الأصل الخامس عشر : السر الدفين لعدم القبول وجود حظ للنفس فى العمل
الأصل الخامس عشر: السر الدفين لعدم القبول وجود حظ للنفس فى العمل
هل تصلى لله أم لتستجم؟!.. تصوم من أجل أن تريح بطنك، أم أن يرضى الله عنك؟!.. تكرم الناس ليعاملوك معاملة حسنة أم تكرمهم لله لأنك تحبه؟!.. أعفيت لحيتك توقيرا ام لأنها سنة النبى صلى الله عليه وسلم؟!.. تدفع ما عليك ليقول عنك الناس: محترم أم لترضى ربك؟!.. تحج وتعتمر رياء وفسحة وتغيير جو أم لتستغفر ربك هناك؟!..
قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبدا وقف عند همه، فإن كان لله: مضى، وإن كان لغيره: تأخر.. اغتربت عن بلدك، وهاجرت إلى الله لماذا؟.. لتتعلم العلم وتعبد الله وتدعو إليه لماذا؟.. لماذا تتعلم العلم؟!.. لماذا تتصدق؟!.. لو كان فى هذه الاعمال شىء ولو بسيط من حظ النفس، لا يقبلها الله أبدا.
قال الله – تعالى – فى الحديث القدسى: " من عمل عملا وأشرك فيه غيرى تركته وشركه " [أخرجه مسلم].. فالله عز وجل غنى.. عزيز.. يغار.. لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغى به وجهه.. اللهم ارزقنا الاخلاص واجعلنا من أهله.
لذلك فإن الذين يأتون يوم القيامة وأعمالهم لم تقبل سيفاجئون بأن أعمالهم كانت لله،ولكنها لم تكن خالصة.. كان فيها شىء من حظ النفس.. يا لله !!.. فصحح نيتك، فالطريق إلى الله لا يصلح فيها الا حسن النية.. أخلص قبل أن يأتيك يوم القيامة.
وآه من يوم القيامة ! اللهم ارحم يوم القيامة ضعفنا اللهم ارحم ذل وقوفنا بين يديك يا أرحم الراحمين يوم القيامة وما أدراك ما يوم القيامة ! إياك أن تنسى ذلك اليوم قال ربنا " ولمن خاف مقام ربه جنتان " (الرحمن: 46).. تذكر هذا المقام يوم وقوفك بين يديه وأعمالك كلها معروضة عليه.. يوم يقول لك: عبدى، عشت سبعين سنة ولم تصل إلا سنتين لماذا؟، فتقسم: وعزتك وجلالك يا رب صليت من يوم أن ذهبت إلى المدرسة وأنا فى أولى ابتدائى، ماذا حصل؟!!!.. تجد خمسين سنة من عمرك لم تقبل وعشر سنين فقط قبلت !!.. " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " (الزمر: 47).. السبب: وجود حظ النفس.. صمت كثيرا، ولم يقبل إلا النذر القليل.. نعم: لوجود حظ النفس فى العمل.
أقول لكم كثيرا: لو كان لها " دور ثان "، لو كان فيها " ملحق "، أو لو كان لها " إعادة "، لقلنا: يا رب، أخطأنا فارجعنا نصلح ما كان منا.. لكن هى مرة واحدة إذا ذهبت فيها إلى جهنم كانت المصيبة.. قال الحسن: " ابن آدم عن نفسك فكايس فإنك إن دخلت النار لم تنجبر بعدها أبدا ".. اللهم ارزقنا حسن الخاتمة، اللهم قنا عذابك يوم تبعث عبادك.
نعم – إخوتاه -: السر الدفين لعدم القبول هو وجود حظ النفس فى العمل: أن تتزوج بالبنت الفلانية لأنها تعجبك وتحبها ولا تتزوج ليعفك الله ويسترك.. تكرم الناس ليكرموك ليس لأجل أن يكرمك الله.. تصلى لتستريح ليس لأنه أمرك بالصلاة.. تؤدى الحقوق كما ينبغى ليقولوا عنك: أمين، ليس لأن الله ألزمك بذلك..
فوجود حظ للنفس فى العمل معناه: أن تشتغل لحسابك.. تعمل لنفسك وليس لله.. وجود حظ للنفس.. إيا أن تنسى هذه الكلمة.. أن تصير " شغالا " لحسابك.. لمزاجك.. لهواك.. لنفسك.. لا لله.. اللهم استرنا ولا تفضحنا.
هذه هى المشكلة الكبيرة.. أن معظمنا أكثر عمله لنفسه لا لله.. هذه هى الحقيقة ولا تغضب، لذلك قف وقفة جادة وحقق الاخلاص.. جرد النية لله، فلا تدرى متى تموت.. أخلص يقبل عملك، وإلا فسيطرح فى وجهك، وتخسر الوصول إلى الله.
قال أبو أيوب مولى ضيغم بن مالك: قال لى أبو مالك يوما: يا أبا أيوب احذر نفسك على نفسك، فإنى رأيت هموم المؤمنين فى الدنيا لا تنقضى، وأيم الله، لئن لم تأت الدار الآخرة المؤمن بالسرور، لقد اجتمع عليه الامران: هم الدنيا، وشقاء الآخرة. قال: قلت: بأبى أنت وأمى، وكيف لا تأتيه الآخرة بالسرور، وهو ينصب لله فى دار الدنيا ويدأب؟!، قال: يا أبا أيوب، فكيف بالقبول؟! وكيف بالسلامة؟!، ثم قال: كم من رجل يرى أنه قد أصلح نفسه، وقد أصلح قرباته، قد أصلح همته، قد أصلح عمله، يجمع ذلك يوم القيامة ثم يضرب به وجهه ".
إخوتاه، حاسبوا أنفسكم وانظروا فيها.. عامر بن قيس كان يقول لنفسه: قومى يا مأوى كل سوء، فوعزة ربى لأزحفنّ بك زحف البعير، وإن استطعت أن لا يمس الارض زهمك (شحم الجسم) لأفعلن. ثم يتلوى كما يتلوى الحب على المقلى، ثم يقوم فينادى: اللهم إن النار قد منعتنى من النوم، فاغفر لى.
وتعبد رجل ببيت شعر سمعه:
لنفسى أبكى لست أبكى لغيرها لنفسى فى نفسى عن الناس شاغل
إخوتاه، إن فتنة النفس والشهوة، وجاذبية الارض والدعة والاطمئنان، وصعوبة الاستقامة على صراط الايمان، والاستواء على مرتضاه، مع المعوقات والمثبطات فى أعماق النفس – هى الفتنة الكبرى.
لكن ما الحل – إخوتاه – لننفى عن أعمالنا حظ النفس ليقبلنا الله؟
النفس تصهرها المجاهدة فتنفى عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذخورة فستيقظ. ويكفى قول الله عز وجل: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " (العنكبوت: 69).
قال أبو يزيد البسطامى: عالجت كل شىء، فما عالجت أصعب من معالجة نفسى، ما شىء أهون علىّ منها.
وقال: دعوت نفسى إلى الله، فأبت علىّ واستصعبت، فتركتها ومضيت إلى الله.
وقيل لبعض أهل الرياضة: كيف غلبت نفسك؟، فقال: قمت صف حربها بسلاح الجد، فخرج مرحب الهوى الهوى يدافع، فعلاه العزم بصارم الحزم، فلم تمض ساعة حتى هلكت خيبر.
وقيل لآخر: كيف قدرت على هواك؟، فقال:خدعته حتى أسرته، واستلبت عوده فكسرته، وقيدته بقيد العزلة، وحفرت له مطمور الخمول فى بيت التواضع، وضربته بسياط الجوع فلان.. يا فلان: ألك فى مجاهدة النفس نية، أم النية نية؟.. أتعبتنى أنت أنت.. إلى متى تجول فى طلب هجول؟!، ما عز يوسف إلا بترك ما ذل به ماعز.
إخوتاه، لا يقبل الله عملا فيه حظ للنفس، فخلوا أنفسكم وتعالوا إلى الله.. واستعينوا بالله عليها بالمجاهدة والاحسان فى المعاملة، قال ربى – وأحق القول قول ربى –: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " (العنكبوت: 69).
* * *
مختارات