قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الإنسان يعيش بقيم و بحركة نحو خالق السماوات والأرض:
أيها الأخوة الكرام، لازلنا في آيات الأمثال، والآية اليوم:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ*مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾
[سورة آل عمران:116-117]
أيها الأخوة الكرام، الإنسان قد يسعى إلى جمع المال، وقد يتوهمه في مقتبل حياته شيئاً عظيماً، لكن في منتصف الحياة يتحقق أنه شيء وليس كل شيء، لقول السيد المسيح: " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان "، الإنسان يعيش بقيم، يعيش بمبادئ، يعيش بأهداف نبيلة، بعيش بحركة نحو خالق السماوات والأرض، لذلك:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
***
والآية الدقيقة:
﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾
[سورة فاطر:22]
هذا مقبور في شهوته، وهناك آية ثانية:
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾
[سورة النحل: 21]
وآية ثالثة:
﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾
[سورة الفرقان: 44]
وآية رابعة:
﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾
[سورة المنافقون: 4]
وآية خامسة:
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ *فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾
[سورة المدثر: 50-21]
شأن الكافر الذي ما عرف الله، وعبد شهوته من دون الله، واتخذ إلهه هواه، هذا إنسان تنطبق عليه هذه الآية:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا َ﴾
[سورة آل عمران:116]
أي حقيقة الحياة دقيقة جداً، هذا القلب إذا توقف، عندك أراض أسعارها فلكية، عندك بيوت، ومعامل، ومركبات، عندك مكانة، كل هذه الدنيا متوقفة على نبض القلب، توقف القلب كل هذا الذي باسمك وبملكك ليس لك.
في الموت موعظة لو علمها الإنسان لارتعدت فرائصه:
لذلك أيها الأخوة، الإنسان إن لم يؤمن فهو مقامر ومغامر، كل مكتسباتك، وكل مكانتك، وكل هيمنتك، وكل سلطتك، منوط بضربات القلب، توقف القلب انتهى كل شيء، أصبحت خبراً على الجدران، أنا سألت خبراء قالوا لي: في بالشام باليوم يوجد مئة وخمسين وفاة، وهذا الموت بين أيدينا، أي إنسان ملء السمع والبصر، أحياناً من باب التعليقات المؤثرة يتوفى إنسان نذهب للتعزية، تجد بيت شيئاً نفيساً جداً، الرخام، الطلاء، المناظر، الأثاث، أنا أتساءل وأنا في التعزية من اختار هذه الثريات؟ من اختار هذه التزيينات؟ من اختار هذا الأثاث؟ المرحوم، أين المرحوم؟ تحت الأرض، والله أيها الأخوة في الموت موعظة لو علمها الإنسان لارتعدت فرائصه، الله عز وجل يصف فبقول:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ َ﴾
[سورة آل عمران:116]
ورد في الأثر: " أن روح الميت ترفرف فوق النعش ـ هذا إذا كان منحرفاً تائهاً، شارداً ـ تقول: يا أهلي، يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّ وحرم، وأنفقته في حله، وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة عليّ ".
وهناك تتمة لهذا الأثر: "... فو الذي نفس محمد بيده، لو يرون مكانه ـ ملك الموت يقول هذا ـ ويسمعون كلامه، لذهلوا عن ميتهم ولبكوا على أنفسهم ".
من أدخل الموت في حساباته فهو في طريق النجاة:
أنت لاحظ إنساناً توفاه الله، تسمع كلام من حوله، مسكين مات، هذا المتكلم سوف يموت أيضاً، لأن:
كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والـــجبروت
والليل مهما طــــال فلا بد من طلوع الفـــجر
والعمر مهما طــــال فلابد من نزل الـــــقبر
* * *
وكل ابن أنثى وإن طالت سلامت ه يوماً على آلة حدباء محمول
فــإذا حملت إلى القبور جنازة فــاعلم أنك بعدها محمول
* * *
لذلك كان هناك رجل صالح، حفر قبراً في بيته في صحن الدار، وكان يضطجع فيه كل يوم خميس، ويتلو قوله تعالى:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
[سورة المؤمنون: 99-100]
فيخاطب نفسه ويقول: قومي لقد أرجعناك.
إذا أدخلت فكرة الموت في حساباتك اليومية، أو إذا أكثرت من ذكر الموت، هادم اللذات، مفرق الأحباب، مشتت الجماعات، تكون في طريق النجاة، سألوا طالباً نال الدرجة الأولى في الشهادة الثانوية، ما السبب الذي جعلك من المتفوقين؟ أنا دققت بإجابته الدقيقة جداً، ماذا قال؟ قال: لأن لحظة الامتحان لم تغادر مخيلتي طوال العام، من أول يوم بالدوام الامتحان أمامه، وأنا أقول لكم: والله قبل أن تنطق بكلمة هل هذه الكلمة ترضي الله؟ قبل أن تصل هل هذه الصلة ترضي الله؟ قبل أن تقطع هل هذه القطيعة ترضي الله؟ قبل أن ترضى هل هذا الرضا يرضي الله؟ قبل أن تغضب، قبل أن تعطي، قبل أن تأخذ، إن كنت بطلاً في كل عمل تعمله اسأل نفسك هذا السؤال: هل الله راض عني في هذا العمل؟ في هذا العطاء؟ في هذا المنع؟ في هذا الغضب؟ في هذا الرضا؟ في هذه الصلة؟ في هذه القطيعة؟
العمل الصالح رفيق الإنسان الوحيد في القبر:
لأن بالنهاية عمل غير المؤمن:
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ﴾
[سورة الفرقان: 23]
شيء صعب، إنسان يؤسس مشروعاً ويموت، من أجل نجاحه، وبعد أن ينجح يصادر منه، شيء صعب جداً:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ َ﴾
[سورة آل عمران:116]
من أجل المال كذب، من أجل المال نافق، من أجل المال ترك الصلاة، من أجل المال فعل الموبقات، أحياناً يأتي مندوب شركة، صاحب الشركة في البلد يعتني به عناية بالغة جداً، وقد يسمح له أن يقترف أكبر المعاصي، وقد يأتي له بالمشروبات الكحولية إرضاء له، فالإنسان من أجل الدنيا أحياناً يرتكب الموبقات، جاءت الآية هنا:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا َ﴾
[سورة آل عمران:116]
كل هذه الأموال يتركها ويمشي، وينزل في القبر وحده، حتى بعض أقاربه يمشون في جنازته، والنساء في البيت، إذا وضع في القبر لا ينزل معه أحد إلا عمله الصالح، فإن كان هذا العمل كريماً أكرمه، وإن كان لئيماً أسلمه:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ َ﴾
[سورة آل عمران:116]
الموت نهاية كل شيء:
والله أيها الأخوة نهاية الإنسان أكبر موعظة، الموت ما الموت؟ ينهي قوة القوي، وضعف الضعيف، ووسامة الوسيم، ودمامة الدميم، وصحة الصحيح، ومرض المريض، ينهي كل شيء، يكون عنده آمال، عنده أحلام، عنده أهداف، عنده واقع غني ممتلئ، توقف القلب أصبح خبراً، كنت مرة بسفر في أثناء عودتي أنا على نافذة الطائرة رأيت نعشاً خرج مع البضاعة، هذا ذهب إلى هذا البلد مسافراً، ركب طائرة، وقد يكون راكب درجة أولى، رجع بضاعة معها وثائق وموافقات، فكل واحد منا سوف يكون بضاعة في يوم من الأيام، إنسان له أولاد، له زوجة، له محل تجاري، له وظيفة، الآن إنسان له هيمنة، وله قوة، وله سيطرة، توقف القلب أصبح خبراً على الجدران.
اعتماد القرآن الكريم على قيمتي العلم و العمل فقط للترجيح بين البشر:
أيها الأخوة الكرام، الآن آية المثل:
﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
[سورة آل عمران:116-117]
أي مشاريعه، إنجازاته الكبيرة، بميزان الشريعة لا شيء، البطولة أن تأتي مقاييسك وفق مقاييس القرآن، القرآن اعتمد قيمتين فقط، اعتمد قيمة العلم، واعتمد قيمة العمل، قال تعالى:
﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾
[سورة المجادلة: 11]
واعتمد قيمة العمل فقال:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
[سورة الأنعام: 132]
لا يوجد بالقرآن من قيم مرجحة بين بني البشر إلا قيمة العلم وقيمة العمل فقط، عندنا قيم مرجحة أخرى اصطلح عليها الناس؛ الوسامة، الذكاء، الغنى، المنصب الرفيع، هذه كلها قيم لكن بين بني البشر أما عند خالق البشر فهناك قيمتان لا ثالث لهما، هناك قيمة العلم وقيمة العمل، لذلك إنجازاته الضخمة، أعماله الكبيرة، هذه الإنجازات وهذه الأعمال عند الموت لا وزن لها، مرة سمعت عن أحد أكبر أغنياء العالم، عنده يخت في البحر، ففي نزهة انقطعت أخباره كلياً، هو كان من أكبر تجار الأسماك، فانقطعت أخباره كلياً لمدة أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، هناك إنسان عمل تعليقاً قال: أطعم الناس طوال حياته السمك فأكله السمك، كلمة واحدة، لذلك:
﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ﴾
[سورة آل عمران:116-117]
الصر: ريح ونار، والصر: ريح وصقيع، والمعنى الثالث ريح وصوت لا يحتمل، أحياناً أصوات الرعد مخيفة جداً، العلماء اعتمدوا هذه التفسيرات الثلاث إما نار محرقة، أو برد مميت، أو صوت لا يحتمل:
﴿ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾
[سورة آل عمران:117]
أشد أنواع الظلم أن يظلم المرء نفسه وأشد أنواع الخسارة أن يخسر الإنسان الآخرة:
إذاً:
﴿ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾
[سورة سبأ: 17]
آية دقيقة جداً، والآية الثانية:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾
[سورة النساء: 147]
﴿ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾
[سورة آل عمران:117]
الحقيقة أشد أنواع الظلم أن يظلم المرء نفسه:
﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِم ْيَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
[سورة الزمر: 15]
وأشد أنواع الخسارة أن تخسر الآخرة، الإنسان يمرض، يموت، إلى الجنة فرضاً، يعيش حياة فيها فقر، يموت، إلى الجنة، كل مصائب الدنيا تنتهي عند الموت، لكن الكفر يبدأ الحساب عنه بعد الموت، لذلك سيدنا عليٌ رضي الله عنه قال: " الغنى والفقر بعد العرض على الله ".
كل مصائب الدنيا تنتهي عند الموت، وكل تبعات الكفر، والمعاصي، والآثام، تبدأ عند الموت.
والحمد لله رب العالمين
مختارات