟!! ألا تتقي الله في... ألا تخاف عقابه... لم أشعر إلا وأبي ينهال علي ضربًا وسبًا وشتمًا... يقول: فضحتيني... أتريدين أن تجعليني في موقف حرج يا حمقاء، هذا رجلٌ ثري جدًا لن تجدي مثله، سترثين من ورائه الأموال الطائلة، ستعيشين معه في سعادة أنت لا تعرفين مصلحة نفسك... ثم إن بيني وبينه مصالح مشتركة إنك بتصرفك هذا تفسدين علي كل شيء... وعندما رأى والدي رفضي الشديد لهذا الزواج... هددني بلهجة حادة وصارمة قائلاً: إذا لم تذهبي مع زوجك سأطرد أمك وإخوتك إلى قارعة الطريق... ولن يجدوا لهم مسكنًا، أو مأوى لأنني قد تصرفت في البيت القديم، وستكونين أنت السبب في ذلك... حينها أسقط في يدي... عرفت أنه لا فائدة من احتجاجاتي، ولن يلتفت أحد إلى اعتراضاتي... رمقت أبي بعينين حزينتين وقلت له: لقد ضيعتني يا أبي، لقد ذبحتني بغير سكين... كيف تلقى الله؟!! ما موقفك يوم القصاص عندما أقف أنا وأنت بين يدي الجبار... لقد ظلمتني يا أبي، وظلمت عائلتك معي.
واسَتْنِي أمي قائلة: بنيتي لا تقبلي بهذا العرض الرخيص... ولا تدفني نفسك مع هذا الإنسان لا عليك من تهديدات أبيك... سنتحمل العناء فقد اعتدنا عليه... ولنا الله؛ لن يتخلى عنا... وأهل الخير والأيادي البيضاء كثيرون، ولن يقصروا معنا، قلت لها: أمي يكفيك ما عانيته أنت وإخوتي، أما أنا فليس أمامي سوى الصبر واللجوء إلى الله، ولن يضيعني... فقط أريدك أن تدعي الله لي... بكت أمي، وهي تفوض أمرها إلى الله احتضنتني بكل شفقة ورحمة وهي تقول: كان الله في عونك يا بنيتي، كوني مع الله يكن معك، ولعله يُحدث لك بعد ذلك فرجًا ومخرجًا.
عشت مع هذا الإنسان ولا مجال للتوافق بيني وبينه في أي شيء... إذا أراد الاقتراب مني اشمأززت... أرمقه بعيني أتساءل... هل هذا هو الزواج الذي كنت أحلم به؟!! كنت أتمنى شخصًا يفهمني وأفهمه، إنسانًا يعينني على الخير... يرشدني إلى الصلاح... فلم أجد من ذلك شيئًا... هذا نصيبي والحمد لله على كل حال.
كان دائمًا يشتمني ويسبني... وأنا صامتة... بل ويضربني بعصاه، ويحقرني، بل وصل به الأمر إلى أن يشك بي حتى أصبح يحبسني، وإذا أراد الخروج من منزله أغلق علي الباب بالمفاتيح والأقفال... ولا أدري هل يظن أنني سأهرب وليت الأمر اقتصر على هذا الحد، بل كان إنسانًا شحيحًا بخيلاً مثله مثل والدي تمامًا... كان سيء الخلق... يتهاون في طاعته لربه...لا يبحث إلا عن شهوات نفسه. أقول: سبحان الله! إنسان في هذا العمر، وأقرانه، وأصحابه قد واراهم التراب، وغيبهم الموت... ومع هذا لا يتعظ... حاولت أن أتعايش مع هذه الحياة المريرة الكئيبة، ولكنني لم أستطع... من يراني من شدة الغموم والأحزان يظنني عجوزًا في الستين، ولا يصدق أنني فتاة العشرين ربيعًا.
أصبحت حياتي كلها خريفًا جحيمًا لا يطاق... لقد ضاقت علي الأرض بما رحبت، النوم فارق جفوني، وشهيتي انعدمت من كل شيء... تكالبت علي الأمراض من كل حدب وصوب... كنت أرفع أكفَّ الضراعة إلى الواحد الديان أن يكشف عني هذا البلاء... ويزيل عني هذا العناء... تجرعت المأساة والألم... والغصص والأحزان... طالما رددت: لقد ضيعتني يا أبي... هذا ما جنته يداك... لقد ملكت ما أردت من الدنيا، ولكن كان ذلك على حساب فلذة كبدك وأبنائك... أبي لقد ضيعت الأمانة... ألا تتقي الله فينا، إن الله سائلك عنا وعن رعيتك، فماذا سيكون جوابك غدًا، وأنت لم تتحمل المسؤولية، ولم ترعَ الأمانة؟!! (لقد ضيعتني يا أبي).
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله سائل كل راع عما استرعاه»(رواه البخاري ومسلم).
مختارات