الصفة الرابعة من صفات المؤمنين المحافظة على الصلاة
إن من صفات المؤمنين الظاهرة: (المحافظة على الصلاة) وقد جعل الله -سبحانه- المحافظة على الصلاة من أسباب نيل الفردوس فقال -تعالى-: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
وقد استثنى الله في سورة المعارج المصلين من الهلعين الجزعين المانعين للخير، فقال سبحانه: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ.
ثم ختم أوصافهم بالمحافظة على الصلاة ووعدهم على ذلك الإكرام في الجنات، فقال سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ.
ومن أجل ذلك أمر الله بالمحافظة عليها في قوله: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وذم وتوعد من لم يحافظ عليها في قوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا.
وقال -تعالى-: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ.
وقال -تعالى- في ذم المنافقين … وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ.
وقال أيضًا فيهم: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى.
فهذه الآيات كلها تتوعد من أضاع الصلاة، واتبع الشهوات، وتهدده بالغي وبالويل، وتبين أن إضاعتها، والتكاسل عنها من صفات المنافقين لا المؤمنين وصرحت الآيات أن من صفات المؤمنين المحافظة عليها وإدامتها وإقامتها والخشوع فيها، ولكن ما المراد بالمحافظة على الصلاة؟
المحافظة عليها تشمل إتمام أركانها وشروطها وسنتها، وتشمل فعلها في أوقاتها في الجماعات في المساجد.
وقد فسر بعض السلف المحافظة على الصلاة بالمحافظة على الأوقات، أي: المواظبة عليها في مواقيتها، وهذا تفسير للكل بالبعض؛ إذ أن المحافظة على الصلاة تشمل مراعات أوقاتها، وتشمل إتمام أركانها وشروطها، وتشمل مراعات الجماعات في المساجد، وقد وردت أدلة فضل المواظبة على الصلاة في مواقيتها.
من ذلك ما ورد في الصحيح عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها الحديث.
كما وردت أدلة كثيرة في الترهيب من تأخير الصلاة عن وقتها؛ من ذلك ما ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: الذي تفوته صلاة العصر، كأنما وتر أهله وماله.
ومن ذلك قوله -تعالى-: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ وقد فسر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السهو عنها بأنه تأخيرها عن وقتها، كما ثبت ذلك عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، وفيه حديث مرفوع.
وقد وردت أدلة في الترهيب من تأخيرها عن وقتها، ومن ذلك قوله -تعالى-: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا وقد فسّر بعض السلف إضاعتها بتفويت وقتها، والتحقيق أن إضاعتها يشمل تأخير وقتها ويشمل تركها بالكلية، ويشمل ترك واجباتها وأركانها.
والله -سبحانه- قد جعل لكل صلاة وقتًا محدود الأول والآخر، ولم يأذن في فعلها قبل دخول وقتها ولا بعد خروج وقتها، والصلاة في الوقت واجبة على كل حال، حتى أنه يترك جميع الواجبات والشروط لأجل الوقت، فإذا عجز عن الوضوء، أو استقبال القبلة، أو طهارة الثوب والبدن، أو ستر العورة، أو قراءة الفاتحة، أو القيام في الوقت، وأمكنه أن يصلي بعد الوقت بهذه الأمور، فصلاته في الوقت بدونها هي التي شرعها الله وأوجبها.
وليس له أن يؤخر الصلاة بعد الوقت لأجل أن توجد هذه الشروط والأركان، فعلم بهذا أن الوقت مقدم عند الله ورسوله على جميع الواجبات، وهو داخل في المحافظة على الصلاة.
ويدخل في المحافظة عليها أيضا: فعلها جماعة في المسجد، فقد وردت أدلة كثيرة على وجوب الجماعة، من ذلك ما ورد عن عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله عنه - وكان رجل أعمى - إنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني شيخ ضرير البصر، شاسع الدار، بيني وبين المسجد نخل وواد، فهل من رخصة إن صليت في منزلي؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: أتسمع النداء قال: نعم، قال: أجب.
فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- مع العمى والعذر الشديد، بإجابة النداء وحضور الجماعة، ولو كان لأحد عذر في التخلف، لرخص -علية الصلاة والسلام- لهذا الشيخ ضعيف البدن، ضرير البصر، شاسع الدار بينه وبين المسجد نخل وواد.
ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: من يسمع النداء، ثم لم يجب، فلا صلاة له إلا من عذر.
ومن أدلة وجوب الجماعة: أن الله أوجبها في صلاة الخوف في قوله -تعالى-: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فأمر الله بالصلاة في الجماعة مع الخوف، ثم أعاد هذا الأمر مرة ثانية في حق الطائفة الثانية بقوله: وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ.
وفي هذا دليل على أن الجماعة فرض على الأعيان؛ إذا لم يسقطها الله -سبحانه- عن الطائفة الثانية بفعل الأولى، ولو كانت الجماعة فرض كفاية لسقطت بفعل الطائفة الأولى، ولو كانت الجماعة سنة لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف.
ومن أدلة وجوب الجماعة، الذي هو داخل في المحافظة على الصلاة قوله -تعالى-: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ إلى قوله -تعالى-: وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ.
ووجه الاستدلال بها: أن الله عاقبهم يوم القيامة بأن أحال بينهم وبين السجود لما دعاهم إلى السجود في الدنيا فأبوا أن يجيبوا الداعي.
وقد قال غير واحد من السلف في قوله -تعالى-: وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ هو قول المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح.
ومن أدلة وجوبها أيضًا قوله -تعالى-: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ.
ووجه الاستدلال بها: أن الله أمر بالركوع وهو الصلاة، عبّر عنها بالركوع؛ لأنه من أركانها، ولا بد أن يكون لقوله: مَعَ الرَّاكِعِينَ من فائدة أخرى، زيادة على الأمر بالصلاة، وليست إلا فعلها مع جماعة المصلين، كما تفيده المعيّة.
ومن الأدلة على الوجوب أيضا: ما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم أمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهما أنه يجد عرقًا سمينًا، أو مر ما بين حسنتين لشهد العشاء.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار.
وللإمام أحمد عنه -صلى الله عليه وسلم-: لولا ما في البيوت من النساء والذرية أقمت الصلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار وهذا الوعيد الشديد لا يكون إلا على ترك واجب، فدل على وجوب الجماعة.
ومن أدلة وجوبها حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرأهم فأمر -عليه الصلاة والسلام- بالجماعة، وأمره للوجوب.
ومن أدلة وجوبها أيضا أمره -صلى الله عليه وسلم- من صلى وحده خلف الصف أن يعيد الصلاة، كما في حديث وابصة بن معبد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة.
ومن أدلة وجوب الجماعة الذي هو داخل في المحافظة على الصلاة: حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن فيهم، ولا تقام فيهم الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية فأخبر -عليه الصلاة والسلام- باستحواذ الشيطان عليهم بترك الجماعة التي شعارها الأذان وإقامة الصلاة.
وقد وردت آثار عن الصحابة تدل على وجوب الجماعة؛ من ذلك: ما جاء عن عمر -رضي الله عنه- أنه فقد رجلا في الصلاة، فأتى منزله فصوّت به، فخرج الرجل قال: ما حبسك عن الصلاة؟ قال: علّة يا أمير المؤمنين، ولولا أني سمعت صوتك ما خرجت، أو قال: ما استطعت أن أخرج، فقال عمر لقد تركت دعوة مَن هو أوجب عليك إجابة مني: منادي الله إلى الصلاة، وجاء عن عمر أيضا أنه فقد أقوامًا في الصلاة فقال: ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة، فيتخلف لتخلفهم آخرون، ليحضرن إلى المسجد أو لأبعثن إليهم من يجافي رقابهم، ثم يقول: احضروا الصلاة، ثلاث مرات.
ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به، يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، وعن علي -رضي الله عنه- قال: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، قيل: ومَن جار المسجد؟ قال: من سمع المنادي.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: من سمع المنادي فلم يجب من غير عذر، لم يرد خيرًا، ولم يرد به. وجاء عن ابن عباس أنه سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، ولا يشهد جمعة ولا جماعة، فقال: هو في النار.
ومن أدلة وجوب الجماعة: الأخبار المذكورة في أبواب الرخصة في التخلف عن الجماعة لأصحاب الأعذار، كالمريض، والخائف على نفسه أو ماله، فإنها تدل على فرض الجماعة على من لا عذر له، ولو كان حال العذر وغير حال العذر سواء لم يكن للترخيص للمعذور معنى.
وقد وردت أدلة كثيرة في فضل الجماعة؛ من ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة.
ومن ذلك ما في صحيح مسلم عن عثمان بن عفان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله.
فكل هذه الأدلة تدل على وجوب الجماعة، وعلى فضلها، وأن فضل الصلاة جماعة في المسجد داخل في المحافظة على الصلاة، فحافظ عليها وأدّها في وقتها جماعة في المسجد؛ لتفوز بما وعد الله به المحافظين على صلواتهم من الثواب العظيم، وهو وراثة الفردوس والإكرام في الجنات، ولتسلم من التبعة والعقوبة، فإن الصلاة عمود الدين، وهي مقياس دين المرء، فمن حفظها فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وهي الفارقة بين الإسلام والكفر، وهي أول ما يحاسب الإنسان عنها بعد الشهادتين، رزقنا الله المحافظة عليها والاهتمام بها.
مختارات