فقه علم الرب - الجزء الثانى
والله سبحانه يعلم ما في السموات وما في الأرض، ويعلم كل شيء: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)} [سبأ: 2].
فهو سبحانه الذي يعلم ما يقع في كل لحظة من الحركات والسكنات، والأحجام والأشكال، والأقوال والأفعال، والمخلوقات والأشياء.
إن أهل الأرض كلهم لو وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع من أمر الله وخلقه في لحظة واحدة، لأعجزهم تتبعه، فضلاً عن إحصائه، لكن الله علام الغيوب يعلمه، فهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فكم من شيء في هذه اللحظة يلج في الأرض من مطر وبذر وحيوان؟.
وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها من نبات وحيوان، ومعدن وغاز؟.
وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء من الملائكة والأرزاق، والأقدار والأسرار، والأوامر والأمطار والرحمات؟.
وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها من الملائكة والأرواح والأعمال وغيرها؟
كم من شيء يلج في الأرض؟، وكم من حبة تختبئ في بطن هذه الأرض؟، وكم من دودة، ومن حشرة، ومن هامة، ومن زاحفة تلج في طول الأرض كلها؟.
وكم من قطرة ماء، ومن ذرة غاز، ومن إشعاع كهرباء، تندس في أحشاء هذه الأرض الفسيحة؟.
إن الله وحده هو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي يعلمه، وهو الذي دبره، وهو الذي يقوم عليه: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)} [السجدة: 6].
وكم يخرج من الأرض.. كم من نبتة تنبثق.. وكم من نبع يفور.. وكم من بركان يتفجر.. وكم من غاز يتصاعد..، وكم من مستور ينكشف.. وكم من حيوانات وحشرات تخرج من بيتها المستور؟.
وكم وكم يخرج منها مما يرى ومما لا يرى من المخلوقات؟.
إن الله يعلم ذلك كله، وهو الذي أعطاه أمر الوجود فوجد، وأمر البقاء فبقي، وأمر الحركة فتحرك، وأمر السكون فسكن وأعطاه أمر الحياة فحيا، وأعطاه أمر النفع والضر فنفع أو ضر.
فسبحان الخلاق العليم، وسبحان من أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، الذي لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء.
هذا بالنسبة للأرض، أما السماء فكم مما ينزل من السماء.. كم من نقطة مطر... وكم من شهاب ثاقب.. وكم من شعاع محرق.. وكم من شعاع منير.. وكم من قضاء نافذ.. وكم من قدر مقدور؟.
وكم من رحمة تنزل؟.. وكم من رزق ينزل؟.. وكم من أمر ينزل؟.. كم من أمر ينزل بالإحياء والإماتة.. والهداية والضلالة.. والعزة والذلة.. والعافية والمرض.. والسعادة والشقاوة؟.
وكم وكم مما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله وحده؟ الذي أحاط بكل شيء علماً.
إن الله يعلم جميع ذلك، ونحن لا نعلمه.
يا حسرة على العباد، ماذا علموا وماذا جهلوا من عظمة الرب، وقدرته، وجلاله وجماله، ودينه وشرعه؟: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)} [الأنعام: 91].
وكم مما يعرج في السماء؟.
كم من نفس صاعد من نبات وحيوان وإنسان؟.
وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مخفية لم يسمعها إلا الله في علاه؟.
وكم من شكوى رفعت لا يعلمها إلا الله عزَّ وجلَّ؟.
وكم من دعاء لا يحصيه ولا يجيب صاحبه إلا الله؟.
وكم من روح من أرواح الخلائق متوفاة؟.
وكم من مَلك يعرج بأمر الله؟.
وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله؟.
وكم من روح تفتح لها أبواب السماء؟.
وكم من روح تصعد ثم تطرح؟.
وكم من قطرة بخار صاعدة من بحر؟.
وكم من ذرة غاز صاعدة من جسم؟.
إن الله وحده هو الذي يعلم ذلك كله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} [آل عمران: 29].
إن هذا حديث عظيم يهز الجبال الرواسي، فأين العقول التي تفقه؟.. وأين القلوب التي تخشع؟.. وأين العيون التي تدمع رغبة ورهبة وخوفاً، وإجلالاً وتعظيماً، وتسبيحاً وتكبيراً لمولاها العزيز العليم؟.
ماذا مع البشر من العلم؟.. وأين يذهبون؟.
وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة، ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء؟.
أما إدراك جميع ما يجري في كل هذا الكون في كل اللحظات فأمر يفوق الخيال والتصور، ولا يدركه ولا يعلمه ولا يحيط به إلا العليم الخبير الذي وسع كل شيء رحمةً وعلماً، وأحصى كل شيء عدداً.
فسبحان عالم الغيب والشهادة، المطلع على الضمائر والسرائر، المحيط بكل مضمر وظاهر، في كل زمان، وفي كل مكان.
الذي لا يغيب عن علمه، ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ويعلم ما في كل قلب من النوايا والخواطر والإرادات: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)}... [يونس: 61].
إن الشعور بعلم الله وعظمته ورقابته على هذا النحو شعور مطمئن ومخيف معاً، مؤنس ومرهب معاً.
فشعور هذا المخلوق الضعيف، وهو مشغول بشأن من شؤونه، وإحساسه أن الله معه، شاهد أمره، حاضر شأنه، بكل عظمته سبحانه، وبكل قوته، وبكل هيبته وجبروته، الله خالق هذا الكون العظيم، ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان، الله مع هذا المخلوق الإنساني، الذرة التائه في الفضاء، لولا عناية الله تمسك به وترعاه، إنه شعور رهيب يرجف له الفؤاد، ويدفع المسلم إلى الحياء من ربه، وحسن الطاعة والانقياد له، لئلا يناله غضب الجبار وعقوبته. وهو كذلك شعور مؤنس مطمئن أن هذا الإنسان ليس مهملاً ولا متروكاً بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية.
إنه ليس شمول العلم وحده، ولكن مع ذلك شمول الرعاية، ثم شمول الرقابة التامة لكل ما في الكون: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} [يونس: 61].
إن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي يعلم ما فيه من المخلوقات التي لا يحصيها إلا هو.
فهذه الدواب التي تدب على وجه الأرض من إنسان وحيوان، وزاحفة وهامة، وطيور وحشرات، في البر والبحر والجو، ما من دابة من هذه الدواب التي تملأ وجه البسيطة، وتكمن في باطنها، أو تطير في جوها، أو تختفي في مساربها ودروبها، ما من دابة من هذه الدواب التي لا يحصيها إلا الله وحده، إلا وعند الله علمها، وعلى الله رزقها، وهو الذي يعلم أين تستقر؟ وأين تكمن؟، ومن أين تجيء؟، ومن أين تذهب؟، ومن أين تأكل؟.
وكل منها مقيد في علم الله حياً، ومقيد في علم الله ميتاً، ولا يعزب عنه منها شيء: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6].
إن فؤاد الإنسان يرجف، وكيانه يهتز، حين يرى عظمة العلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات في هذا الكون العظيم، وحين يحاول تصور ذلك بخياله الإنساني فلا يطيق، ويزيد على مجرد العلم بها تقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا الحشد الكبير من المخلوقات الهائلة، والذي يعجز عن تصوره الخيال البشري، كمية ونوعية.. ومكاناً وزماناً.. وإيصاله لكل مخلوق.
وقد أوجب الله سبحانه على نفسه، وتكرم على خلقه مختاراً أن يرزق جميع هذه المخلوقات الكثيرة الهائلة التي تدب على وجه هذه الأرض.
فأودع الله عزَّ وجلَّ هذه الأرض، ودحاها بالأرزاق، وأودع فيها القدرة على تلبية حاجات هذه الكائنات جميعاً، وأودع هذه الكائنات القدرة على الحصول على رزقها من هذا المودع في الأرض، ساذجاً خامة كالمعادن، أو منتجاً بالزرع، أو مصنوعاً، أو مركباً إلى غير ذلك من الصور المتجددة لإنتاج الرزق وإعداده وحفظه.
فسبحان العليم القدير: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3].
وعلمُ الله عزَّ وجلَّ واسع شامل، لا يند عنه شيء، فالله سبحانه يعلم الحمل المكنون في الأرحام، والسر المكنون في الصدور، والحركة الخفية في جنح الظلام، والحب المدفون في التراب، والدواب التي تدب في قعر البحار.
ويعلم سبحانه كل مستخف بالليل، وكل سارب بالنهار، وكل هامس، وكل جاهر، وكل أولئك مكشوف لعلم الله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} [الرعد: 8 - 10].
مختارات