عباد مصر وزهادها وأولياؤها
عباد مصر وزهادها وأولياؤها:
قد كان في مصر جملة وافرة من العباد والزهاد والأولياء الذين كانوا بعيدين عن الشطح والبدع، وضربوا أعظم الأمثلة في العبادة والزهد والولاية، فكان منهم: سليم بن عِتْر التجيبي المصري قاضي مصر وناسكها، وهو من كبار التابعين، حضر خطبة الفاروق عمر بالجابية وحدث عنه وعن صحابة آخرين، وسُميَ الناسك لكثرة فِضله وشدة عبادته، وكان كثير الختم للقرآن، وهو أول قاص -أي واعظ- بمصر، توفي سنة 75، رحمه الله تعالى.
ومنهم حَيْوة بن شُريح التُجَيبيّ، أبو زرعة المصريّ المتوفى سنة 158، رحمه الله تعالى، وهو فقيه زاهد عابد، أحد سادة العباد والزهاد، قال عبدالله بن المبارك: ما وُصف لي أحد ورأيته إلا كانت رؤيته دون صفته إلا حَيوة بن شريح فإن رؤيته كانت أكبر من صفته.
وذو النون المصري ثوبان بن إبراهيم المتوفى سنة 245 - رحمه الله تعالى - الذي بهر المتوكل على الله الخليفة العباسي وأبكاه فرده مكرماً إلى مصر بعد أن حُمل إليه متهماً بالزندقة، وكان المتوكل بعد ذلك يقول: إذا ذُكر الصالحون فحيّ هلا بذي النون، وقد ورد عنه أقوال وأحوال لطيفة بعيدة عن الشطح الذي ابتلي به كثير من العباد بعد ذلك، فمما ورد عنه رحمه الله تعالى أنه كان يقول: الاستغفار جامع لمعانٍ: أولها: الندم على ما مضى.
الثاني: العزم على الترك. الثالث: أداء ما ضيعت من فرض الله. الرابع: رد المظالم في الأموال والأعراض والمصالحة عليها. الخامس: إذابة كل لحم ودم نبت على الحرام. السادس: إذاقة ألم الطاعة كما وجدت حلاوة المعصية.
وكان في زورق فمر به زورق آخر، فقيل لذي النون: إن هؤلاء يمرون إلى السلطان يشهدون عليك بالكفر، فقال: اللهم إن كانوا كاذبين فغَرِّقهم، فانقلب الزورق وغرقوا، فقيل له: فما بال الملاح؟ قال: لم حملهم وهو يعلم قصدهم؟ ولأن يقفوا بين يدي الله غرقى خير لهم من أن يقفوا شهود زور، ثم انتفض وتغير وقال: وعزتك لا أدعو على أحد بعدها. وقيل لذي النون: كيف خلصت من المتوكل وقد أمر بقتلك؟ قال: لما أوصلني الغلام قلت في نفسي: يا من ليس في البحار قطرات، ولا في دَيْلَج الرياح ديلجات -يعني والله أعلم دورة الرياح- ولا في الأرض خبيئات، ولا في القلوب خطرات إلا وهي عليك دليلات، ولك شاهدات، وبربوبيتك معترفات، وفي قدرتك متحيرات، فبالقدرة التي تجير بها مَن في الأرضين والسموات إلا صليت على محمد وعلى آل محمد وأخذت قلبه عني، فقام المتوكل يخطو حتى اعتنقني ثم قال: أتعبناك يا أبا الفيض. ومنهم أبوبكر بن الحداد المصري الإمام الجليل الفقيه، كان كثير التعبد، يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويختم في كل يوم وليلة ختمة، وقد روى عن مالك والليث وابن لهيعة والفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة.
ومنهم بُنان الحمال الزاهد، المتوفى سنة 316 -رحمه الله تعالى- الذي أنكر على واحد من وجهاء أهل الذمة ركوبه الخيل في مصر، وأمره بالنـزول وركوب الحمار، كما أُخذ عليهم في عهد الذمة، فبلغ الأمرَ خُمارويه بن أحمد بن طولون حاكم مصر فجوّع أسداً وأُلقي بنان بين يدي الأسد فكان يشمه ولا يؤذيه فرُفع من بين يديه وزاد تعظيم الناس له، فقيل له: كيف كان حالك وأنت بين يدي الأسد؟ فقال: لم يكن عليّ بأس ولكن كنت أفكر في سؤر السباع أهو طاهر أم نجس؟!
ومن كلامه: ذكر الله باللسان يورث الدرجات، وذكر الله بالقلب يورث القربات، وكان يُضرب بعبادته المثل.
وجاء إليه رجل يشكو ضياع وثيقة له على رجل ديناً بمائة دينار مصرية -وهي مبلغ ضخم آنذاك- وخاف أن ينكر الرجل الدين وطلب منه الدعاء فقال له: أنا رجل قد كبرت وأنا أحب الحلوى فاذهب فاشتر لي رطلاً، وائتني به حتى أدعو لك، فذهب الرجل وعاد بالحلوى وقد لُفّت بورقة فإذا هي وثيقته الضائعة!! فأخبر الشيخ بذلك فقال: خذ الحلوى وأطعمها صيبانك!! ولما توفي خرج أكثر أهل مصر في جنازته، وكانت شيئاً عجباً، رحمه الله تعالى.
ومنهم أحمد بن نصر الدقاق، من أقران الجنيد، وكان من كلامه: مَن لم يصحبه التقى في زهده أكل الحرام المحض.
وقال: كنت ماراً في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة، فهتف بي هاتف من تحت شجرة: كل حقيقة لا تتبع الشريعة فهي كفر، وهذا الذي ذكره يُعد قاعدة مهمة في علم الزهد والرقائق غفل عنها أهل الشطح والبدع فيما بعد.
ومنهم أبو علي الحسن بن أحمد الكاتب المصري المتوفى سنة 343،رحمه الله تعالى، وكان من كبار المصريين، وكان أوحد مشايخ زمانه، ومن كلامه إذا انقطع العبد إلى الله بكُليته أول ما يفيده الله الاستغناء به عن الناس.
ومنهم سند بن عثمان الأزدي، توفي بالإسكندرية سنة 541، كان من زهاد العلماء والفقهاء، ومن كبار الصالحين، رُئي في النوم فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: عُرضت على ربي فقال لي: أهلاً بالنفس الطاهرة الزكية العالمة.
ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن سهل الدينوري الصائغ الزاهد المتوفى سنة 331، رحمه الله تعالى، قال الذهبي: أحد المشايخ الكبار، وقال ابن كثير: ومن كراماته أنه رُئي يصلي بالصحراء في شدة الحر، ونسر قد نشر جناحيه يظله من الحر!! وأنكر مرة على تكين أمير مصر شيئاً - وكان ظالماً- فأخرجه إلى بيت المقدس، فلما وصل القدس قال:كأني بالبائس، يعني تكين، وقد جيء به في تابوت إلى هنا، فإذا أُدني من الباب عثر البغل ووقع التابوت، فبال عليه البغل، فبعد مدة يسير حصل هذا الذي أخبر به الشيخ بحذافيره!! ثم ركب عائداً إلى مصر، وهذا الذي جرى على الشيخ هو من جملة الكرامات التي تحصل لأولياء الله -تعالى- ويصدقها أهل السنة والجماعة بشرط ثبوتها. وقال: إذا سكن الخوف في القلب لم ينطق اللسان بما لا يعنيه.
- ومنهم أبو محمد محمد بن أحمد بن سهل الرملي الفايلي، كان عابداً صالحاً زاهداً، قوالاً بالحق، قال: لو كان معي عشرة أسهم رميت الروم بسهم ورميت بني عبيد بتسعة، فبلغ ذلك صاحب مصر المعز فجاء به فسأله فقال: لا، بل أرميهم بالعشرة كلها، فقتله سنة (363) قتلة شنيعة، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
ومنهم أبو القاسم بن منصور المالكي الإسكندري المعروف بالقُبّاري (ت 662)، باع دابة لرجل، فأقامت أياماً لم تأكل عنده شيئاً، فجاء إليه وأخبره، فقال له الشيخ: ما صنعتك؟ قال: رقاص عند الوالي، فقال: إن دابتنا لا تأكل الحرام!!! ثم رد إليه دراهمه، الله أكبر، دوابه لا تأكل الحرام فكيف لو رأى زماننا هذا؟! كان أولئك بعض أولياء مصر البعيدين عن البدع والشطح، ممن تمكنت من الوقوف على سيرهم مكتوبة منشورة، وأنا واثق أن مَن أوردتهم هم قطرة من بحر وغيض من فيض لكن حسبي مثالاً مَن أوردتهم، والله أعلم.
مختارات