" أبي عُد إلينا "
" أبي عُد إلينا "
ها أنذا أضع قدمي على عتبات السلم لأدخل قاعة المحاضرات في الجامعة، ذلك المكان الرائع بكل المقاييس، بصديقاته الجديدات... وقاعته الكبيرة... التي حاولت أن أنسى على عتباتها كراسي المدرسة الصغيرة، وطاولتها المستطيلة.
جلست على أول مكان صادفته أمامي... أخرجت أقلامي التي اخترتها بعناية، وكراستي الخاصة بالمحاضرات، ورغم امتلاء القاعة عن آخرها إلا أنني لم أجد أيا من صديقاتي اللاتي اعتدت أن أراهن في المدرسة.
ظلت عيني تحدق في باب القاعة انتظارًا لمن سيحاضرنا في هذه الساعة، فهي أولى محاضرة أحضرها، ورأيته وهو يدخل القاعة... يحمل في يده حقيبته السوداء، أنيق المظهر يختلط الشعر الأبيض في رأسه مع الأسود فيزيده وقارًا... رأيته يشبه كثيرًا الممثلين الذين طالما أُعجبت بهم على شاشة التلفزيون، واليوم ها هو أمام عيني يعرفنا بنفسه، يخرج الأوراق... يوزعها... يكتب على اللوحة... يبتسم يسأل يذكر مصطلحات، لم استطع استيعابها في البداية، وانتهت المحاضرة، وخرج الأستاذ، وخرجنا نحن للمحاضرة الثانية، وكانت في اللغة الإنجليزية، حاضرت فيها سيدة أجنبية... لكنها أبدًا لم تكن في جمال المحاضرة الأولى.
وانتهى يومي الجامعي الأول... وعدت للمنزل ورويت لإخوتي الصغار مني كل شيء رأيت... إلا أنني احتفظت بأمر أستاذ المحاضرة الأولى سرًا لنفسي فقط.
وتوالت المحاضرات... وازداد معها إعجابي بأستاذي إلى حد بدأت أخاف منه، فقد بدأ يملأ عقلي، ويمتد إلى أوتار قلبي يحركها، وإن كنت سريعًا ما أسيطر عليها.
وجاء اليوم الذي أخبرنا فيه الأستاذ أنه على استعداد للإجابة على أي استفسار حول المنهج خلال ساعاته المكتبية... وكانت هذه هي فرصتي التي أنتظرها، فقد أصبحت قادرة على رؤيته كل يوم، وليس في أوقات المحاضرة فقط كما كان يحدث، وبدأت أعلل نفسي بأي سؤال للذهاب إليه... كان يقابل الأمر في البداية برحابة صدر، ثم بدأت ألحظ عليه بعض الضيق، وبدأ يجعلني انتظر ليجاوب على أسئلة باقي الطلبة أولاً.
وفي إحدى المرات أخذت أوراقي وذهبت إليه، وقد أعددت أكثر من عشرة أسئلة ؛ لأستفسر عنها، وما إن دخلت المكتب ورآني وكان معه عدد من الزميلات حتى قال لي: ما أسئلتك اليوم يا ترى؟ فقدمت إليه ورقتي وأنا على يقين من أن ساعة كاملة لن تكفي ليجيبني على أسئلتي، فنظر إلى الورقة ورفع رأسه قائلاً: «إيه الحكاية يا بنتي؟ أنت كل يوم تسألين... ألا تفهمين شيئًا من المحاضرة؟».
فضحكت الفتيات، ووضع الأستاذ الورقة جانبًا، وأشاح بوجهه عني، وأصدقكم القول... لم يهمني كل ما حدث، فقد شغلتني كلمة واحدة قالها لي... وهي كلمة «يا بنتي» نعم إنني ابنة، ولكن أين أبي؟ وجدتني أحدق في الأستاذ جيدً ا، وأتذكر ملامح أبي التي نسيت معظمها، فوجدته يحمل الكثير منها، فيا ترى هل كنت حقًا أبحث فيه عن أبي الغائب؟! هذه اللحظة قررت أن أجد أبي لا أن أبحث عنه خارج المنزل.
ظللت انتظر أبي الذي لا يعود إلا متأخرًا... ولا يستيقظ إلا بعد خروجنا، لأصرخ في وجهه قائلة «أرجوك يا أبي عد إلينا»، ولكن النعاس غالبني، فعاودت الكرة ثانية في اليوم التالي... وها أنا أسمع صوت مفاتيحه في الباب، أخذ قلبي يدق بسرعة، دعوت الله أن يساعدني، ورددت في نفسي... لا لن أتخاذل اليوم... وإذا فشلت فلن أيأس، وسأعيد الكرة... وسأصرخ بأعلى صوتي: أبي عد إلينا، فأنا أبحث عنك خارج منزلنا (أسيرة الأحلام، تيسير الزايد ص:97-100).
مختارات