من روائع قصص الإعجاز التشريعي في الإسلام
من الإعجاز التشريعي في الإسلام: (مرونة تطبيق أحكام شريعته) التي تسهل على المسلمين الانقياد لأحكامه مهما كانت ظروفهم.
فأحياناً تلتزم تنفيذ طاعة، لكنك وأنت مقبل عليها يعترضك ظرف طارئ خارجي يمنعك من فعلها، فلا تؤاخذ لأنك معذور.
وأحياناً تكون مكرهاً على ارتكاب مفسدة، لأنها تحقق منفعة عظيمة متعدية لكل الناس، أو لأنها تدفع مفسدة أكبر منها.
ومثال ذلك، أن الفتى المذكور في قصة أصحاب الأخدود (كما في سورة البروج) طلب من الحاكم أن يقتله بعد أن يذكر اسم الله، فلما فعل الحاكم ذلك آمن كل الناس. فقتل الفتى مفسدة، لكن تحققت منفعة متعدية أكبر منها وهي إيمان الناس.
ومثاله أيضاً تخريق سيدنا الخضر لسفينة المساكين الذين يعملون في البحر (كما في سورة الكهف)، دفعاً لمفسدة أكبر وهي أخذ الملك لسفينتهم الصالحة غصباً.. فأن تبقى السفينة للمساكين وفيها خرق مفسدة، لكنها خير من مفسدة أكبر بأن تضيع كلها.
وهذا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يقم بهدم الكعبة وإعادة بنائها على أسس سيدنا إبراهيم، حتى لا يفتن الناس حديثي العهد بالإسلام.
كما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قطع بول الأعرابي الذي بال في المسجد خطأً، لأن في ذلك ضرر أشد على الأعرابي صحياً ونفسياً، وفيه مظنة انتشار النجاسة في أكثر من مكان بالمسجد.
نعم.. أحياناً تصاب بالحيرة: هل أترك عملاً واجباً لأجل غيره؟
هل أفعل أمراً محرماً من أجل تحصيل منفعة عظيمة يستفيد منها الآخرون؟
هاتان قصتان، الأولى في ترك واجب، والثانية لفعل محرم..
أولاً: قصة فتح مدينة تستر [1]:
حين وصل المسلمون مدينة تستر المحصنة، حاصروها أشهراً طويلة. ودخل فصل الشتاء ببرده، وكان بين الجيشين مناوشات ومبارزات وفي إحدى المبارزات " قال المسلمون للبراء بن مالك (وكان محاب الدعوة) يا براء أقسِم على ربك ليهزمنهم لنا. فقال: اللهم اهزمهم لنا واستشهدني. فهزمهم المسلمون حتى أدخلوهم خنادقهم واقتحموها عليهم ولجأ المشركون إلى الحصن فتحصنوا به ".
وبعد انتصار المسلمين في تلك المبارزة، حدث أمر غيّر مجرى الأمور، فقد طلب رجل من أسرى مدينة تستر الأمان من قائد المسلمين أبو موسى الأشعري فأمنه، فبعث يدل المسلمين على مكان يدخلون منه إلى تستر، وهو مِن مدخل ماء النهر إلى الحصن. " فندب الأمراء الناس إلى ذلك فانتدب رجال من الشجعان والأبطال، وجاؤوا فدخلوا مع الماء كالبط، وذلك في الليل. فيقال كان أول من دخلها عبد الله بن مغفل المزني، وجاؤوا إلى البوابين فأناموهم، وفتحوا الأبواب، وكبَّر المسلمون فدخلوا البلد، وذلك في وقت الفجر، إلى أن تعالَى النهارُ ولم يصلوا صلاة الصبح يومئذ إلا بعد طلوع الشمس ". [2]
فهنا نجد أن خيار الصحابة من المسلمين ـ ومعهم البراء بن مالك وأخوه أنس بن مالك وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين ـ تركوا واجب صلاة الفجر على وقتها، خشية أن يمنعهم الانشغال بالصلاة عن استغلال فرصة فتح الحصن، فيضيع جهد إخوانهم الذين قاموا بالعملية الفدائية.. لذا كان فتح الحصن الذي فيه منفعة عظيمة متعدية، وقاموا بصلاة الصبح بعد طلوع الشمس حيث خطب فيهم أنس بن مالك لينبههم إلى أهمية صلاة الفجر، وحتى لا يتكاسل عنها المسلمون بلا مسوغ شرعي: " وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها ".[3]
ثانياً: قصة فك حصار مدينة عكا:
حاصر الفرنجة مدينة عكا، وللتضييق على أهلها ودفعهم للاستسلام: نصبوا منجنيقاً يرمي أسوارها، فأخذ أهلها يرمون الجنود الموكلين بالمنجنيق بالسهام، فأقام الفرنجة ساتراً ترابياً يحميهم، مما استدعى رميهم بكمية أكبر من السهام رمياً متواصلا لا ينقطع ليلاً ونهاراً؛ لمنعهم.
ثم قام الفرنجة بحصار عكا من جهة البحر، فقلت المؤونة في عكا، وشحَّت النبال.. فأرسلوا إلى صلاح الدين، فكيف سيفك الحصار عنهم ويمدهم بالمؤن؟
" أرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمرهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخر إنفاذها، فسيَّر إلى نائبه بمدينة بيروت في ذلك، فسيَّر بطسة [4] عظيمة مملوءة من كل ما يريدونه، وأمر مَن بها فلبسوا ملابس الفرنج وتشبهوا بهم ورفعوا عليها الصلبان، فلما وصلوا إلى عكا لم يشك الفرنج أنها لهم، فلم يتعرضوا لها، فلما حاذت ميناء عكا أدخلها من بها، ففرح بها المسلمون، وانتعشوا وقويت نفوسهم ". [5]
وزاد ابن شداد [6] أن المسلمين حلقوا لحاهم، ووضعوا الخنازير على سطح البسطة، فلما رآهم الفرنجة قد اقتربوا من عكا ظنوهم من إخوانهم لكن استغربوا وجودهم، فأخبروهم أنهم سمعوا أن عكا دخلها الفرنجة وأنهم يحملون الأقوات للجنود، فسمحوا لهم.. ولما اكتشفوا خديعتهم كان المسلمون قد اقربوا من عكا، ويسر الله لهم الريح فوصل المركب إلى شاطئ عكا بفضل الله تعالى.
تعقيب:
بعد بيان هاتين القصتين، تأمل قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " الشَّرِيعَةُ مَبْنَاهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا. وَالْوَرَعُ تَرْجِيحُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَدَفْعِ شَرِّ الشَّرَّيْنِ وَإِنْ حَصَلَ أَدْنَاهُمَا ". [7]
وقال: " لَيْسَ الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ الْخَيْرَ مِنْ الشَّرِّ، وَإِنَّمَا الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ، وَينْشد: إنَّ اللَّبِيبَ إذَا بَدَا مِنْ جِسْمِهِ مَرَضَانِ مُخْتَلِفَانِ دَاوَى الأخْطَرَا وَهَذَا ثَابِتٌ فِي سَائِرِ الْأُمُور ". [8]
ويؤيد هذا المعنى ما نقله سفيان بن عيينة عن عمرو بن العاص: " ليس العاقل مَن يعرف الخير من الشر، ولكن هو الذي يعرف خير الشرين ". [9]
* القاعدة هنا: قد يكون الفعل في ذاته محرماً لترتب مفسدة عليه، لكن يجوز القيام به إن تحصلت به منفعة أكبر، أو اندفعت به مفسدة أشد.
ومن تطبيقات هذه القاعدة:
- الكذب مفسدة لكنه يجوز لمصلحة المسلمين إذا أسر العدو مسلماً وطلب منه كشف عورات جيش المسلمين.
- إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار ـ عند حدوث وباء أو زلزال.. ـ بحيث استحال تمييزهم، يجب غسل جميع الموتى وتكفينهم، ثم يُجمَعون وينوي الإمام والمأمومون صلاة الجنازة على المسلمين من المجموع خاصة. [10]
- قول كلمة الكفر مفسدة، لكن إذا أكرِه المسلم عليها يجوز التلفظ بها ظاهرياً إنقاذاً لحياته.
- إذا ازدحمت الأعمال فأفضلها ما اشتدت الحاجة إليه، فمثلاً:
أ. ذكر الله خير من الجلوس مع الأصدقاء، لكن إذا جاءك ضيف فإن الانشغال بضيافته وإكرامه خير من الانشغال عنه بالتسبيح والأذكار. [11]
ب. عند اشتداد الفتن فإن اعتزال الناس وفسادهم مكرمة.. لكن: إذا أصابت الناس مصيبة عامة، فأفضل الأعمال مساعدة الناس والتصدق عليهم والتبرع بالدم... الخ
ج. قراءة القرآن خير من الذكر، لكن حين يؤذن المؤذن فالانشغال بإجابته خير.
د. عند احتلال الأرض فأفضل الأعمال الجهاد.. وهكذا.
ومن القصص عن السلف في ذلك: خرج الخليفة سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز إلى البوادي، فأصابه سحاب فيه برق وصواعق، ففزع منه سليمان ومَن معه، فقال عمر: إنما هذا صوت نعمة فكيف لو سمعت صوت عذاب؟
فقال سليمان: خذ هذه المائة ألف درهم وتصدق بها.
فقال عمر: أوَ خيرٌ من ذلك يا أمير المؤمنين؟
قال: وما هو؟
قال: قوم صحبوك في مظالم لم يصلوا إليك، فجلس سليمان فرد المظالم.
ويظهر عند عمر وضوح فقه ترتيب الأولويات، فردُّ المظالم مقدم على بذل الصدقات. [12]
والحمد لله على نعمة الإسلام.
مختارات