" هـاجـر "
" هـاجـر "
أوحى الله لنبيه إبراهيم وأمره أن يذهب بهاجر وابنها إسماعيل إلى مكة ذلك المكان البعيد الذي لم يكن به شيء من مظاهر الحياة بل هو واد غير ذي زرع ولا يجاوره أحد من البشر لأمر أراده الله تعالى فشد إبراهيم عليه السلام الرحال ومعه هاجر وابنها إسماعيل وهو رضيع من فلسطين يهبطون واديا ويعلون آخر ويقطعون الجبال والهضاب وطال بهم الطريق حتى وصلوا إلى مكان مقفر خال من مظاهر الحياة، ولا يسكنه بشر.. وفي هذا المكان الموحش وتحت لهيب الشمس المحرق.. تركها إبراهيم عليه السلام هي وابنها فيه.. وقفل راجعا إلى فلسطين فجرت خلفه وتعلقت به..وحاولت أن تستعطفه وتستدر رحمته، وقالت له: لمن تتركنا يا إبراهيم في هذا المكان الموحش؟ فلم يرد عليه ا!! ولم يلتفت لها !! وواصل المسير وهي تنادي حتى يئست أن يرد عليها، فقالت: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم فقالت بروح المؤمن الصابر المحتسب المتوكل على الله: إذًا لن يضيعنا، انصاعت لربها وأذعنت له وبقيت في هذا المكان الموحش الذي لا ترى فيه سوى الجبال والهضاب.. فلا أنيس ولا جليس سوى ابنها الرضيع، فضمته إلى صدرها.. وكأنها تقول له: من سيحمينا من سطو الذئاب !! وفتك الوحوش !! وكيف ستتحمل لفح الشمس وحرارة الجو !! من سيؤنس وحشتنا ويخفف وحدتنا !! من أين نحضر طعامنا وشرابنا !! وتحت ظل أي شجرة سنسكن !! أسالت العبرات الغزيرة، وذرفت الدموع السخينة.. فهي التي تربت في قصور الملوك وفي أجمل المناطق خضرة وأرقها نسمة.. ها هي تسكن الآن في واد غير ذي زرع بلا أنيس ولا طعام تحت أشعة الشمس الحارقة.. لكنها علمت أن هذا ابتلاء من الله فعليها أن تصبر وتحتسب وتفوض أمرها لله تعالى، وعلمت علم يقين بأن الله لن يضيعها.. وأن ما حصل لها هو لحكمة أرادها..أما إبراهيم عليه السلام فقد مضى عنهم وفي قلبه حسرة ولوعة على فراق ابنه وفلذة كبده، ويثقله الإشفاق عليهما من السكن في هذا المكان المقفر لكنه صبر على البلاء.. وسلم لقضاء الله، ولما ابتعد عنهم بحيث لا يرونه اتجه إلى وجهتهم وبقلب يملؤه الثقة بوعد الله وقوة الاعتماد عليه أخذ يدعو ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (سورة إبراهيم آية 37).
لقد بقيت هاجر في هذا المكان وليس لديها إلا جراب من تمر وشيئا من الماء فنفد الماء والزاد، وأخذ ابنها يصرخ من الجوع والعطش، فأخذت تسعى بين الجبلين: الصفا والمروة تبحث عن الماء، والطفل يصيح ويصخب ويضرب برجليه الأرض من شدة البكاء.. فيقطع نياط قلبها.. ويحزنها بكاؤه ونحيبه، فتهرول وتجري حتى سعت سبعة أشواط بين جبلي الصفا والمروة تبحث عن الماء، وكلما علت جبل رأت سراب الماء في الآخر فتجري إليه.. حتى خارت قواها وها هي ترى وحيدها الذي تتمنى أن تفديه بروحها يكاد أن يسلم روحه ويجود بنفسه، فتعتصر ألما وحزنا.. وهي في هذه الحال لا تجد لها معينا في وحدتها ولا سلوة في مصابها إلا الله تلجأ إليه وتستعين به، فإذا بالماء ينبجس من تحت رجلي طفلها الصغيرتين.. رحماك ربي إنها رحمة الله التي تحوطها وعنايته التي تظلها.. فسقت وليدها حتى ارتوى واطمأنت عليه.. ثم شربت هي واطمأنت وحمدت الله الذي نجا ابنها بعد أن كادت تفقده من شدة العطش، لقد كانت رحمة من الله أن فجر لهم هذه العين المباركة التي هي طعام طعم وشفاء سقم.. إنها عين زمزم التي ما زالت قائمة حتى الآن يتسابق الناس إلى حوضها والشرب منها والتي جعلها الله سبب لشفاء القلوب والأبدان برحمته ومنّه ولما نبع الماء في هذا المكان جذب إليه الطيور فرأتها بعض القوافل المسافرة وعلمت أن في هذا المكان ماء وإلا لما حلقت فوقه الطيور، فأصبح الناس يفدون إلى هذا المكان زرافات ووحدانا..واستأذن بعضهم هاجر في الإقامة عندها فأذنت لهم وأنست هاجر بهم واطمأنت إلى جوارهم وشكرت الله تعالى أن جعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، واستجاب الله دعوة إبراهيم عليه السلام وبنى البيت الحرام في هذا المكان الطاهر، وأصبحت الناس تؤمه للحج والعمرة، وأكرم الله هاجر بأن أنبع لها هذه العين المباركة، وجعل سعيها بين الصفا نسكا يقوم به الحجاج والمعتمرون لا تتم عبادتهم إلا به إلى يومنا هذا.
مختارات