فقه الدنيا والآخرة - الجزء الثانى
تصادم العقيدة الدينية والخلق والسلوك الديني مع الأوضاع والقوانين المخالفة لمنهج الله، فيحصل بسبب ذلك الشقاء والتعب.
والبشرية اليوم تعاني ما تعاني من ذلك الشقاء، فقد صور لها الأعداء أن الدين لله، وأن الحياة للناس يفعلون فيها ما يشاؤون، وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة، ضريبة الشقاء والقلق، والحيرة والخواء؛ لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الكامل الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع، ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة بل ينسق.
ولا تخدعنا ظواهر كاذبة في فترة موقوتة، حين نرى أمماً لا تؤمن ولا تتقي، ولا تقيم منهج الله في حياتها، وهي موفورة الخيرات، كثيرة الإنتاج، عظيمة الرخاء.
إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الإلهية الثابتة فعلها الثابت، وحتى تظهر آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي، والمنهج الرباني.
وقد حصل وظهر في صور شتى، ظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم، مما يجعل المجتمع حافلاً بالشقاء والأحقاد والخوف، وهذا بلاء على رغم الرخاء.
وظهر في الانحلال النفسي والخلقي، وظهر في القلق العصبي، والأمراض المنوعة التي اجتاحت العالم، وبخاصة أشدها رخاءً، مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال، ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج.
وظهر كذلك في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع كل لحظة، وقد بدأت بوادره، وهو خوف يضغط على أعصاب الناس فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية.
ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء التي حُرِمت أو حَرَمت نفسها من نعمة الإيمان.
وأخيراً.. يؤدي هذا الفصل بين الدين والدنيا في النهاية إلى الهلاك والدمار للأمم والشعوب.
فاتخاذ منهج للآخرة من عند الله، واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس، في حياة واحدة، ومجتمع واحد، كل ذلك يؤدي إلى التصادم المؤدي إلى الهلاك والدمار والاضطراب.
فدين الله عزَّ وجلَّ يقوم على الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله في الحياة، والقيام بالعمل والإنتاج للنهوض بالخلافة في الأرض.
وإذا اجتمعت هذه الأمور تحقق شرط الله لهذه الأمة، فأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا، وكُفِّرت عنهم سيئاتهم، ودخلوا جنات النعيم في الآخرة كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} [المائدة: 65 - 66].
فالأساس هو الإيمان والتقوى، وتحقيق المنهج الرباني في الحياة الواقعية، وهذا يتضمن في ثناياه العمل والإنتاج، وسهولة استقامة الحياة، فضلاً على أن للصلة بالله مذاقها التي يسعد بها المرء في حياته.
والله تبارك وتعالى غني عن العالمين، فالإيمان والتقوى والعبادة والصلة بالله، وإقامة شريعة الله في الحياة، كل ذلك ثمرته للإنسان والحياة الإنسانية: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6].
وإذا شدد المنهج الإسلامي على هذه الأسس والأصول فليس هذا معناه أن الله سبحانه يناله شيء من إيمان العباد وتقواهم وعبادتهم له، وتحقيق منهجه في الحياة، أو أن الله محتاج إلى ذلك، ولكن لأن الله جل جلاله رؤوف رحيم، يعلم أنه لا صلاح للبشرية ولا فلاح لها إلا بهذا المنهاج الإلهي الذي يسعدون به في الدنيا والآخرة.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبحر، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (1).
فشرط الله قائم.. والطريق إليه معروف.. والوفاء بالشرط سهل لو كانوا يعقلون.
والحياة في الإسلام ليست هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الإنسان، ولا هي هذه الفترة المحدودة التي تمثل عمر الأمة من الناس، كما أنها ليست هي هذه الفترة المشهودة التي تمثل عمر البشرية في هذه الحياة الدنيا.
بل الحياة واسعة تمتد طولاً في الزمان، فتشمل فترة الحياة الدنيا، وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها وعظمتها ونعيمها إلا الله، وفترة الدنيا بالنسبة إليها كساعة من نهار.
وتمتد الحياة في المكان فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر داراً أخرى: جنة عرضها كعرض السماء والأرض، وناراً تسع الكثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض كما قال سبحانه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21].
وتمتد في العوالم فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مغيب لا يعلم حقيقته كلها إلا الله، ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا الله به.
وتمتد الحياة في حقيقتها فتشمل هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا وإلى تلك المستويات الجديدة العالية الفائقة في الحياة الأخرى في الجنة وبعكس ذلك في النار.
وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا، ولا تساوي الدنيا بالقياس إليها جناح بعوضة.
إن الرغبة في الآخرة لا تعني إهمال الدنيا وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها، وتركها للطغاة والمفسدين تطلعاً إلى نعيم الآخرة، وإنما الدنيا مزرعة للآخرة، والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، ورفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء والظلم عن أهلها، وتحقيق الخير والعدل للناس جميعاً، كل أولئك هو زاد الآخرة.
والمسلم إنما يزاول هذه الحياة الدنيا وهو يعلم أنه أكبر منها وأعلى، ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا، خالصة له يوم القيامة كما قال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}... [الأعراف: 32].
ويجاهد المسلم لترقية هذه الحياة، وتسخير طاقاتها وقواها، وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة حين استخلفه الله فيها.
ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة، إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن ليس هناك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا، وأن الدنيا صغيرة زهيدة مؤقتة، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى في الآخرة.
والله تبارك وتعالى كما اجتبى الرسل، وأرسلهم لهداية البشرية، كذلك هو سبحانه اجتبى هذه الأمة، وأعطاها مهمة الإشراف على الحياة البشرية وقيادتها إلى القمة السامقة بالدين الكامل، الذي يزين حياتها ويجملها في الدنيا والآخرة، ووعدهم على ذلك الجنة.
مختارات