فقه الدنيا والآخرة - الجزء الثالث
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بإقامة الدين، ونهانا أن نكون عبيداً للدنيا، وقد فهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فركبوها ولم تركبهم، وعَبَّدوها لله ولم تستعبدهم، وقاموا بالخلافة عن الله فيها بكل ما تقتضيه الخلافة عن الله من تعمير وإصلاح، ولكنهم كانوا يبتغون في هذه الخلافة وجه الله، ويرجون الدار الآخرة، فسبقوا أهل الدنيا في الدنيا، ثم سبقوهم كذلك في الآخرة، والدنيا وما فيها من النعيم بالنسبة للآخرة لهو ولعب كما قال سبحانه: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)} [الأنعام: 32].
والإنتاج المادي النافع وفق منهج الله من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه.
والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو إليه الإسلام، ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص الإنسان وأخلاقه، كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية الملحدة أو المشركة.
فما أبعد ما بين الدارين؟.
دار يمكن أن تُطمس وتُحصد في لحظة كما قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}... [يونس: 24].
ودار النعيم والسلام التي نعيمها لا يزول والناس فيها مخلدون كما قال سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64].
إن للجهد في هذه الأرض ثمرته سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى، أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته المحدودة.
فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا، ويتمتع بها كما يريد في أجل محدود، ولكن ليس له في الآخرة إلا النار؛ لأنه لم يقدم للآخرة شيئاً، ولم يحسب لها حساباً.
فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا، ولكنه باطل في الآخرة، وحابط لا يقام له وزن كما قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: 15 - 16].
ونحن نشهد في هذه الأرض أفراداً وأمماً تعمل لهذه الدنيا وتنال جزاءها فيها، ولدنياها زينة وانتفاخ، وهذه سنة الله في هذه الأرض، وهؤلاء يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه، ونفوسهم تتطلع إلى الآخرة، وتراقب الله في الكسب والمتاع، فينالوا زينة الحياة الدنيا لا يبخسون منها شيئاً، وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى.
إن العمل للآخرة لا يقف في سبيل العمل للدنيا، بل إنه هو هو مع الاتجاه إلى الله فيه، ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره، ولا تنقص من آثاره، بل تزيد وتبارك الجهد والثمر، وتجعل الكسب طيباً، والمتاع به طيباً، ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة.
إن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها، فإن الله يعجل له خطة من الدنيا حين يشاء، ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق، مذموماً بما ارتكب، مدحوراً بما انتهى إليه من عذاب:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)} [الإسراء: 18].
فأهل الدنيا لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض، يتلطخون بوحلها ورجسها ودنسها، ويستمتعون فيها كالأنعام، ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات، ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم.
أما الذي يريد الآخرة فلا بدّ أن يسعى لها سعيها، فيؤدي تكاليفها، ويقيم سعيه لها على الإيمان، ثم يلقى التكريم في الآخرة، جزاء السعي الكريم في الدنيا: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 19].
إن الحياة للأرض، الحياة للدنيا، حياة تليق بالديدان والحشرات، والزواحف والهوام، والوحوش والأنعام، فأما الحياة الآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله.
على أن هؤلاء وهؤلاء إنما ينالون من عطاء الله، وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء: 20].
والتفاوت بين الناس في الدنيا ملحوظ بحسب أسبابهم وأعمالهم واتجاهاتهم، فكيف يكون التفاوت بين الناس في الآخرة التي الدنيا بالنسبة لها كقطرة من بحر: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)}... [الإسراء: 21].
فمن شاء التفاوت الحق، ومن شاء التفاضل الضخم، ومن شاء الدرجات العالية، فهو هناك في الآخرة، حيث الرقعة الفسيحة، والآماد الأبدية، والنعيم الفائق، والقصور الفاخرة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 26].
والدنيا لها وظيفة.. والآخرة لها وظيفة.
فالدنيا دار الإيمان والعمل.. والآخرة دار الثواب والعقاب.
والدنيا صغيرة ناقصة.. والآخرة كبيرة كاملة.. فيها كمال النعيم وكمال العذاب، والدنيا فانية زائلة.. والآخرة دائمة باقية، والدنيا مكان اجتماع الخلق كلهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، أما في الآخرة فيتفرقون، المؤمنون في الجنة، والكفار والعصاة في النار: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16].
ولهؤلاء نعيم وخلود بلا موت.. ولهؤلاء عذاب وخلود بلا موت.
والدنيا مكان الطاعات، ومهبط الرسالات، وزمان الأعمال الصالحة، وفيها بيوت الله، ومواطن الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها ساحات الجهاد في سبيل الله.. وفيها الآيات الدالة على عظمة الله وقدرته من سماء وأرض، وجبال وبحار، ونبات وحيوان، وإنس وجان، وليل ونهار، وحياة وموت: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: 39].
وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)}... [الروم: 22].
والمذموم من الدنيا كل حركة مخالفة لمنهج الله كالمعاصي والسيئات، وكفران النعم، وما أشغل الإنسان عن طاعة الله ورسوله من الأموال والأشياء، والأشخاص والأعمال كما قال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14].
وجميع ما على وجه الأرض جعله الله زينة لهذه الدار فتنة للناس واختباراً من مآكل لذيذة، ومشارب مختلفة، وملابس طيبة، ومياه وبحار، وزروع وأشجار وثمار، ورياض وأزهار، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحو ذلك كما قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)}... [الكهف: 7].
خلق الله كل ذلك ليبلوا خلقه أيهم أحسن عملاً.
فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها من نظر إلى ظاهر الدنيا دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، وغفلوا عن ربهم، ومعرفة شرعه والعمل به، فهؤلاء يتمتعون في الدنيا قليلاً، فإذا ماتوا عاقبهم الله بالنار: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} [آل عمران: 196 - 198]
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها ما يستعين به على ما خلق له، ويجعل الدنيا منزل عبور لا محل حبور، فيبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل الموصل للجنة.
فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم وسرور، إذ نظر إلى باطن الدنيا حين نظر المغتر إلى ظاهرها، وعمل لآخرته حين عمل البطال لدنياه، فشتان ما بين الفريقين والمنزلين كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [محمد: 12].
مختارات