نشأة الذرية معجزة علمية
في قوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ. إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ. فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾ الطارق 5-10؛ الماء الدافق تعبير وصفي للمني لأنه سائل تركيبه يماثل قطيرات الماء إلا أنه حي تتدفق تكويناته وتتحرك بنشاط ويصدق عليها الوصف بصيغة اسم الفاعل (دافق) لدلالته على الحركة الذاتية، وجميع الأوصاف عدا وصف الماء بالدافق تتعلق بالإنسان لأن بدء خلقه هو محور الحديث والموضوع الرئيس وهو المستدل به علىإمكان الإرجاع حياً، وضمير (له) في قوله تعالى ﴿فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾ لا يستقيم عوده إلى الماء وإنما إلى الإنسان، وضمير (رجعه) في قوله تعالى ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾الأظهر عوده إلى الإنسان والإرجاع هو إعادة الخلق للحساب بقرينة وقت الإرجاع ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾، ولا توجد ضرورة لتشتيت مرجع الضمائر في ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾ و﴿خُلِقَ مِن مّآءٍ﴾ و(رجعه) في ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾و﴿فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾ ولذا الأولى عود ضمير (يخرج) في ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾إلى الإنسان كذلك مثلها، خاصة أن المني لا يخرج بذاته كذلك وإنما من الخصية، والوصف بالإخراج آية مستقلة كبيان متصل بأصل الحديث عن الإنسان، وبيان القدرة المبدعة وسبق التقدير وإمكان الإعادة أظهر في إخراج الذرية من ظهور الأسلاف، والتلازم قائم بين (إخراج) الإنسان للدنيا وليداً و(إرجاعه) حياً بينما لا تلازم بين (إخراج) المني و(إرجاع) الإنسان، وخروج ذرية الإنسان من الظهر مُبَيَّنفي قوله:﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ﴾ الأعراف 172،، وقوله: ﴿أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَلابِكُمْ﴾ النساء 23، ولم يرد في القرآن فعل (الإخراج) متعلقا بالمني بينما ورد كثيرا متعلقا بالإنسان لبيان خروجه للدنيا وليداً وخروجه حياً للحساب، وللوجدان أن يقشعر من تلك الدقة المتناهية التي ميزت بين موضع تكون أعضاء إنتاج الذرية في الظهر وموضع خروجها على طريقهجرتها!.
والحقيقة العلمية هي أن الأصول الخلوية للخصية في الذكر أو المبيض في الأنثى تجتمع في ظهر الأبوين خلال نشأتهما الجنينية ثمتخرج من الظهر من منطقة بين بدايات العمود الفقري وبدايات الضلوع ليهاجر المبيض إلى الحوض بجانب الرحم وتهاجر الخصية إلى كيس الصفن حيث الحرارة أقل وإلا فشلت في إنتاج الحيوانات المنوية وتصبح معرضة للتحول إلى ورم سرطاني إذا لم تُكمل رحلتها، والتعبير ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ يفي بوصف تاريخ نشأة الذرية ويستوعب كافة الأحداث الدالة على سبق التقدير والاقتدار والإتقان والإحكام في الخلق منذ تكوين البدايات في الأصلاب وهجرتها خلف أحشاء البطن ابتداءً من المنطقة بين الصلب والترائب إلى المستقر، وحتى يولد الأبوان ويبلغان ويتزاوجان وتخلق الذرية مما يماثل نطفة ماء في التركيب عديمة البشرية من المني لكنها حية تتدفق ذاتياً لتندمج مع نطفة نظير فتتكون النطفة الأمشاج من الجنسين، ويستمر فعل الإخراجساري المفعول ليحكي قصة جيل آخر لجنين يتخلق ليخرج للدنيا وليداً وينمو فيغفل عن قدرة مبدعه، وكل هذا الإتقان المتجدد في الخلق ليشمل تاريخ كل إنسان قد عبر عنه العليم الحكيم بلفظة واحدة تستوعب دلالاتها كل الأحداث: ﴿يَخْرُجُ﴾، فأي اقتدار وتمكن في الخلق والتعبير!، ومعكلتلك المشاهد المتجددة والتقديرات المبدعة والقدرة المفزعة هل يرد مجرد هاجس على الخاطر: أنبعثُ حقاً ونُحَاسَب!.
وهكذا يتصل العرض وينقلك في ومضة من مشاهد بدايات مقدرة تسبق وجود الإنسان إلى حيث يقف عاجزا معرَُى السريرة ليواجه مصيره وحده بلا أعوان فيتجلى بتلك النقلة الكبيرة الفارق في أحواله، وسرعة النقلة تؤكد التقدير وسبق التهيئة وتجلي قدرة الله تعالى وحكيم تدبيره مؤيدةً ]إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ[،قال الكلبي: " الضمير في إنه لله تعالى وفي رجعه للإنسان "، وقال المراغي: ]فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ [أي فلينظر بعقله وليتدبر في مبدأ خلقه ليتضح له قدرة واهبه وأنه.. على إعادته أقدر.. ]خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ[.. حقائق علمية تأخر العلم بها والكشف عن معرفتها وإثباتها ثلاثة عشر قرنا، بيان هذا أن صلب الإنسان هو عموده الفقري (سلسلة ظهره) وترائبه هي عظام صدره.. وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا في منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات التي حيرت الألباب.. فكل من الخصية والمبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلى ويقع بين الصلب والترائب أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا ومقابل أسفل الضلوع.. فإذا كانت الخصية والمبيض في نشأتهما وفي إمدادهما بالدم الشرياني وفي ضبط شئونهما بالأعصاب قد اعتمدتا في ذلك كله على مكان في الجسم يقع بين الصلب والترائب فقد استبان صدق ما نطق به القرآن الكريم وجاء به رب العالمين ولم يكشفه العلم إلا حديثا بعد ثلاثة عشر قرنا من نزول ذلك الكتاب، هذا وكل من الخصية والمبيض بعد كمال نموه يأخذ في الهبوط إلى مكانه المعروف فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها في الصفن ويهبط المبيض حتى يأخذ مكانه في الحوض بجوار بوق الرحم، وقد يحدث في بعض الأحيان ألا تتم عملية الهبوط هذه فتقف الخصية في طريقها ولا تنزل إلى الصفن فتحتاج إلى عملية جراحية.. وإذا هدي الفكر إلى كل هذا في مبدأ خلق الإنسان سهل أن نصدق بما جاء به الشرع وهوالبعثفي اليوم الآخر.. ]إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [أي إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء.. قـادر أن يرده حيا بعد أن يموت ".
واقتدار الخالق شاخص في كل العرض بينما يتملى الخيال مشاهد أعرضت عن الإنسان فعبرت عنه بالغائب في ومضات تُعَرِّيه من الخيلاء وتفاجئه بأصله ومصيره طاويةً حياته ومماته وكأنه لم يكن، في مقابل مشهد استكباره في تبجحصارخ يعلنه الاحتجاج المستهل بحرف (الفاء) ليفصح بأصل دلالته على التعقيب عن محذوف يكشف ما يجول في طوية نفسه: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُمِمّ خُلِقَ﴾، كأنه صيحة مدوية مؤنبة تقول: ألم تحدثك نفسك؟، وليس للإنسان في تلك المحاكمة إلا حضورا باهتا داخل قفص الاتهام في زاوية من المخيلة بينما تشخص عياناً أدلة التجريم؛ وكأنه تعالى يقول: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىَ﴾ القيامة 40، وهذا المشهد الأصغر لتعري السرائر مثال لمشهد يوم عظيم ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾، فتأمل الاتساق في عرض المشاهد، تصوير عجيب يكشف ما قبل فتح الستار وحتى بعد ضمه تبقى في الخاطر شتى صور العقاب وتأز في المسامع نيران تتشوق لمن يشك لحظة في قدرة الخالق سبحانه!، أسلوب مذهل جامعفريدلا يبلغه اليوم أي كتاب ينسب للوحي؛ قد بلغ الذروة في التصوير وثراء المعني مع الغاية في إيجاز اللفظ، وأماالتفاصيل العلمية التي يستحيل أن يدركها بشر زمن التنزيل فهي بعض دلائل النبوة الخاتمة التي تسطع اليوم أمام النابهين.
العرض التفصيلي
في مشاهدٍ بلغت أسمى درجات الإحكام في البيان يكشف القرآن جملةً من أسرار نشأة الإنسان، ويأخذه في رحلةٍ طويلةٍ تتعدد فيها مشاهدُ ماضيهِ لتبلغ به نشأة أجيال تسبقه يتنقل مُقَدَّرًاً في عالمٍ لا تدركه عين سموه " عالم الذر "، وقبل أن يصبح إنساناً ذي فكرٍ لم يوظفه لمعرفة خالقه بل طغى غافلاً عن قدرة الله على البعث والحساب كان كائناً أشبه ما يكون بقطيرة ماء؛ نطفه لا ترىإلا أنها حية تسعى دافقة تتحرك ذاتيا بتوجيه وتجسد مقدار النقلة الهائلة!، وفي تحدٍّ صارخ قبل أن ينشأ علم الأجنة بقرون ويتحقق البشر بيقين يجاهر القرآن ويكشف العلم بمنشأ أعضاء إنتاج الذرية مع نشأة أعضاء البدن قبل أن تتحول عن موضعها وتستقر، يقول العلي القدير:﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ. إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَىَالسّرَآئِرُ. فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾ الطارق 5-10، نقلات ضخمة في تاريخ نشأة الإنسان حيرت أعلام المفسرين للقرآن الكريمفتألقوا في بيان المغزى وقبل أن تكشف العلوم التجريبية الكيفيات برعوا في تصورها حتى كادوا يصيبوا بضربات المعاول عين النبع، فلما أضاءت الكشوف الساحة تآزرت المعاول وفاض النهر، والمعلوم أن المني يُقذف مدفوقاً في دفعات، لكن السر المبهر بوصفه فاعلاً يوافق تدافع الحوينات المنوية تحت المجهر مفطورةً على التسابق، وأما موضع خروج أعضاء إنتاج الذرية من بين الصلب والترائب لتنفصل وتتميز فقد أيده بيان نشأتها في الظهر أو منشأ العمود الفقري، يقول تعالى: ﴿وَحَلَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَلابِكُمْ﴾ النساء 23، وفي بيان فطرية الإيمان وأصل نشأة الإنسان يقول تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىَ شَهِدْنَآ﴾ الأعراف 172، وذلك هو ما يقرره اليوم علم الأجنة من أن أعضاء إنتاج الذرية تجتمع أصولها بالفعل في الظهر ثم تخرج وتنفصل وتتميز بين أصول العمود الفقري والضلوع بجوار الكلية، وفي البالغ تظل الأوعية الدموية واللمفاوية والأعصاب ممتدة إلى منطقة الكلية حيث تنشأ الخصية أو المبيض، والسؤال أمام كل تقدير: لأي غرض؟ العالمون يجيبون: الرحم في الحوض ولا تنتج الخصية إلا في كيس الصفن حيث الحرارة أقل، ولك أن تدهش؛ من أدراهما؛ أهي حنكة الثوب المحبوك بمهارة أم الحائك!، ومع كل تلك المشاهد المتجددة والتقديرات المبدعة والقدرة المفزعة هل يرد مجرد هاجس على الخاطر: أنبعثُ حقاًونُحَاسَب!
الجوانب العلمية
(1) نبذة تاريخية:
عاش أرسطو Aristotleمعلم الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد (384-322 ق.م.)، وقد اكتسب شهرة واسعة نتيجة لتأملاته في كثير من الظواهر الطبيعية قبل اكتشاف المجهر في القرن السابع عشر، وله مساهمات تجريبية في وصف تطور جنين الدجاجة وغيرها بالعين المجردة حتى أن البعض يعتبره واضع الأساس لعلم الأجنة، ومع ذلك فقد جاءت الثورة العلمية الحديثة ابتداء من القرن السابع عشر بمكتشفات نقضت معتقداته، مثل اعتقاده بتخلق الجنين من دم الحيض Menstrual Blood بالاتحاد مع المني، وليس هو أول من وصف تطور جنين الدجاجة من الإغريق فقد سبقه أبو قراط Hippocratesبحوالي قرن عدا كثير من اجتهاداته في الطب حتى أن من يهمل من الغربيين مساهمات الشعوب ويقصر تاريخ العلوم على الإغريق يعتبره أبو الطب، وربما كان جالن Galenالذي عاش بعد أرسطو بقرنين أكثر منه دقة في كثير من أوصاف أجنة الحيوان بالعين المجردة، وفي العصور الوسطى قبل النهضة عاشت أوروبا في كساد علمي لم يتجاوز كثيرا ترديد أفكار القدامى، ولذا يتعجب البروفيسور كيث مور Keith Moore (رئيس قسم التشريح وعلم الأجنة بجامعة تورنتو في كندا) في كتابه " تخلق الجنين البشري " TheDeveloping Human من وفرة وتآزر الحقائق العلمية المتعلقة بخلق الجنين في القرآن، فيقول: " لم تُضف في العصور الوسطى معلومات ذات قيمة في مجال تخلق الجنين، ومع ذلك قد سجل القرآن في القرن السابع وهو الكتاب المقدس عند المسلمين أن الجنين البشري يتخلق من أخلاط تركيبية من الذكر والأنثى، مع بيان تخلق الجنين في أطوار ابتداءً مما يماثل في التركيب قطيرة أو نطفة تنغرس وتنمو في الرحم كالبذرة.. ومع وصف الجنين في أول مرحلة بما يماثل العلقة Leechالتي تعيش على مص دماء الغير ثم مما يماثل كتلة ممضوغة بما فيها من علامات أسنان وانبعاجات وهو ما يتفق تماما مع تطور الأعضاء في تلك المرحلة بالفعل، وإذا أردت مزيدا من الأوصاف العلمية في القرآن في مجال علم الأجنة فإني أحيلك إلى كتابي طبعة 1986..، مع العلم أن أول من درس جنين الدجاجة باستخدام عدسة بسيطة هو هارفي Harveyعام 1651، ودرس كذلك جنين الأيل Deerولصعوبة معاينة المراحل الأولى للحمل استنتج أن الأجنة ليست إلا إفرازات رحمية، وفي عام 1672 اكتشف جراف Graafحويصلات في المبايض ما زالت تسمى باسمه Graafian Folliclesوعاين حجيرات في أرحام الأرانب الحوامل تماثلها فاستنتج أن الأجنة إفرازات من المبايض، ولم تكن تلك التكوينات الدقيقة سوى تجاويف في كتل الخلايا الجنينية الأولية Blastocysts، وفي عام 1675 عاين مالبيجيMalpighiأجنة في بيض دجاج ظنه غير محتاج لعناصر تخصيب من الذكر واعتقد أنه يحتوى على كائن مصغر ينمو ولا يتخلق في أطوار، وباستخدام مجهر أكثر تطوراً عاين هام Hammوليفنهوك Leeuwenhoekالحوين المنوي للإنسان للمرة الأولي في التاريخ عام 1677، ولكنهما لم يدركا دوره الحقيقي في الإنجاب وظنا أيضاً أنه يحتوي على الإنسان مصغراً لينمو في الرحم بلا أطوار تخليق، وفي عام 1759 افترض وولف Wolffتطور الجنين من كتل أولية التكوين ليس لها هيئة الكائن المكتمل، وحوالي العام 1775 انتهى الجدل حول فرضية الخلق المكتمل ابتداءً واستقرت نهائيا حقيقة التخليق في أطوار وأكدت تجارب إسبالانزاني Spallanzaniعلى الكلاب على أهمية الحوينات المنوية في عملية التخليق.. وقبله سادت الفكرة بأن الحوينات المنوية كائنات غريبة متطفلة ولذا سميت بحيوانات المني Semen Animals، وفي عام 1827 بعد حوالي 150 سنة من اكتشاف الحوين المنوي عاين فون بير von Baerالبويضة في حويصلة مبيض إحدى الكلاب، وفي عام 1839 تحقق شليدن SchleidenوشوانSchwannمن تكون الجسم البشري من وحدات بنائية أساسية حية ونواتجها وسميت تلك الوحدات بالخلاياCellsوأصبح من اليسير لاحقا تفهم حقيقة التخلق في أطوار من خلية مخصبة ناتجة عن الإتحاد بين الحوين المنوي والبويضة.. وفي عام 1878 اكتشف فليمنج Flemmingالفتائل الوراثية داخل الخلايا البدنية، وفي عام 1883 اكتشف بينيدن Benedenاختزال عددها في الخلايا التناسلية، وفي القرن العشرين تمالتحقق نهائيا من احتواء الخلية البشرية الأولى Zygotعلى العدد الكامل من تلك الأخلاط الوراثية من الذكر ومن الأنثى " (1).
(2) أطوار تخليق الجنين Embryo Developmental Periods:
يحدث الإخصاب قرب الطرف الخارجي لقناة الرحم ثم تبدأ البويضة الملقحة في الانقسام لتتحول إلى ما يشبه التوتة Morula، ويظهر بداخلها تجويف ليقسم الخلايا إلى طبقة خارجية وكتلة خلوية داخلية Inner Cell Massينشأ منها الجنين، فتتحول التوتةإلى كيس الأرومة Blastocystالذي ينغرس في جدار الرحم في نهاية الأسبوع الأول، وينتهي الإنغراس بنهاية الأسبوع الثاني وخلاله تتحول الكتلة الداخلية إلى هيئة قرص ثنائي الطبقات، وفي الأسبوع الثالث تكون بهيئة قرص ثلاثي الطبقات Trilaminar Embryonic Disc، ومع بداية الرابع تتضح الكتل الظهرية Somitesالتي تنشا منها فقرات الظهر ويبدأ القلب في ضخ الدم ويستمر تكوين كل الأعضاء الأولية للجسم لتكتمل مع نهاية الأسبوع الثامن ولذا تسمى بالفترة الجنينية Embryonic Period، ويبدأ التكامل وتعديل الهيئة من بداية التاسع إلى الولادة بعد تسعة أشهر (266 يوماً) وتسمى بالفترة الحملية Fetal Period.
(3) تقدير جنس الجنين Embryo Sex Determination:
يبدأ تاريخ الإنسان بالإخصاب Fertilization باتحاد البويضة Ovumالتي تحتوي على 22 فتيلة وراثية Chromosomeبدنية تحمل المعلومات التوجيهية اللازمة لتنفيذ مشروع الجنين المقبل بالإضافة إلى فتيل وراثي جنسي يحمل شارة الأنوثة بهيئة (X)مع حوين منويSperm يحتوي على 22 فتيلة بدنية بالإضافة إلى فتيلة جنسية تحمل إما شارة الذكورة بهيئة (Y)أو شارة الأنوثة بهيئة (X)كالبويضة، وليس للبويضة أعضاء حركة بينما يحتوي المني المتدفق عند القذف Ejaculation على ملايين الحوينات النشطة الحركة لينتخب أحدها ويتحد بالبويضة فتتكون أول خلية بشرية Zygot ويكتمل عدد الفتائل الوراثية بهيئة أزواج متماثلة Matched pairsخلائط من الأبوين، وتتسابق الحوينات وتعلو في المجارى التناسلية للأنثى، فإذا سبق الحوين الذي يحتوي على نصف الفتائل البدنية بالإضافة إلى الفتيلة الجنسية ذات شارة الذكورة بهيئة (Y)واتحد مع البويضة ذات النصف المكمل من الفتائل البدنية بالإضافة إلى فتيلة جنسية تحمل شارة الأنوثة (X)كان الجنين ذكراً تحتوي خلاياه على فتيلتين وراثيتين بهيئة (XY)بالإضافة إلى 22 زوجا بدنيا متماثلا، وإذا سبق الحوين ذو الشارة (X) مثل البويضة كان الجنين وراثياً أنثى فتائله الجنسية بهيئة (XX).
وبتكون البرنامج الوراثي تتحدد جميع الصفات البدنية ويتحدد جنس الجنين، وبعدئذ يبدأ انقسام الخلية الأولى ويبدأ التزايد في عدد الخلايا وكتلة الجنين ويبدأ التمايز وفق المشروع الخلقي المسجل بهيئة ترتيبات جزيئية محددة الخطوات، وقبل ذلك خلالمرحلة غور السائل المنوي في المجارى التناسلية للأنثى والانقباضات الرحمية التي تسحبه نحو البويضة لا يمكن التنبؤ بشيء.
(4) تميز جنس الجنين Embryo Sex Differentiation:
يتقرر جنس أجنة الثدييات عموماً عند الإخصاب بتوريث فتيلة وراثية من الذكر إما بهيئة (Y)فينتج ذكراً أو بهيئة (X)فتنتج أنثى، ولكن لا تتميز الأعضاء الجنسية الداخلية إلا في الأسبوع السابع ولا تتميز الأعضاء الجنسية الخارجية إلا في الثامن، وفي البداية تتماثل أجنة الجنسين وتوجد أعضاء أولية لتكوين أيٍّ من الأعضاءالجنسيةالداخلية للنوعين بهيئة قناتين في كل جانب من تجويف البطن في مقدمة كتلة الظهر؛ قناة وولف Wolffian ductتتكون منها الأعضاء الجنسية الداخلية في الذكور وتشمل الحويصلات المنوية Seminal Vesiclesوالبربخ Epididymisوالوعاء الناقل Vas Deference، وقناة مولر Mullerian Ductتتكون منها الأعضاء الجنسية الداخلية في الإناث وتشمل الرحم وقناتيه وعنقه والمنطقة أعلى المهبل، ويكون الجنين واحد الهيئة في الجنسين كحالة تشمل كل نفس، ولذا تسمى فترة النفس الواحدة تلك من حياة الجنين بمرحلة عدم التمايز Indifferent stage.
وتحتوي كل فتيلة وراثية على عدد هائل من الوحدات الوراثية تسمى جينات Genes، ويحتوي كل منها على توجيهات وراثية نحو صفات محددة كلون الشعر أو طول الجسم، والجين المسئول عن تحديد الذكورة سائدDominantويقبع على طرف الذراع القصير للفتيلة الجنسية المميزة للذكر (Y)،وتسمى بمنطقة تحديد الجنس(SRY)Sex Determining Region of Chromosome، ومهمته تحويل الغدة التناسلية في كل جانب إلى خصية تنتج هورمون الذكورة Testosteroneوهورمون مثبط لقناة مولر Anti-Mullerian Hormone (AMH)،ويُعتقد حاليا بوجود جينات مساندة في الإنسان على نفس ذراع الفتيلة الجنسية (Y)،ومهمة هورمون الذكورة تشكيل الأعضاء التناسلية الذكرية الداخلية، بالإضافة إلى منع تطور الأثداء فتبقى ضامرة في الذكور كشاهد على مرحلة النفس الواحدة، ونتيجة لنشاط إنزيم خاص ينشأ هورمون أكثر فعالية اسمه داي هيدرو تستوستيرون Dihydrotestosterone (DHT)من هورمون الذكورة مهمته تشكيل الأعضاء التناسلية الخارجية في الذكور، وفي الثدييات إذا لم تنشأ الخصية يحدث العكس وتتكون الأعضاء التناسلية الأنثوية تلقائيا Default Pathwayوتضمر قناة وولف، وينتج المبيض هورمون الأنوثة Estrogenومهمته تكميل تطور قناة مولر والخصائص الأنثوية الثانوية كنضوج الثدي عند البلوغ.
(5) تكون الغدد التناسلية Gonadogenesis:
الخصية Testisهي عضو إنتاج الذرية في الذكر وفي الأنثى المبيض Ovary، ومهمتهما هي إنتاج الهورمونات الجنسية وخلايا الإنجاب Gametesالتي يختزل في كل منها عدد الفتائل الوراثية خلال الانقسام الاختزالي Meiosisإلىالنصف،وينشآن مع الكلية والغدة الجار-كلوية خلال الحياة الجنينية في فترة تكون الأعضاء مما يسمى الحدبة البولية-التناسلية Uro-genital Ridgeوهي بروز في تجويف البطن يمتد من الظهر ويتكون من ثلاثة مناطق؛ في الأمامية تنشأ الغدة الجار-كلوية، وفي الخلفية تنشأ الكلية، وفي الوسطى تنشأ الغدة التناسليةGonadولذا تسمى الحدبة التناسلية Genital Ridge، ويبدأ ظهور الغدة التناسلية في الأسبوع الخامس من عمر الجنين ويبدأ تمايزها إلى خصية أو مبيض وتفرز الهورمونات الجنسية في الأسبوع السابع، وتستمد الأصول الخلوية للغدة التناسلية في كل جانب من مصدريين أساسيين: (أولاً) الخلايا التناسلية الأولية Primordial Germ Cellsوتنشأ في جدار كيس المح Yolk Sacقرب الطرف الخلفي للجنين ثم تهاجر خلال المنطقة الظهرية نحو الحدبة التناسلية وهي التي تتطور لاحقا إلى خلايا منتجة لخلايا الإنجاب، (ثانياً) بقية العناصر وتستمد من الطبقة الجنينية الوسطى Mesoderm، وتجتمع الأصول الخلوية في الظهر في الحدبة التناسلية لتخرج وتنفصل في كل جانب مع الغدة التناسلية بين موضع بداية تكون العمود الفقري وبداية تكون الضلوع ثم يتميز الجنس وتهاجر الخصية نحو كيس الصفن Scrotumوالمبيض نحو بوق قناة الرحم Fallopian Tube، ولذا تظل الأوعية الدموية واللمفاوية والأعصاب سواء للخصية أو المبيض في الشخص البالغ مرتبطة بالمنشأ في منطقة الكلية.
ويبدأ هبوط الخصية Testicular Descent في الأسبوع الثاني عشر من الحمل لتبلغ القناة الإربية Inguinal Canalفي منتصف الحمل وفي آخر شهرين تبلغ الخصية كيس الصفن، والعوامل الدافعة لتلك الهجرة المبرمجةProgrammed Migrationلم تتضح كاملاً بعد، وتجري حاليا محاولات لتحديد الجينات الموجهة لسير الهجرة في مسار سابق التقديرPredestinated pathway، وأي تعطل لآليات تلك الخطة المدبرة الخطوات لهجرة الخلايا وتكاثرها قد يؤدي إلى العقم، وإذا تعطلت الخصية عن بلوغ كيس الصفنحيث الحرارة أقل لن تستطيع إنتاج خلايا تناسلية ويمكن أن تتحول إلى خلايا سرطانية وينبغي إزالتها جراحيا(2)،(3)،(4)
الدراسة الدلالية
أمام عجيبة بيانية بهرت الأساطين بسمو أغراضها وصدق دلالتها وفصاحة تركيبها وإحكام نظمها وحسن إيقاعها لا يملك من يعاين مشاهدها سوى العجب، وبديهي أن يَحار الفطاحل في دلالاتها العلمية حتى يُعاينوا كيفياتها، ومع ذلك فصَّل القرآن ما أجمل فيَسَّر إدراكها، تأمل قول العلي القدير: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ. إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ. فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾ الطارق 5-10، تركيب عجيب فريد كأنه " سمط اللآليء " ؛ مشرق مثل حبات عقد الجواهر النفيس، دعنا إذاً نتأمله عن قرب مستأنسين بجهود أجيال مختلفي المشارب، ونعمل بالقواعد مع الحقائق في تمييز المختلط وتحرير الدلالة، والقاعدة لتحقيق الغاية في الفهم يوجزها لك فقهاء البيان العالمون بأساليب القرآن وتميز تركيبه بكلمة واحدة هي: السياق، فينبغي الانتباه لأن الصورة ليست كظاهر اللفظ، والألفاظ كالأمثال مستمدة من بيئة التنزيل لكنها مميزة الدلالة تخصصها قرائن السياق، وكل التركيب بمفرداته وأساليبه وإيقاعه متآزر متساوق متناسق الوجهة بلا اختلاف؛ في سياق موحد الاتجاه لا يناقض الحقائق، والحقيقة العلمية إذا استوثقت أنها كذلك وبلغت اليقين فهي شهادة الواقع ومفتاح الحل أو الترجيح لأن كلام الخالق لا يعارض فعله.
(أولاً) لماذا خرج القرآن عن المعهود ووصف المني بالماء الدافق بدلا عن المدفوق؟:
وصفَ القرآن الماء المعبر عن المني بالدافق مما يعني أنه حي التكوين فاعل تتسابق مكوناته في نشاط، وجرده من صفة البشرية بجعله مادة أولية يتخلق منها الإنسان، وهذا ما يطابق الحقيقة العلمية لأن الخلية البشرية الأولى التي تحتوي على العدد الكامل من الفتائل الوراثية المستمدة من الأبوين هي " البويضة الملقحة " في المصطلح الطبي الحديث أو " النطفة الأمشاج " في مصطلح القرآن، ولكن تلك الحقيقة العلمية كانت خفية طيلة قرون عديدة بعد نزول القرآن مما جعل المفسرين في حيرة أمام وصف المني ذاته بالفاعل، قال ابن تيمية: " لفظ الماء عند الإطلاق لا يتناول المني وإن كان يسمى ماء مع التقييد كقوله تعالى ﴿خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ﴾ " (5)، وقال ابن كثير: (خلق من ماء دافق) يعني المني(6)، وقال النيسابوري: " يحتمل أن يقال: أريد به ماء الرجل فقط؛ إما بناء على حكم التغليب وإما بناء على مذهب من لا يرى للمرأة ماء (أصلا) ولا سيما دافقا(7)، وقال الثعالبي: و﴿دَافِقٍ﴾ قال كثير من المفسرين هو بمعنى مدفوق(8)، وقال النسفي: " والدفق صب فيه دفع والدفق في الحقيقة لصاحبه والإسناد إلى الماء مجاز " (9)، وقال ابن القيم: " أخبر سبحانه أنه خلقه من ماء دافق، والدفق صب الماء يقال دفقت الماء فهو مدفوق ودافق.. فالمدفوق الذي وقع عليه فعلك.. والدافق قيل إنه فاعل بمعنى مفعول..، وقيل.. أي ذي دفق..، وقيل وهو الصواب انه اسم فاعل " (10)، وقال أيضاً: " الدافق على بابه ليس فاعلا بمعنى مفعول كما يظنه بعضهم " (11)، وقال الشوكاني: " ﴿خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ﴾.. الماء هو المنى، والدفق الصب يقال دفقت الماء أي صببته، يقال ماء دافق أي مدفوق مثل عيشة راضية أي مرضية، قال الفراء والأخفش ماء دافق أي مصبوب في الرحم، قال الفراء وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم، كقولهم سر كاتم أي مكتوم وهم ناصب أي منصوب وليل نائم ونحو ذلك، وقال الزجاج من ماء ذي اندفاق(12)،وقالالقرطبي: ﴿مِن مّآءٍ دَافِقٍ﴾ أي من المني، والدفق صب الماء، دفقت الماء أدفقه دفقا صببته فهو ماء دافق.. ﴿قال﴾ الزجاج من ماء ذي إندفاق.. وهذا مذهب سيبويه فالدافق هو المندفق بشدة قوته(13)، وقوله تعالى ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ﴾ القيامة 37؛ أي من قطرة ماء تمنى في الرحم أي تراق فيه ولذلك سميت مِنَى (مبيت الحجيج بمكة) لإراقة الدماء..، والنطفة الماء القليل يقال نطف الماء إذا قطر(14)، وقال أبو السعود: " وقوله تعالى ﴿مّآءٍ دَافِقٍ﴾.. ذي دفق وهو صَبٌ فيه دفع وسيلان بسرعة.. (و) قالوا أن النطفة.. مقرها عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين " (15)، وقال ابن الجوزي: " قال الزجاج ومذهب سيبويه وأصحابه أن معناه النسب إلى الإندفاق، أي صفة تكوينه الإندفاق، والمعنى من ماء ذي اندفاق " (16)، وفي تفسير الجلالين: " ذي اندفاق " (17)، وقال الألوسي: " الدفق صب فيه دفع وسيلان بسرعة وأريد بالماء الدافق المني، ودافق قيل بمعنى مدفوق على تأويل اسم الفاعل بالمفعول.. وقال الخليل وسيبويه هو على النسب.. أي ذي دفق، وهو صادق على الفاعل والمفعول، وقيل هو اسم فاعل وإسناده إلى الماء مجاز، وأسند إليه ما لصاحبه مبالغة، أو هو استعارة.. كما ذهب إليه السكاكي.. بجعله دافقا لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق أي يدفع بعضه بعضا، وقد فسر ابن عطية الدفق بالدفع فقال الدفق دفع الماء بعضه ببعض يقال تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضا، ويصح أن يكون الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضاً، فمنه دافق ومنه مدفوق " (18)، وقال ابن عاشور: " معنى (دافق) خارج بقوة وسرعة والأشهر أنه يقال على نطف الرجل، وصيغة دافق اسم فاعل.. وهو قول فريق من اللغويين، وقال الجمهور.. دافقا بمعنى اسم المفعول.. وسيبويه جعله من صيغ النسب.. ففسر دافق بذي دفق، والأحسن أن يكون اسم فاعل..، وأطنب العجاج في وصف هذا الماء الدافق لإدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ليستيقظ الجاهل الكافر ويزداد المؤمن علما ويقينا " (19)، ها أنت ترى كم كانت حيرة المفسرين أمام هذا السر الدفين وهو الحركة الذاتية لعناصر حية في المني ومع ذلك بلغوه بترك تعبير القرآن (ماء دافق) على ظاهره حتى كشفت الأيام تأويله.
(ثانياً) ما هو الصلب وما هي الترائب؟:
لفظ ﴿التّرَآئِبِ﴾ اسم صفة لا اسم ذات يدل بأصل اشتقاقه على التماثل والتناظر فيصدق على الأضلاعالتي تكون عظام الصدر، وقد يصرفه السياق إلى بعض هذا الإطلاق كما نقلت معاجم اللغة، والدلالات المعجمية مقيدة بقرائن السياق التي تحددها وتتخير منها الأنسب للمقام، ومن اشتقاق اللفظ (أتراب) أي لِدَّات يعني متماثلات، وقد يجعل السياق التماثل في الحسن والجمال والبهاء وفيض الأنوثة ونضارة الشباب كما في تصوير حال زوجات الجنة في قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ أَتْرَابٌ﴾ ص 52، وقوله تعالى:﴿إِنّآ أَنشَأْنَاهُنّ إِنشَآءً. فَجَعَلْنَاهُنّ أَبْكَاراً. عُرُباً أَتْرَاباً﴾ الواقعة 35-37، وقوله تعالى: ﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً﴾ النبأ 33، قال الجوهري: " والتَرِب بالكسر اللدَّة وجمعه أتراب، والتريبة واحدة الترائب وهي عظام الصدر " (20)، ولفظ ﴿الصّلْبِ﴾ بالمثل اسم صفة لا اسم ذات يدل بأصل اشتقاقه على قائم أمتن كتلةً وأمكن يُصلب عليه الشيء ويُشد محمولاً عليه فيصدق على العمود الفقري الذي يحمل بدن الإنسان وعلى المنطقة الظهرية حيث ينشأ، وفي قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾؛ يتعلق السياق ببداية انفصال وتميز عضو إنتاج الذرية وتكونه خلال فترة تكون بقية أعضاء الجسم، والمقابلة بين لفظي (الصلب والترائب) تميز دلالة كل منهما لتتعين منطقة تقع بين موضعي نشأة العمود الفقري والأضلاع حيث تتميز الغدة التناسلية بالفعل وتمتد في الجهة الظهرية بجوار الكلية في كل جانب، وكأن القرآن يصف قطاع عرضي تحت المجهر تتميز فيه مناطق الأعضاء الثلاث بوضوح، ولفظي ﴿الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ تعبيرانوصفيان والتعريف فيهما يبين أن مسمى كل منهما عضو بدني مألوف أحدهما مفرد والآخر جمع، وفعل (الخروج) الذي يدال على موضع الانفصال على طريق الهجرة في غاية الدقة حيث لا يدل بالضرورة على موضع النشأة لأن الغدة التناسلية تنشأفي الكتلة الظهرية أو الصلب قبل أن تنفصل وتتمايز مع تمايز بقية أعضاء الجسم، والعجيب أن القرآن ينسب بداية تكوين الذرية إلىالظهر أو الصلب بالفعل حيث تجتمع الأصول الخلوية لتكون الغدة التناسلية قبل انفصالها وتمايزها، وذلك عند بيان فطرية الإيمان في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىَ شَهِدْنَآ﴾ الأعراف 172؛ وهذا التصوير يبين تحقق الإيمان لو استخدم الإنسان أدوات العلم والفكر التي تميز بها عن الحيوان، وعند بيان محرمات الزواج مع التمييز بين الأبناء حقيقةً والأبناء بالتبني في قوله تعالى: ﴿وَحَلَلائِلُ أَبْنَائِكُم ُالَّذِينَ مِن ْأَصْلَلابِكُمْ﴾ النساء23، وللوجدان أن يقشعر من تلك الدقة المتناهية التي ميزت بين موضع تكون أعضاء إنتاج الذرية في الظهور وموضع خروجها على طريق هجرتها!.
(ثالثاً) هل الوصف بالإخراج والإرجاع يخص الإنسان أم الماء؟:
يتعلق السياق بالإنسان ذكوراً وإناثاً، وإليه يُوَجَّه الحديث بدلالة الاستهلال: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾، وفيه استدلال بالأصل علي غفلة الناكر للبعث، وذلك لمجيء التعبير بالغيبة إعراضاً مما يفيد أن المراد من جنس الإنسان من كَذَّب حديث القرآن وأنكر قدرة الخالق وتشكك في البعث خاصة؛ بدلالة التذييل ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ والظرف الذي يتم فيه إرجاع الإنسان حياً ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾ وهو يوم الحساب، ودل فعل (الخلق) على ضرورة وجود الخالق، واستشهاداً بالنقلة الواسعة على الاقتدار قدمت البينة بالإنسان الشاخص متكامل البناء، وأفادت (مِن) في (مِمَّ) الابتداء وأفادت (ما) إبهام ما عادت إليه بياناً لضآلة الأصل إلى حد الخفاء، والاستدلال بقوله ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ يتوغل أكثر نحو ماضي الإنسان ويدل على مرحلة أسبق ذات ابتداء أدق ولهانفس مزية النقلة الهائلة، وفعل (الإخراج) يفيد الانتقال ويجعل (من) لابتداء انفصال وتميز عضو الإنجاب على طريق الهجرة، ويتعلق السياق إذاً بوصف مرحلة تتكون فيها أعضاء تماثل الصلب والترائب وتختص بالإنجاب وليس مجرد بيان لمصدر الماء، إنها ولا شك بداية أبعد في تاريخ الإنسان تماثل في البعد النقلة الكبيرة من قطرة من سائل كالماء لا بشرية فيه إلى إنسان مفكر، وتلمس في كلام الأعلام – رحمهم الله – أن النقلة الأبعد منذ الابتداء الأول بلوغاً إلى الإنسان لا إلى الماء فحسب أعظم في الاستدلال على البعث لذا قصروا نسبة الابتداء على الإنسان، وتعبير القرطبي: " أول أمره وسنته الأولى " (21)، وتعبير ابن الجوزي: " أول حاله " (22)، وفي قوله تعالى: ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ. فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾؛ الضمير في ﴿إِنّهُ﴾ يعود على فاعل غيرمذكور إعلاماً بأن فعله المتجسد في ذلك الإنسان الشاخص يغني عن الدلالة عليه باسمه أو صفته، تقديره (الله الخالق القادر) بدلالة اسم الفاعل الدال على لزوم الصفة ﴿لَقَادِرٌ﴾ والمؤكد للشاك بأداتين (اللام) و(إن)، بالإضافة إلى الفعل المبني للمجهول﴿خُلِقَ﴾ العائد قطعاً إلى ﴿الإِنسَانُ﴾، والمعنى يتعلق إذاً بالخالق والمخلوق أما الماء فمرحلة عابرة، ولذا يقصر السياق عود الضمائر إلى جنس الإنسان في التعابير ﴿مِمّ خُلِقَ﴾ و﴿خُلِقَ﴾ و﴿رَجْعِهِ﴾ و﴿فَمَا لَه﴾ والفعل ﴿يَخْرُجُ﴾ وبذلك يتسع الوصف للذكر والأنثى، وفي كليهما تنشأ بالفعل أعضاء إنتاج الذرية مع الكليتين من بين أصول العمود الفقري والضلوع في الجهتين.
قال ابن عاشور: ضمير ﴿إِنّهُ﴾ عائد إلى الله تعالى وإن لم يسبق ذكر مُعاد ولكن بناء الفعل للمجهول في قوله ﴿خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ﴾يؤذن بأن الخالق معروف لا يحتاج إلى ذكر اسمه وأسند الرجع إلى ضميره.. لأن المقام مقام إيضاح وتصريح بأن الله هو فاعل ذلك، وضمير ﴿رَجْعِهِ﴾ عائد إلى ﴿الإِنسَانُ﴾.. و﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾ متعلق برجعه أي يرجعه يوم القيامة، والسرائر جمع سريرة وهي ما يسره الإنسان ويخفيه من نواياه وعقائده.. ولما كان بلو السرائر مؤذنا بأن الله عليم بما يستره الناس من الجرائم وكان قوله ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾ مشعرا بالمؤاخذة.. فرَّع عليه قوله ﴿فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾، فالضمير عائد على الإنسان والمقصود المشركون من الناس لأنهم المسوق لأجلهم هذا التهديد، أي فما للإنسان المشرك من قوة يدفع بها عن نفسه وما له من ناصر يدافع عنه(23).
ودفعاً لتوهم الخروج من صلب الرجل وترائب المرأة في قوله تعالى ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ كما أدى إليه اجتهاد البعضباعتبار نشأة الجنين من نطفة أمشاج خلائط من الجنسين؛ قال الألوسي: " وظاهر الآية أن أحد طرفين البينية (التوسط) الصلب والآخر الترائب..، فكان الصلب والترائب لشخص واحد فلا تغفل..، قال الحسن وروي عن قتادة أيضا أن المعنى يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائب كل منهما..، (و) الترائب.. الأشهر أنها عظام الصدر.. (و) المني.. مستقره عروق يلتف بعضها بالبعض عند البيضتين وتسمى أوعية المني..، وقوله سبحانه ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ عبارة مختصرة جامعة.. وقيل ابتداء الخروج منه كما أن انتهاءه بالأحليل..، وزعم بعضهم جواز كون الصلب والترائب للرجل أي يخرج من بين صلب كل رجل وترائبه " (24)، ومعنى البينية بين شيئين التوسط، قال الأصفهاني: " (بين) ظرف لا يضاف إلا إلى متعدد لفظاً أو معنىً وهو يفيد الخلالة والتوسط " (25)، ودفعاً لتوهم الخروج من الصلب والترائب لا من منطقة بينهما وتوهم عدم اختصاص الماء الدافق بالذكر ؛ قال ابن القيم: " سبحانه قال ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ ولم يقل يخرج من الصلب والترائب، فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجا من بين هذين المختلفين، كما قال في اللبن ﴿نّسْقِيكُمْ مّمّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ﴾ النحل 66، وأيضا فإنه سبحانه أخبر أنه خلقه من نطفةفي غير موضع، والنطفة هي ماء الرجل كذلك..، قال الجوهري والنطفة الماء الصافي قل أو كثر والنطفة ماء الرجل والجمع نطف، وأيضا فإن الذي يوصف بالدفق والنضح إنما هو ماء الرجل، ولا يقال نضحت المرأة الماء ولا دفقته، والذي أوجب لأصحاب القول الآخر ذلك أنهم رأوا أهل اللغة قالوا الترائب موضع القلادة من الصدر، قال الزجاج أهل اللغة مجمعون على ذلك وأنشدوا لامرىءالقيس (مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل)، وهذا لا يدل على اختصاص الترائب بالمرأة بل يطلق على الرجل والمرأة " (26)، وإذا شملهما الإخراج فلا بد من عودة ضمير ﴿يَخْرُجُ﴾ على الإنسان لا على الماء الدافق المقصور على الرجل وحده.
وقد شغل موضوع عود الضمائر المحققين فحرروه استناداً للسياق بجعلها عائدة إلى المذكور الأبعد ﴿الإِنسَانُ﴾ لامتناع عودها على الأقرب وهو الماء، ومن شواهد عود الضمير إلى المذكور الأبعد في القرآن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا﴾ الجمعة 11، أي إلى التجارة، وقوله تعالى: ﴿آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمّا جَعَلَكُم مّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ الحديد 7، أي جعلكم الله مستخلفين، قال ابن تيمية: " عود الضمير إلى الأقرب أولى إلا إذا كان هناك دليل يقتضي (عوده إلى)البعيد " (27)، وقال الزركشي: " وإن كانت القاعدة عود الضمير إلى الأقرب ولكن قد يعود إلى.. غير الأقرب " (28)، وقال السيوطي: " الضمير قد يدل عليه السياق فيضمر ثقةً بفهم السامع نحو ﴿كل من عليها فان﴾ الرحمن 26، (و) ﴿ما ترك على ظهرها من دابة﴾ فاطر 45 أي الأرض أو الدنيا،.. وقد يعود على بعض ما تقدم " (29)، وفي قوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ. إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ. فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾؛ يتعلق الحديث ببيان الاقتدار على بعث الإنسان الفرد استدلالا بنشأته، فالحديث إذاً كما ترى يتعلق بالإنسان بداية ومصيراً والماء مرحلة عارضة في ثنايا قصة ممتدة الأحداث عبر أجيال، ولذا الأولوية أن تعود إلى الإنسان كل الضمائر بلا تشتيت باعتباره محور الحديث والمذكور الرئيس، قال القرطبي: " قوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾ أي ابن آدم.. توصية للإنسان بالنظر في أول أمره وسنته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الإعادة والجزاء " (30).
وفي قوله تعالى ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾؛ قال الطبري: " يقول تعالى ذكره فلينظر الإنسان المكذب بالبعث بعد الممات المنكر قدرة الله على إحيائه بعد مماته، ﴿مِمّ خُلِقَ﴾ يقول من أي شيء خلقه ربه " (31)، وقال البغوي: أي فليتفكر من أي شيء خلقه ربه أي فلينظر نظر المتفكر " (32)، وقال ابن القيم: " لقد دعا سبحانه الإنسان إلى النظر في مبدأ خلقه.. فقال تعالى ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾، وقال ﴿يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ مِن مّضْغَةٍ مّخَلّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ثُمّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمّ لِتَبْلُغُوَاْ أَشُدّكُمْ وَمِنكُمْ مّن يُتَوَفّىَ وَمِنكُمْ مّن يُرَدّ إِلَىَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ الحج 5، وقال ﴿وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ. وَفِيَ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ الذاريات 20و21، وهذا في القرآن كثير لمن تدبره وعقله وهو شاهد منك عليك فمن أين للطبيعة.. هذا الخلق والإتقان والإبداع " (33)، وقال أيضاً: " نبه سبحانه الإنسان على دليل المعاد بما يشاهده من حال مبدئه على طريقة القرآن في الاستدلال على المعاد بالمبدأ فقال ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾، أي فلينظر نظر الفكر والاستدلال ليعلم أن الذي ابتدأ أول خلقه.. قادر على إعادته " (34).
وقال ابن كثير: " قوله تعالى ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾ تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد لأن من قدر على البداءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى كما قال تعالى ﴿وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ الروم 27(35)، وقال أيضاً: " قال تعالى مقررا لوقوع المعاد والعذاب بهم الذين أنكروا كونه واستبعدوا وجوده مستدلا عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها وهم معترفون بها فقال تعالى ﴿إِنّا خَلَقْنَاهُم مّمّا يَعْلَمُونَ﴾ المعارج 39، أي من المني الضعيف كما قال تعالى ﴿أَلَمْ نَخْلُقكّم مّن مّآءٍ مّهِينٍ﴾ المرسلات 20، وقال ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ. إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾.. وتقدير الكلام ليس الأمر كما يزعمون أن لا معاد ولا حساب ولا بعث ولا نشور بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة..، ولهذا قال تعالى ﴿لَخَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْـثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ غافر 57، وقال تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنّ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِـيَ الْمَوْتَىَ﴾ الأحقاف 33، وقال تعالى.. ﴿أَوَلَـيْسَ الَذِي خَلَقَ السّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىَ وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ. إِنّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ يس 81و82، وقال.. ﴿فَلاَأُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنّا لَقَادِرُونَ. عَلَىَ أَن نّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ﴾ المعارج 40و41، أي يوم القيامة نعيدهم " (36).
وقال الشوكاني: " قوله ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾.. يوجب على الإنسان أن يتفكر في مبتدأ خلقه ليعلم قدره الله على ما هو دون ذلك من البعث، قال مقاتل يعني المكذب بالبعث، ﴿مِمّ خُلِقَ﴾ من أي شيء خلقه الله، والمعنى فلينظر نظر التفكر والاستدلال حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته " (37)، وقال الثعالبي: " قوله تعالى ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾ توقيف لمنكري البعث على أصل الخلقة الدال على أن البعث جائز ممكن ثم بادر اللفظ إلى الجواب اقتضاباً وإسراعاً إلى إقامة الحجة فقال ﴿خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ " (38)، فكما ترى يتعلق الحديث بالإنسان، والخلق من ماء والإخراج من بين الصلب والترائب بدايتان؛ آيتان منفصلتان، حجتان، وحملهما على سعة النقلة بياناً لقدرة الله تعالى أولى لأن المقام يتضمن وجوب الامتنان لسعة الفضل والإنعام، ولم يوصف المني في القرآن كثمرة يتجلى بها الاقتدار بل وُصف بالقلة والمهانة، وعود الضمير في (يخرج) على الماء سيجعل الوصف تشريحياً في البالغ وسيناقض الواقع لأن المني يخرج فعلياً من الخصية وليس من بين العمود الفقري والضلوع، والتعبير بالخروج لا يجمعه مع خبر الخلق من ماء اتصال في آية واحدة ليتعلق به وإنما ورد مستقلاً عنه متصلاً بأصل الحديث عن الإنسان، وحينئذ يتسع بيان سبق التقدير ليشمل سلسلة الأجيال، وبهذا تكون النقلة أكبر والمفارقة أعظم وبيان سبق التقدير أتم والدلالة على قدرة الله أظهر.
وفي قوله تعالى ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ. فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِر﴾؛ قال الطبري: " يقول تعالى ذكره إن هذا الذي خلقكم أيها الناس من هذا الماء الدافق فجعلكم بشرا سويا.. ﴿عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾، واختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله ﴿عَلَىَ رَجْعِهِ﴾ على ما هي عائدة؟، فقال بعضهم هي عائدة على الماء، وقالوا معنى الكلام إن الله على رد النطفة في الموضع التي خرجت منه لقادر..، عن عكرمة.. قال إنه على رده في صلبه لقادر..، (و) عن عكرمة.. قال للصلب..، (و) عن مجاهد.. قال على أن يرد الماء في الإحليل..،(وفي رواية) قال على رد النطفة في الإحليل..، (وفي رواية أخرى) قال في الإحليل..، وقال آخرون بل معنى ذلك إنه على رد الإنسان ماء كما كان قبل أن يخلقه منه..، (عن) الضحاك يقول.. إن شئت رددته كما خلقته من ماء، وقال آخرون بل معنى ذلك إنه على حبس ذلك الماء لقادر..، قال ابن زيد.. على رجع ذلك الماء لقادر حتى لا يخرج كما قدر على أن يخلق منه ما خلق قادر على أن يرجعه، وقال آخرون بل معنى ذلك أنه قادر على رجع الإنسان من حال الكبر إلى حال الصغر.. عن الضحاك.. يقول إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا إلى النطفة، وعلى هذا التأويل تكون الهاء في قوله ﴿عَلَىَ رَجْعِهِ﴾ من ذكر الإنسان، وقال آخرون ممن زعم أن الهاء للإنسان معنى ذلك أنه على إحيائهبعد مماته لقادر..، عن قتادة..(قال) إن الله تعالى ذكره على بعثه وإعادته قادر، وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معنى ذلك إن الله على رد الإنسان المخلوق من ماء دافق من بعد مماته حيا كهيئته قبل مماته لقادر، وإنما قلت هذا أولى الأقوال في ذلك بالصواب لقوله ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾ فكان في إتباعه قوله ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ نبأ من أنباء القيامة دلالة على أن السابق قبلها أيضا منه..، يقول تعالى ذكره إنه على إحيائه بعد مماته لقادر يوم تبلى السرائر، فاليوم من صفة الرجع لأن المعنى إنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر، وعني بقوله ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾ يوم تختبر سرائر العباد فيظهر منها يومئذ ما كان في الدنيا مستخفياً " (39).
وقال ابن كثير: " وقوله تعالى ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ فيه قولان؛ أحدهما: على رجع هذا الماء الدافق إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك، قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما، والقول الثاني: إنه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق أي إعادته وبعثه إلى الدار الآخرة لقادر، لأن من قدر على البداءة قدر على الإعادة، وقد ذكر الله عز وجل هذا الدليل في القرآن في غير ما موضع، وهذا القول قال به الضحاك واختاره ابن جرير، ولهذا قال تعالى ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾، أي يوم القيامة تبلى فيه السرائر، أي تظهر وتبدو ويبقى السر علانية والمكنون مشهورا..، وقوله تعالى ﴿فَمَا لَهُ﴾ أي الإنسان يوم القيامة ﴿مِنقُوّةٍ﴾ أي في نفسه ﴿وَلاَ نَاصِر﴾ أي من خارج منه أي لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب الله ولا يستطيع له أحد ذلك(40).
وقال أبو السعود: " ﴿إِنّهُ﴾:الضمير للخالق تعالى فإن قوله ﴿خُلِق﴾ يدل عليه، أي أن ذلك الذي خلقه ابتداء مما ذكر على رجعه، أي على إعادته بعد موته، لقادر.. ﴿فَمَا لَهُ﴾ أي للإنسان ﴿مِن قُوّةٍ﴾ في نفسه يمتنع بها ﴿وَلاَ نَاصِر﴾ ينتصر به " (41)، وقال الشوكاني: " الضمير في ﴿إِنّهُ﴾ يرجع إلى الله سبحانه لدلالة قوله ﴿خُلِق﴾ عليه، فإن الذي خلقه هو الله سبحانه والضمير في ﴿رَجْعِهِ﴾ عائد إلى الإنسان، والمعنى أن الله سبحانه على رجع الإنسان أي إعادته بالبعث بعد الموت لقادر، هكذا قال جماعة من المفسرين، وقال مجاهد على أن يرد الماء في الإحليل، وقال عكرمة والضحاك على أن يرد الماء في الصلب، وقال مقاتل ابن حيان يقول إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا إلى النطفة، وقال ابن زيد إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر، والأول أظهر ورجحه ابن جرير والثعلبي والقرطبي..، ﴿فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِر﴾ أي فما للإنسان من قوة في نفسه يمتنع بها عن عذاب الله ولا ناصر ينصره مما نزل به " (42)، وقال البغوي: " قال قتادة إن الله تعالى على بعث الإنسان وإعادته بعد الموت قادر، وهذا أولى الأقاويل لقوله ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾ وذلك يوم القيامة..، فما له من قوة ولا ناصر أي ما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله ولا ناصر ينصره من الله " (43)، والحاصل كما ترى بجلاء هو إجماع المحققين على إعادة الضمائر إلى الإنسان وإن كان هو المذكور الأبعد ذكراً من الماء، وليس عود الضمير إذاً في الفعل (يخرج) إلى الماء بأولى من عوده للإنسان مثلها، ولا توجد قرينه لتشتيت مرجع الضمائر، قال السيوطي: " الأصل توافق الضمائر في المرجعحذرا من التشتيت ولهذا لما جوز بعضهم في ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمّ﴾ طه 39 أن الضمير في الثاني للتابوت وفي الأول لموسى عابه الزمخشري وجعله تنافرا مخرجا للقرآن عن إعجازه، فقال: والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم الذي هو أم إعجاز القرآن ومراعاته أهم ما يجب على المفسر، وقال في ﴿لّتُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ الفتح 9: الضمائر لله تعالى والمراد بتعزيره تعزير دينه ورسوله ومن فرق الضمائر فقد أبعد " (44).
وقال ابن القيم: " وقوله ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ الصحيح أن الضمير يرجع على الإنسان، أي أن الله على رده إليه لقادر يوم القيامة وهو اليوم الذي تبلى فيه السرائر، ومن قال أن الضمير يرجع على الماء؛ أي إن الله على رجعه في الإحليل أو في الصدر أو حبسه عن الخروج لقادر فقد أبعد، وإن كان الله سبحانه قادرا على ذلك، ولكن السياق يأباه، وطريقة القرآن وهي الاستدلال بالمبدأ والنشأة الأولى على المعاد والرجوع إليه، وأيضا فإنه قيده بالظرف وهو ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾، والمقصود أنه سبحانه دعا الإنسان أن ينظر في مبدأ خلقه ورزقه فإن ذلك يدله دلالة ظاهرة على معاده ورجوعه إلى ربه، وقال تعالى ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىَ طَعَامِهِ. أَنّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً. ثُمّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقّاً. فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً. وَحَدَآئِقَ غُلْباً. وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾ عبس 24-31، فجعل سبحانه نظره في إخراج طعامه من الأرض دليلا على إخراجه هو منها بعد موته، استدلالا بالنظير على النظير، ومن ذلك قوله سبحانه ردا على الذين قالوا " أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ": ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ الإسراء 99، أي مثل هؤلاء المكذبين، والمراد به النشأة الثانية وهي الخلق الجديد، وهي المثل المذكور في غير موضع، وهم هم بأعيانهم فلا تنافي في شيء من ذلك بل هو الحق الذي دل عليه العقل والسمع ومن لم يفهم ذلك حق فهمه تخبط عليه أمر المعاد وبقي منه في أمر مريج، والمقصود أنه دلهم سبحانه بخلق السموات والأرض على الإعادة والبعث وأكد هذا القياس بضرب من الأولى وهو أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس فالقادر على خلق ما هو أكبر وأعظم منكم أقدر على خلقكم، وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته، فليس مع المكذبين بالقيامة إلا مجرد تكذيب الله ورسوله وتعجيز قدرته ونسبة علمه إلى القصور والقدح في حكمته، ولهذا يخبر الله سبحانه عمن أنكر ذلك بأنه كافر بربه جاحد له لم يقر برب العالمين فاطر السموات والأرض، كما قال تعالى ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنّا تُرَاباً أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ﴾ الرعد 5، وقال المؤمن للكافر الذي قال ﴿وَمَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىَ رَبّي لأجِدَنّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً﴾ الكهف 36، فقال له ﴿أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلاً﴾ الكهف 37، فمنكر المعاد كافر برب العالمين وإن زعم أنه مقر به، ومنه قوله تعالى ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمّ اللّهُ يُنشِىءُ النّشْأَةَ الاَخِرَةَ﴾ العنكبوت 20، يقول تعالى انظروا كيف بدأت الخلق فاعتبروا الإعادة بالابتداء، ومنه قوله تعالى ﴿يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ الروم 19، وقوله تعالى ﴿فَانظُرْ إِلَىَ آثَارِ رَحْمَةِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَىَ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الروم 50، وقوله ﴿وَنَزّلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً مّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبّ الْحَصِيدِ. وَالنّخْلَ بَاسِقَاتٍ لّهَا طَلْعٌ نّضِيدٌ. رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ ق 9-11، وقال تعالى ﴿يَوْمَ نَطْوِي السّمَآءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوّلَ خَلْقٍ نّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنّا كُنّا فَاعِلِينَ﴾ الأنبياء 104، والسجل الورق المكتوب فيه، والكتاب نفس المكتوب، واللام بمنزلة على، أي نطوي السماء كطي الدرج على ما فيه من السطور المكتوبة، ثم استدل على النظير بالنظير فقال ﴿كَمَا بَدَأْنَآ أَوّلَ خَلْقٍ نّعِيدُهُ﴾ " (45).
وقال ابن القيم أيضاً: " ذكر الأمر المستدل عليه و(هو) المعاد بقوله ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ أي على رجعه (يعني الإنسان) إليه يوم القيامة كما هو قادر على خلقه.. هذا هو الصحيح في معنى الآية، وفيها قولان ضعيفان أحدهما قول مجاهد على رد الماء في الإحليل لقادر، والثاني قول عكرمة والضحاك على رد الماء في الصلب، وفيه قول ثالث قال مقاتل إن شئت رددته (يعني الإنسان) من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبا إلى النطفة، والقول الصواب هو الأول لوجوه: (أحدهما) أنه هو المعهود من طريقة القرآن من الاستدلال بالمبدأ على المعاد، (الثاني) أن ذلك أدل على المطلوب من القدرة على رد الماء في الإحليل، (الثالث) أنه لم يأت لهذا المعنى في القرآن نظير في موضع واحد ولا أنكره أحد حتى يقيم سبحانه الدليل عليه، (الرابع) أنه قيد الفعل بالظرف وهو قوله ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾ وهو يوم القيامة أي أن الله قادر على رجعه إليه حيا في ذلك اليوم، (الخامس) أن الضمير في ﴿رَجْعِهِ﴾ هو الضمير في قوله ﴿فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِر﴾ وهذا للإنسان قطعا لا للماء، (السادس) أنه لا ذكر للاحليل حتى يتعين كون المرجع إليه، فلو قال قائل على رجعه إلى الفرج الذي صب فيه لم يكن فرق بينه وبين هذا القول ولم يكن أولى منه، (السابع) أن رد الماء إلى الأحليل أو الصلب بعد خروجه منه غير معروف ولا هو أمر معتاد جرت به القدرة وإن كان مقدورا للرب تعالى، ولكن هو لم يجره ولم تجر به العادة ولا هو مما تكلم الناس فيه نفيا أو إثباتا، ومثل هذا لا يقرره الرب ولا يستدل عليه وينبه على منكريه، وهو سبحانه إنما يستدل على أمر واقع ولا بد إما قد وقع ووجد أو سيقع،.. (الثامن) أنه سبحانه دعا الإنسان إلى النظر فيما خُلق منه ليرده عن تكذيبه بما أخبر به وهو لم يخبره بقدرة خالقه على رد الماء في إحليله بعد مفارقته له حتى يدعوه إلى النظر فيما خلق منه ليستقبح منه صحة إمكان رد الماء، (التاسع) أنه لا ارتباط بين النظر في مبدأ خلقه ورد الماء في الإحليل بعد خروجه ولا تلازم بينهما حتى يجعل أحدهما دليلا على إمكان الآخر بخلاف الارتباط الذي بين المبدأ والمعاد والخلق الأول والخلق الثاني والنشأة الأولى والنشأة الثانية فإنه ارتباط من وجوه عديدة ويلزم من إمكان أحدهما إمكان الآخر ومن وقوعه صحة وقوع الآخر فحسن الاستدلال بأحدهما على الآخر، (العاشر) أنه سبحانه.. نبه بقوله ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ على بعثه لجزائه على العمل الذي حفظ وأحصى عليه فذكر شأن مبدأ عمله ونهايته فمبدؤه محفوظ عليه ونهايته الجزاء عليه ونبه على هذا بقوله ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾ أي تختبر.. والسرائر جمع سريرة " (46).
وبغض النظر عن الاجتهادات الواسعة لتفهم الكيفيات قبل أن يكشفها العلم لا صارف عن عود ضمير ﴿يخرج﴾ إلى الأصل وهو﴿الإنسان﴾ وإن شاركه (الماء) في الاحتمال، قال ابن عطية: " والضمير في يخرج يحتمل أن يكون للإنسان ويحتمل أن يكون للماء " (47)، وقال القرطبي: " من جعل المني يخرج من بين صلب الرجل وترائبه فالضمير في يخرج للماء ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة فالضمير للإنسان " (48)، ولك أن تستفظع القول بخروج المني من بين صلب الرجل وترائبه وأنت تعلم بتكونه في الخصية إلا إذا اعتبرت تكون أصل الأصل عند النشأة، ولكن لا تتوهم أنهم يعتقدون بخروج مني الرجل من ترائب المرأة، لأنهم يعلمون كما لو كانوا أبناءعصر العلم مثلي ومثلك باحتياجه لنظير أنثوي ليتخلق الجنين، فجعلوا للمرأة دوراً وقدموا فروضاً لأصل المني النظير مجتهدين في استمداد المعرفة من القرآن في غياب حقائق العلم، يقول العلي القدير: ﴿إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ الإنسان 2، قال الشوكاني: " وأمشاج صفة لنطفة وهي جمع مشج أو مشيج وهي الأخلاط والمراد نطفة الرجل ونطفة المرأة واختلاطهما " (49)، وقال ابن القيم: " الجنين يخلق من ماء الرجل وماء المرأة خلافا لمن يزعم من الطبائعيين أنه إنما يخلق من ماء الرجل وحده " (50)، ويقول عز وجل: ﴿يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ﴾ الحجرات 13، قال القرطبي: " بَيَّنَ الله تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى.. وقد ذهب قوم من الأوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده ويتربى في رحم الأم ويستمد من الدم الذي يكون فيه.. والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية فإنها نص لا يحتمل التأويل " (51)والاقتصار إذاً على جنس الذكر بقرينة الماء الدافق يفسره اعتبار المعلوم وسبق المني للنطفة الأمشاج التي يبدأ منها الخلق، ولكن ها أنت ترى أنهم يعرفون بتكون الجنين من الأبوين ويدخلونهما في تفسير الإخراج مما يجعل الأولوية في عود ضمير (يخرج) إلى الإنسان فيصدق الوصف على الجنسين، وبإغفال دلالة السياق على أن ﴿الإِنسَانُ﴾ محور الحديث والموضوع الرئيس؛ يستقيم عود الضمير في ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ إلى الماء، وباعتبار الأصلهو علمياً معنى صحيح لخروج الخصية من ذلك الموضع، ومن الأعلام من احتمله وإن قصر ذلك الاجتهاد الوصف على الذكر واستبعد الأنثى معارضاً دلالة لفظ ﴿الإِنسَانُ﴾ على الجنس بنوعيه من الذكر والأنثى.
(رابعاً) ما معنى الخروج من بين الصلب والترائب؟:
يكشف القرآن أن بدء خلق الإنسان مما يماثل نطفة من ماء، ويستدل بتلك النقلة الهائلة على الاقتدار، قال تعالى: ﴿خَلَقَ الإِنْسَانَمِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ﴾ النحل 4، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌٌ﴾ يس 77، وقال تعالى: ﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيّ شَيءٍ خَلَقَهُ. مِن نّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ. ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ﴾ عبس 17-20، وقال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ. ثُمّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّىَ. فَجَعَلَ مِنْهُ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ وَالاُنثَىَ. أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِـيَ الْمَوْتَىَ﴾ القيامة 36-40، ولو تأملت الحقائق التي كشفها العلم فستدهش من ذلك اليقين الصارم على خلق الإنسان من مكون للمني يماثل أقل وحدة تركيب من الماء؛ نطفة، لأنه يستحيل أن يدرك هذا بشر قبل اكتشاف المجهر بعشرة قرون واكتشاف تلقيح البويضة بحوين منوى واحد منتخب من نخبة من ملايين الحوينات، والتعبير الوصفي " نطفة " يكاد ينطق بالمصطلح الحديث " خلية " وهي أقل وحدة تركيب، وبالمثل يقول العلي القدير: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ. إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾، وتلك النقلة الأبعد الممتدة في مرأى العين إلى العدم حيث لم يبلغ الإنسان حتى أن يكون مجرد ماءً هي دليل القرآن على بالغ الاقتدار، يقول العلي القدير: ﴿وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً. أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ مريم 66و67، وهو مثل قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَىَ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مّذْكُوراً. إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ الإنسان 1و2، فقبل أن يصبح إنساناً كان كنطفة من ماء منها كان بَدء خلقه، وقبلها في جيل أسبق لم يكن شيئاً بينما الماء في مرأى العين شيء، ولا يليق مع تلك النقلة الهائلة مما يماثل نطفة ماء إلى إنسان والتي استوعبت قصة خلق إنسان من الجنسين إلا أن يكون ما يسبقها نقلة مماثلة تنقله إلى ما قبل خلقه لتستوعب قصة خلق جيل يسبقه من الجنسين، وحينذاك لم يكن له في مرأى العين وجود يذكر إلا تقديره كذرية لاحقة، وبهذا الامتداد يحكي فعل (يخرج) قصة خلق جيل وجيل يسبقه من جيل أسبق فتتجلى غاية الاقتدار، والعدول إلى المضارع يجعل المشهد نموذجاًً للبدء والإعادة يشمل كل الأجيال من الجنسين، ولكن مع التوهم بعود ضمير (يخرج) إلى الماء يضعف أداء الغرض، أنت إذاً أمام وصفٍ لتاريخ ضارب في القدم مر فيه الإنسان بمرحلتين أشبه ما يكونا بالولادة، انتهت الأولى به وكذلك الثانية، قال المناوي: " إن للإنسان ولادتين أحدهما الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الأرحام وهو في الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم، وله في سلوكه إلى الكمال منازل وأطوارا من نطفة وعلقة ومضغة وغيرها حتى يخرج من مضيق الرحم إلى فضاء العالم " (52)، وقال ابن الجوزي: " قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَاكُمْ﴾ الأعراف 11 فيه.. أقوال أحدها.. خلقناكم.. (من بين) أصلاب.. وترائب..، ثم صورناكم عند اجتماع النطف في الأرحام، قاله ابن السائب..، قال ابن قتيبة.. معناه خلقنا أصلكم.. كهيئة الذر " (53).
والعجيب في القرآن أنه لا يتركك نهباً للتصورات أمام الحقيقة الخفية التي يدخرها للعالِمين ويعلنها بتلطف لا يلفت عن الغرض، فترى " مثانية النبأ " التي قد تبلغ حد الإسهاب تحجبك عن الزلل خاصةً إذا كنت من الحقيقة في يقين، وتعبير ﴿ماء دافق﴾ يعني أنه دافق حقيقةً لا مجازاً يعني ذو حركة ذاتية زيادةً على أنه مدفوق كما هو معلوم، ولذا ينطوي التعبير على وصف المني بالحياة، وتتضافر الأوصاف في القرآن على قصر الماء بالذكر وحده تشبيهاً للسائل المنوي المعلوم لدى المخاطبين بالماء، لقوله تعالى: ﴿إِنّا خَلَقْنَاهُم مّمّا يَعْلَمُونَ﴾ المعارج 39، وقوله: ﴿أَلَمْ نَخْلُقكّم مّن مّآءٍ مّهِينٍ﴾ المرسلات 20، وقوله: ﴿وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ﴾ النور 45،وقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مّا تُمْنُونَ. أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ الواقعة 58و59، وقوله: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ﴾ القيامة 36و37، وإذا صدق وصف البشرية على " النطفة الأمشاج " التي تمثل بَدء خلق الإنسان فلا يصدق على " الماء الدافق " الذي يمثل مرحلة أسبق، ولذا يدل حصر ابتداء فعل الخلق بالنطفة على المرحلة قبيل خلق الإنسان وأما الوصف أمشاج فيلزم بضرورة وجود النطفة النظير، وقوله تعالى ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ يبين موضع خروج عضو انتاج الذرية قبل هجرته لمستقره في الجنسين، والخروج من بينهما يجعل الظهور أو الأصلاب موضع نشأة الذرية واجتماع أصولها الخلوية، وهو ما صرح به قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَم مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىَ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـَذَا غَافِلِينَ﴾ الأعراف 172، وهذا يدفع وهم عود ضمير (يخرج) إلى الماء وينسبه للإنسان، والمفسرون يجعلون أخذ الذرية لأفراد جنس الإنسان بمعنى إخراجهم للدنيا مفطورين على الإيمان، قال القرطبي: " قوله تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ﴾.. (وفي قراءة ذرياتهم)؛ قال قوم معنى الآية أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض قالوا، ومعنى ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ﴾، دلهم بخلقه على توحيده، لأن كل بالغ يعلمضرورة أن له ربا واحدا، ﴿أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ﴾ أي قال، فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم (أي فطرهم على الإيمان والطاعة)، كما قال تعالى في السماوات والأرض: ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ فصلت 11 " (54)، وقال الألوسي: " ﴿أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ﴾قيل هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله تعالى الزاجرة عن عبادة غيره عز وجل فكأنه استعارة لإقامة البراهين " (55)، وقال ابن الجوزي: " وجماعة أهل العلم.. من أنه استنطق الذر وركب فيهم عقولا وأفهاما عرفوا بها ما عرض عليهم، وقد ذكر بعضهم أن معنى أخذ الذرية إخراجهم إلى الدنيا بعد كونهم نطفا ومعنى إشهادهم على أنفسهم اضطرارهم إلى العلم بأنه خالقهم بما أظهر لهم من الآيات والبراهين ولما عرفوا ذلك ودعاهم كل ما يرون ويشاهدون إلى التصديق كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال ﴿شَاهِدِينَ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ التوبة 17، يريدهم بمنزلة الشاهدين وإن لم يقولوا نحن كفرة، كما يقول الرجل قد شهدت جوارحي بصدقك أي قد عرفته، ومن هذا الباب قوله ﴿شَهِدَ اللّهُ﴾ آل عمران 18، أي بين وأعلم " (56)، وقال الواحدي: " أخرج الله تعالى ذريه آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الأباء (57)، وقال البغوي: " فلا تقوم الساعة حتى تولد كل ذريتهم " (58)، وفيالتبيان في تفسير غريب القرآن: " الذرية أولاد وأولاد الأولاد، قال بعض النحويين ذرية تقديرها فعلية من الذر " (59)، قال القرطبي: ذكر بعض أهل اللغة أن الذر أن يضرب الرجل بيده على الأرض فما علق بها من التراب فهو الذر، وكذا قال إبن عباس إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة (60)، وقال: " قوله تعالى ﴿إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ﴾ النساء 40، أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها، والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا، كما قال تعالى ﴿إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً﴾ يونس 44، والذرة النملة الحمراء عن ابن عباس وغيره وهي أصغر النمل، وعنه أيضا رأس النملة، وقال يزيد بن هارون زعموا أن الذرة ليس لها وزن..، قلت والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزنا..، وقيل الذرة الخردلة، كما قال تعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌشَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَاوَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ الأنبياء 47، وقيل غير هذا، وهي في الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها " (61)، وقال ابن الجوزي: " قولهتعالى ﴿وَآيَةٌ لّهُمْ أَنّا حَمَلْنَا ذُرّيّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ.وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ يس 41و42، قال المفسرون أراد في سفينة نوح فنسب الذرية (وفي قراءة ذرياتهم) إلى المخاطبين لأنهم من جنسهم، كأنه قال ذرية الناس، وقال الفراء أي ذرية من هو منهم فجعلها ذرية لهم وقد سبقتهم، وقال غيره هو حمل الأنبياء في أصلاب الآباء حين ركبوا السفينة (62)، وفي قوله تعالى: ﴿وَحَلَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَلابِكُمْ﴾ النساء 23؛ قال ابن كثير: " أي وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية " (63)، وقال الأصفهاني: " تَنْبيهٌ أنّ الوَلدَ جُزْءٌ مِنَ الأب " (64)، قال تعالى: ﴿ذُرّيّةًبَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ آل عمران 34، وقال تعالى: ﴿بَعْضُكُممّن بَعْضٍ﴾ آل عمران 195، قال ابن الجوزي: " أخرج بعضهم من ظهور بعض " (65)، وفي تفسير الجلالين: " نسلا بعد نسل " (66)، والاستدلال إذاً على بعث الإنسان بأصل خلقه وامتداد تقديره إلى جيل أسبق من الجنسين حين خلقه في القرآن كثير، قال القرطبي: " الإنسان اسم للجنس " (67)، وقال أيضاًمساوياً في الدلالة بين تعبيرين: " قال تعالى ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ وقال ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ النحل 72 " (68)، وتعبير ﴿مّنْ أَزْوَاجِكُم﴾ يدل على عناصر وراثية تنشأ منها الذرية وتمتد لتشمل الأحفاد يصدق على كلٍّ من الجنسين؛ الذكر والأنثى، وقال الثعالبي: " قوله تعالى ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ توقيفلمنكري البعث على أصل الخلقة.. قال الحسن وغيره معناه من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائبه " (69)، وقال الألوسي: " روي عن قتادة أيضا أن المعنى يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائبكل منهما " (70)، فالقرآن إذن يحدد موضع اجتماع أصول تكوين عضو إنتاج الذرية من الجنسين بالظهور أو الأصلاب ويكشف موضع انفصاله وتميزه على طريق هجرته.
وقد يعبر القرآن عن المني ضمناً كما في قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيّ شَيء ٍخَلَقَهُ﴾ عبس 17و18، وقوله: ﴿إِنّا خَلَقْنَاهُم مّمّا يَعْلَمُونَ﴾ المعارج 39، وقوله: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾، أو يصرح به بلفظ (مني) كما في قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مّا تُمْنُونَ. أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ الواقعة 58و59، أو يصف تكوينه الفاعل حتى يصبح مشيجاً تشبيهاً بالقطيرة الضئيلة من الماء بلفظ (نطفة) كما في قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُالإِنسَان ُأَن يُتْرَكَ سُدًى. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ. ثُمّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّىَ﴾القيامة 36-38، وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَة ٍفَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ﴾ يس 77، وقوله: ﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نّطْفَة ٍفَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ﴾ النحل 4، وقوله: ﴿إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نّطْفَةٍ أَمْشَاجًٍ﴾ الإنسان 2، أو يصفه تشبيها بلفظ (ماء)، كما في قوله: ﴿أَلَمْ نَخْلُقكّم مّن مّآءٍمّهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مّكِينٍ﴾ المرسلات 20و21، ومثله قوله تعالى:﴿وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍمّن مّآءٍ﴾ النور 45، وكما ترى يعبر القرآن بلا استثناء عن ابتداء خلق الفرد من السائل المنوي لحين تكون النطفة الأمشاج بفعل (الخلق) وما بعده بفعل (الجعل)، وبالمثل يصف ابتداء الحياة من الطين بفعل (الخلق) ويعبر عما بعده كذلك بفعل (الجعل)، كما في قوله تعالى: ﴿الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُوَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَان ِمِن طِينٍ. ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مّآءٍ مّهِينٍ﴾ السجدة 7و8،وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ. ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ﴾ المؤمنون 12و13، وهكذا لم يرد في القرآنفعل (الإخراج) متعلقاً بالسائل المنوي، وإنما ورد التعبير عن مرحلة المني في تاريخ نشأة الإنسان إما بفعل (الخلق) أو فعل (الجعل)،بينمافاض التعبير بفعل (الإخراج) متعلقاً بالإنسان للدلالة على معانٍ منها الإنبات تمثيلاً بالنبات والانتقال والإحياء والبعث والولادة.
وينطوي التعبير بفعل (الإخراج) بدلالته على البروز والظهور على معنى التحول لشيء غير موجود أو خفي ليصبح منظورا تتأمله العين، وأظهر مثال هو النبات فأصله بذور ضئيلة خالطت الماء، كما في قوله تعالى: ﴿إِنّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِه ِنَبَاتُ الأرْضِ﴾ يونس 24، وقوله: ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مّثَلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ﴾ الكهف 45، ولذا يرد فعل (الإخراج) بمعنى فعل (الإنبات) كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مّتَرَاكِباً﴾ الأنعام 99، وقوله: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَج َبِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ﴾ البقرة 22، وقوله تعالى: ﴿أَلاّ يَسْجُدُواْ للّهِ الّذِي يُخْرِجُ الْخَبْء َفِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ النمل 25، وقوله تعالى: ﴿سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَىَ. الّذِي خَلَقَ فَسَوّىَ. وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَىَ. وَالّذِيَ أَخْرَجَ الْمَرْعَىَ. فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىَ﴾ الأعلى 1-5، وبهذا يؤدي فعل (الإخراج) وظيفة فعل (الإنبات) في مثل قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السّمَآءِ مَآءًفَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ النمل 60، وقوله تعالى: ﴿وَنَزّلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً مّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبّ الْحَصِيدِ﴾ ق 9، وقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ لقمان 10، وقوله تعالى: ﴿يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزّرْعَ وَالزّيْتُونَ وَالنّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ﴾ النحل 11، ويشترك الإنسان مع بقية الأحياء في الأصل الميت وهو الطين أو مكوناته؛ الماء أو التراب، ولذا يوحدهما القرآن في الأصل في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ﴾ الأنبياء 30، وقد يمد التعبير النقلة لتبلغ الأصل الأول لمزيد من بيان الاقتدار والعظمة كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآء ِبَشَراً﴾ الفرقان 54، قال الألوسي: " المراد بالماء الماء المعروف وتعريفه للجنس " (71)، ولبيان الاقتدار في نشأة الحيوان دون بقية الأحياء التي تتناسل بطرق غير المني يقصر القرآن دلالة لفظ الماء على المني بإيراده بالتنكير الدال على التعدد بياناً للعلم بتميز كل حيوان بمني يخصه؛ في قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ﴾ النور 45، قال السيوطي: قوله ﴿وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ﴾ أي كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع الماء وكل فرد من أفراد الدواب من فرد منأفراد النطف (72)، وقد بلغ التماثل في تعبير القرآن بين الإنسان والنبات في الأصل الأول إلى حد وصف نشأة الإنسان بفعلي (الإنبات)و(الإخراج) كما لو كان نباتاً حقيقةً في قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرْضِ نَبَاتاً. ثُمّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً " نوح 17و18، ولذا بياناً لوحدة الأصل الميت من الطين أو مكوناته الأصلية وتماثل الإنشاء جعل القرآن إنشاء النبات مثالاً لبعث الإنسان حياً يوم قيامة الأموات كما في قوله تعالى: ﴿وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً بِقَدَر ٍفَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاًكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ الزحرف 11، وقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ إِنّ الّذِيَ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَىَ إِنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾فصلت 39، وقوله: ﴿يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّت ِوَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَتُخْرَجُونَ﴾ الروم 19، وفي قولهتعالى: ﴿وَهُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّىَ إِذَآ أَقَلّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مّيّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَابِهِمِن كُلّ الثّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى َلَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ﴾ الأعراف 57؛ تلاحظ أن فعل (الإخراج) يتضمن تمثيل الإنسان بالنبات ويعبر عن نشأة كلٍّ منهما ويجعله نظيراً للثمرات، وتلمس تشبيه وليد الإنسان والحيوان الولود مع الثمرات في قوله تعالى: ﴿وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىَ وَلاَ تَضَع ُإِلاّ بِعِلْمِهِ﴾ فصلت 47، بينما لا تجد أي من تلك الأوصاف المميزة للإنسان منسوباً للمني.
ويرد فعل (الإخراج) في القرآن في سياق الهجرة للدلالة على الانتقال متعلقاً بالإنسان كما في قوله تعالى: ﴿فَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْمِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لاُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ﴾ آل عمران 195، وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراًإِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللّهِ﴾ النساء 100، ويرد للدلالة على الإحياء والبعث متعلقاً بالإنسان كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَإِذَا كُنّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنّالَمُخْرَجُونَ﴾ النمل 67، وقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنّهُمْ جَرَادٌ مّنتَشِرٌ﴾ القمر 7، وقوله تعالى: ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَوَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ الأعراف 25، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَإِذَا كُنّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنّالَمُخْرَجُونَ﴾ النمل 67، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَىَ بِإِذْنِيِ﴾ المائدة 110، وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً﴾ مريم 66، وقوله تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُم ْتَارَةً أُخْرَىَ﴾طه 55، ويرد للدلالة على الولادة متعلقاً بالإنسان كما في قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ النحل 78، وقوله تعالى: ﴿وَنُقِرّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ثُمّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ الحج 5، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ غافر 67، وكما ترى يرد فعل (الإخراج) متعلقاً بالإنسان في مواضع كثيرة بينما لم يرد ولا مرة واحدة متعلقاً بالمني، وهكذا تتآزر الشواهد العديدة مؤكدةً على تعلق فعل (الإخراج) في القرآن بالإنسان لا المني.
(خامساً) استفادة القدامى والمعاصرون من معارف عصورهم في التفسير:
في اجتهادات متفاوتة الخطوات لمطابقة الدلالات العلمية العميقة الغور؛ قال الشوكاني: " قيل إن ماء الرجل ينزل من الدماغ، ولا يخالف هذا ما في الآية لأنه إذا نزل من الدماغ نزل من بين الصلب والترائب، وقيل إن المعنى يخرج من جميع أجزاء البدن، ولا يخالف هذا ما في الآية لأن نسبة خروجه إلى بين الصلب والترائب باعتبار أن أكثر أجزاء البدن هي الصلب والترائب " (73)، وقال السيوطي: " عن الأعمش قال يخلق العظام والعصب من ماء الرجل ويخلق اللحم والدم من ماء المرأة " (74)، وقال ابن كثير: " عن معمر بن أبي حبيبة المدني أنه بلغه في قول الله عز وجل ﴿يخرج من بين الصلب والترائب﴾ قال هو عصارة القلب من هناك يكون الولد " (75)، وقال القاسمي: " ومعنى الآية أن المني باعتبار أصله وهو الدم يخرج من شيء ممتد بين الصلب أي فقرات الظهر في الرجل والترائب أي عظام صدره، وذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر (الأورطى) وهو أكبر شريان في الجسم يخرج من القلب خلف الترائب ويمتد إلى آخر الصلب تقريبا، ومنه تخرج عدة شرايين عظيمة، ومنها شريانان طويلان يخرجان منه بعد شرياني الكليتين، وينزلان إلى أسفل البطن حتى يصلا إلى الخصيتين فيغذيانهما، ومن دمهما يتكون المني في الخصيتين ويسميان شرياني الخصيتين أو الشريانين المنويين، فلذا قال تعالى عن المني ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ لأنه يخرج منمكان بينهما وهو الأورطي أو الأبهر، وهذه الآية على هذا التفسير تعتبر من معجزات القرآن العلمية " (76)، وقال ابن عاشور: " الخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان..، والصلب العمود العظمي الكائن في وسط الظهر وهو ذو الفقرات..، والترائب جمع تريبة.. تضاف إلى الرجل وإلى المرأة ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء..، وقوله ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ الضمير عائد على ماء دافق وهو المتبادر.. أي يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل وترائبه، وبهذا قال سفيان والحسن.. (ولكن المراد) أن أصل تكون ذلك الماء وتنقله من بين الصلب والترائب، وليس المعنى أنه يمر بين الصلب والترائب إذ لا يتصور ممر بين الصلب والترائب لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر والضلوع من قلب ورئتين..، ولا شك أن النسل يتكون من الرجل والمرأة فيتكون من ماء الرجل وهو سائل فيه أجسام صغيرة تسمى في الطب الحيوانات المنوية.. مقرها الأنثيان وهما الخصيتان.. ومن ماء هو للمرأة كالمني للرجل.. وهو بويضات دقيقة.. يشتمل عليها مبيضان للمرأة وهما بمنزلة الأنثيين للرجل فهما غدتان تكونان في جانبي رحم المرأة، (و) الحبل المنوي.. ينتهي إلى الأنثيين وهما الغدتان اللذان تفرزان المني..، وهذا من الإعجاز العلمي في القرآن الذي لم يكن علم به للذين نزل بينهم " (77)، وقال سيد قطب: " فلينظر الإنسان من أي شيء خلق وإلى أي شيء صار.. إنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل وهو عظام ظهره الفقارية ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها.. ولقد كان هذا سرا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر حتى كان نصف القرن الأخير حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته؛ وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان! والمسافة الهائلة بين المنشأ والمصير.. بين الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب وبين الإنسان المدرك العاقل المعقد التركيب العضوي والعصبي والعقلي والنفسي.. هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافق " (78).
وذكر الدكتور محمد وصفي في كتاب " القرآن والطب " أنه نقل ما كتبه في مجلة " هدى الإسلام " عام 1354هـ (1936م) فقال: " الماء الدافق هو السائل المنوي الذي يحتوي على الحيوانات المنوية الحية، وسمي دافقاً لأنه يصب.. بوساطة الانقباضات الخاصة التي تدفع بها القناة الناقلة والحويصلة المنوية هذا السائل..، وهو قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ﴾ القيامة 37، ويقول القاموس المحيط دفقه ويدفقه صبه، وهذا ما يجعل الماء الدافق خاصاً بالذكر وحده دون الأنثى، إذ ليس للمرأة ماء يصب ويتدفق بشدة كماء الرجل، بل إن ماء المرأة إفراز يسيل لمجرد تليين الجهاز التناسلي وترطيبه، مثل سيلان اللعاب والعرق، وبذلك يكون قوله تعالى ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ أي يخرج من بين صلب الرجل وترائبه ولا دخل هنا لصلب المرأة وترائبها مطلقاً..، والصلب هوالسلسلة الفقرية.. والترائب هي عظام الصدر..، (و) النطفة.. تتكون حقيقةً في القناة المنوية في الأنثيين (الخصيتين) ولا تتكون في الصلب ولا تتكون كذلك من الترائب، فقوله تعالى ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ ليس معناه أنه يخرج منهما ولكن معناه أنه يخرج بينهما، أي يخرج من مكان يقع بينهما، وهذا من عظيم أسرار الإسلام في الطب..، (و) في الذكروالأنثى.. مكان الغدة التناسلية يكون في أول الأمر في الفراغ البطني.. (و) يقع تماماً بين الصلب والترائب..، فالآية الكريمة ترشدنا بذلك إلى أصل تكوين الغدة التناسلية في الإنسان وتدلنا على مكان وجودها الأولي فيه.. (و) يخرج باعتبار نشأته الأولى وأصل وجوده في الجنين " (79).
وقال المراغي(تُوفِّي عام 1371هـ - 1952م): " ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾ أي فلينظر بعقله وليتدبر في مبدأ خلقه ليتضحله قدرة واهبه وأنه.. على إعادته أقدر.. ﴿خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾.. حقائق علمية تأخر العلم بها والكشف عن معرفتها وإثباتها ثلاثة عشر قرنا، بيان هذا أن صلب الإنسان هو عموده الفقري (سلسلة ظهره) وترائبه هي عظام صدره.. وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا في منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات التي حيرت الألباب.. فكل من الخصية والمبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلى ويقع بين الصلب والترائب، أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا ومقابل أسفل الضلوع..، فإذا كانت الخصية والمبيض في نشأتهما وفي إمدادهما بالدم الشرياني وفي ضبط شئونهما بالأعصاب قد اعتمدتا في ذلك كله على مكان في الجسم يقع بين الصلب والترائب فقد استبان صدق ما نطق به القرآن الكريم وجاء به رب العالمين ولم يكشفه العلم إلا حديثا بعد ثلاثة عشر قرنا من نزول ذلك الكتاب، هذا وكل من الخصية والمبيض بعد كمال نموه يأخذ في الهبوط إلى مكانه المعروف فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها في الصفن ويهبط المبيض حتى يأخذ مكانه في الحوض بجوار بوق الرحم، وقد يحدث في بعض الأحيان ألا تتم عملية الهبوط هذه فتقف الخصية في طريقها ولا تنزل إلى الصفن فتحتاج إلى عملية جراحية..، وإذا هدي الفكر إلى كل هذا في مبدأ خلق الإنسان سهل أن نصدق بما جاء به الشرع وهو البعث في اليوم الآخر.. ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾، أي إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداءً.. قادر أن يرده حيا بعد أن يموت " (80).
ويقول الدكتور محمد علي البار في كتاب " خلق الإنسان بين الطب والقرآن ": " لنبق قليلا مع الآية الكريمة التي تتحدث عن الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب نتملى معانيها المعجزة الباهرة.. والآية الكريمة تحثنا على النظر في الإنسان الذي خلق من هذا الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب، وسبب تدفقه.. هو تقلصات جدار الحويصلة المنوية والقناة القاذفة للمني.. تقول الآية الكريمة أن الماء الدافق يخرج من بين الصلب والترائب، ونحن قد قلنا أن هذا الماء (المني) إنما يتكون في الخصية وملحقاتها، كما تتكون البويضة في المبيض لدى المرأة، فكيف تتطابق الحقيقة العلمية مع الحقيقة القرآنية؟: إن الخصية والمبيض إنما يتكونان من الحدبة التناسلية بين صلب الجنين وترائبه، والصلب هو العمود الفقري والترائب هي الأضلاع،وتتكون الخصية والمبيض في هذه المنطقة بالضبط أي بين الصلب والترائب، ثم تنزل الخصية تدريجيا حتى تصل إلى كيس الصفن (خارج تجويف البطن) في أواخر الشهر السابع من الحمل بينما ينزل المبيض إلى حوض المرأة..، ومع هذا فإن تغذية الخصية والمبيض بالدماء والأعصاب واللمف تبقى من حيث أصلها أي من بين الصلب والترائب، فشريان الخصية أو المبيض يأتي من الشريان الأبهر (الأورطي البطني) من بين الصلب والترائب، كما أن وريد الخصية يصب في نفس المنطقة أي بين الصلب والترائب، كما أن الأعصاب المغذية للخصية أو للمبيض تأتي من المجموعة العصبية الموجودة تحت المعدة من بين الصلب والترائب، وكذلك الأوعية اللمفاوية تصب في نفس المنطقة أي بين الصلب والترائب، فهل يبقى بعد كل هذا شك أن الخصية أو المبيض إنما تأخذ تغذيتها ودماءها وأعصابها من بين الصلب والترائب؟، فالحيوانات المنوية لدى الرجل أو البويضة لدى المرأة إنما تستقي مواد تكوينها من بين الصلب والترائب، كما أن منشأها ومبدأها هو من بين الصلب والترائب، والآية الكريمة إعجاز كامل حيث تقول: ﴿مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾، ولم تقل من الصلب والترائب، فكلمة ﴿بَيْنِ﴾ ليست بلاغية فحسب وإنما تعطي الدقة العلمية المتناهية..، والعلم الحديث يقرر أن الماء الذي لا يقذف ولا يندفع وإنما يسيل.. إنما هو إفرازات المهبل وغدد بارثولين المتصلة به وأن هذه الإفرازات ليس لها دخل في تكوين الجنين وإنما وظيفتها ترطيب المهبل.. ولكن العلم الحديث يكشف شيئا مذهلا؛ أن الحيوانات المنوية يحملها ماء دافق هو ماء المني، كذلك البويضة في المبيض تكون في حويصلة جراف محاطة بالماء فإذا انفجرت الحويصلة تدفق الماء.. وتلقفت أهداب البوق البويضة لتدخلها إلى قناة الرحم حيث تلتقي بالحيوان المنويلتكون النطفة الأمشاج.. هذا الماء يحمل البويضة تماما كما يحمل ماء الرجل الحيوانات المنوية، كلاهما يتدفق، وكلاهما يخرج من بين الصلب والترائب: من الغدة التناسلية؛ الخصية أو المبيض.. وتتضح مرة أخرى معاني الآية الكريمة في إعجازها العلمي الرائع: ماء دافق من الخصية يحمل الحيوانات المنوية، وماء دافق من حويصلة جراف بالمبيض يحمل البويضة " (81).
ويقول الدكتور مأمون شقفة في كتاب " القرار المكين ": " الذرية هي النسل، واشتقاق كلمة الذرية من الذرة يدل على أن النسل يحصل بعناصر صغيرة جدا تبين الآن أنها الخلايا الجنسية.. ولكن ما يهمني هو أن الإشهاد هذا إنما حصل لذرية بني آدم من بعده كما فسر الحسن البصري إذ قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَمَ﴾ ولم يقل من آدم ﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾ ولم يقل من ظهره..، فإنما يأخذ الميثاق من البشر كأفراد قبل أن يخرجوا من عالم الذر إلى عالم المجسمات، وهذا الميثاق من نعم الله علينا فقد فطرنا على الشعور بحاجة ماسة إلى الإيمان بالخالق العظيم.. ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنّ اللّهُ﴾ لقمان 25..المهم أننا نشعر بنداء الفطرة هذا في أعماقنا يشدنا إلى الله عز وجل ويذكرنا كلما ألم بنا طائف.. ولقد حيرت آية الصلب والترائب الألباب وذهب فيها المفسرون مذاهب شتى على قدر ما أوتي كل منهم من علم.. تحير المفسرون في خروج الماء من بين الصلب والترائب.. لعدم وجود معلومات طبية تشريحية بين أيديهم تدلهم.. منشأ الغدد التناسلية ليس في الواقع بين الصلب والترائب ولكن في الأصلاب بالذات (وإنما الخروج من بينهما)..، إن القرآن لا يقول أبدا: يخرج الماء الدافق من بين الصلب والترائب، ولكنه يقول ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾.. وهذه الآية مثل آيات الله تعالى الأخرى تشير إلى قدرة الله تعالى المتجلية في أمر عظيم هو الولادة أي إخراج الإنسان من بين الصلب والترائب.. فالضمائر هنا تتعلق بالإنسان رغمكون الماء أقرب.. لأن المعنى يختل ولا يستقيم إذا تعلقت هذه الضمائر بالماء.. وفي قواعد اللغة أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور له في الكلام، وقد يعود إلى البعيد بقرينة دالة عليه..، أما وقد وجدت القرينة القوية بما عندنا من علم حديث فلم يبق شك في أن هذا الضمير (في يخرج) يعود للإنسان، فما هي هذه القرينة؟ إن هذه القرينة هي أن الجنين (أي الإنسان) يكون أثناء الحمل وفي تمامه وحين يخرج (أي أثناء الولادة) بالضبط بين الصلب والترائب، ويكون الخط الواصل بين الصلب والترائب منطبقا على محور الجنين في أكثر من 97% من الحالات في المجيئات الطولانية الرأسية أو المقعدية.. ولا يخرج جنين واحد أبدا عن مدلول الآية الكريمة، إذن لم يعد هناك شك في أن ضمير ﴿يَخْرُجُ﴾عائد إلى الإنسان، وفي أن الله تعالى يلفت نظرنا إلى عملية الولادة المعقدة " (82).
(سادساً) موجز الدراسة الدلالية:
في قوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ. إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ. فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾؛ الماء الدافق تعبير وصفي للمني لأنه سائل تركيبه يماثل قطيرات الماء إلا أنه حي تتدفق تكويناته وتتحرك بنشاط ويصدق عليها الوصف بصيغة اسم الفاعل (دافق) لدلالته على الحركة الذاتية، وجميع الأوصاف عدا وصف الماء بالدافق تتعلق بالإنسان لأن بدء خلقه هو محور الحديث والموضوع الرئيس، وهو المستدل به على إمكان الإرجاع، وضمير (له) في قوله تعالى ﴿فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾ لا يستقيم عوده إلى الماء وإنما الإنسان، وضمير (رجعه) في قوله تعالى ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾الأظهر عوده إلى الإنسان والإرجاع هو إعادة الخلق للحساب بقرينة وقت الإرجاع ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾،ولا توجد ضرورة لتشتيت مرجع الضمائر في ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾ و﴿خُلِقَ مِن مّآءٍ﴾ و(رجعه) في ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾و﴿فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾ ولذا الأولى عود ضمير (يخرج) في ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾إلى الإنسان كذلك مثلها، خاصة أن المني لا يخرج بذاته كذلك وإنما من الخصية، والوصف بالإخراج آية مستقلة كبيان متصل بأصل الحديث عن الإنسان، وبيان القدرة الإلهية وسبق التقدير أجلى والاستدلال على إمكان الإعادة أوثق في إخراج الذرية من ظهور الأسلاف، والتلازم قائم بين (إخراج) الإنسان للدنيا وليداً و(إرجاعه) حياً بينما لا تلازم بين (إخراج) المني و(إرجاع) الإنسان، والخروج من الظهور مُبَيَّنفي قوله تعالى:﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَم َمِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ﴾ الأعراف 172،، وقوله: ﴿أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَلابِكُمْ﴾ النساء 23، ولم يرد في القرآن فعل (الإخراج) متعلقا بالمني بينما ورد كثيرا متعلقا بالإنسان لبيان خروجه للدنيا وليداً وخروجه حياً للحساب.
والحقيقة العلمية هي أن الأصول الخلوية للخصية في الذكر أو المبيض في الأنثى تجتمع في ظهر الأبوين خلال نشأتهما الجنينية ثمتخرج من الظهر من منطقة بين بدايات العمود الفقري وبدايات الضلوع ليهاجر المبيض إلى الحوض بجانب الرحم وتهاجر الخصية إلى كيس الصفن حيث الحرارة أقل وإلا فشلت في إنتاج الحيوانات المنوية وتصبح معرضة للتحول إلى ورم سرطاني إذا لم تُكمل رحلتها، والتعبير ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ﴾ يفي بوصف تاريخ نشأة الذرية ويستوعب كافة الأحداث الدالة على سبق التقدير وبالغ الاقتدار والإتقان منذ اجتماع الأصول الخلوية في الأصلاب ونشأة عضو إنتاج الذرية وهجرته خلف أحشاء البطن ابتداءً من المنطقة بين الصلب والترائب إلى المستقر، وحتى يولد الأبوان ويبلغان ويتزاوجان وتخلق الذرية مما يماثل نطفة ماء في التركيب عديمة البشرية لكنها حية تتدفق ذاتياً لتندمج مع نطفة نظير فتتكون النطفة الأمشاج من الجنسين، ويستمر فعل الإخراجساري المفعول ليحكي قصة جيل آخر لجنين يتخلق ليخرج للدنيا وليداً وينمو فيغفل عن قدرة مبدعه، وكل هذا الإتقان المتجدد في الخلق ليشمل تاريخ كل إنسان عبر عنه العليم الحكيم بلفظة واحدة تستوعب دلالاتها كل الأحداث: ﴿يَخْرُجُ﴾، فأي اقتدار وتمكن في الخلق والتعبير!.
إحكام في البيان
وردت في القرآن 42 مفردة عدا اللفظ ﴿فَلْيَنظُرِ﴾ تماثله في البناء هي: فَلْيَتَوَكّلِ(تسع مرات) فَلْيَعْمَلْ(مرتين)فَلْيَأْتُواْ(مرتين) فَلْيَسْتَجِيبُواْ(مرتيـن) فَلْيَمْدُدْ(مرتين) فَلْتَقُمْ(مرة) فَلَنَأْتِيَنّكَ(مرة) فَلَنَأْتِيَنّهُم(مرة) فَلَنُحْيِيَنّهُ(مرة) فَلَنُذِيقَنّ(مرة)فَلَنَسْأَلَنّ(مرة) فَلَنَقُصّنّ(مرة) فَلَنُنَبّئَنّ(مرة) فَلَنُوَلّيَنّكَ(مرة) فَلْيَأْتِكُمْ(مرة) فَلْيَأْتِنَا(مرة) فَلْيُؤَدّ(مرة) فَلْيَأْكُلْ(مرة)فَلْيُؤْمِن(مرة)فَلَيُبَتّكُنّ(مرة) فَلْيَتّقُواّ(مرة) فَلْيَتَنَافَسِ(مرة) فَلْيَحْذَرِ(مرة) فَلْيَدْعُ(مرة) فَلْيَذُوقُوهُ(مرة) فَلْيَرْتَقُواْ(مرة) فَلْيَسْتَأْذِنُواْ(مرة)فَلْيَسْتَعْفِفْ(مرة) فَلْيُصَلّواْ(مرة) فَلْيَصُمْهُ(مرة) فَلْيَضْحَكُواْ(مرة) فَلْيَعْبُدُواْ(مرة) فَلَيَعْلَمَنّ(مرة) فَلَيُغَيّرُنّ(مرة) فَلْيَفْرَحُواْ(مرة)فَلْيُقَاتِلْ(مرة) فَلْيَكْتُبْ(مرة) فَلْيَكْفُرْ(مرة) فَلْيَكُونُواْ(مرة) فَلْيُلْقِهِ(مرة) فَلْيُمْلِلْ(مرة) فَلْيُنفِقْ(مرة)، ويستقيم فيها جميعا أن تكون (اللام) للأمر و(الفاء)تفصح عن محذوف بأصل دلالتها على التعقيب إن لم يسبقها ما لا يحتاج معه إلى تقدير محذوف، ولذا تسمى فاء الفصيحة في اصطلاح النحاة.
وورد اللفظ ﴿فَلْيَنظُرِ﴾ في أربعة مواضع؛ قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْقَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـَذِهِ إِلَىَ الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيّهَآ أَزْكَىَ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطّفْ وَلاَ يُشْعِرَنّ بِكُمْ أَحَداً﴾ الكهف 19، وقوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ الحج 15، وقوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىَ طَعَامِهِ﴾ عبس 24، وقوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾ الطارق 5، وفي تلك المواضع الأربعة جميعاً يتبع اللفظ (فَلْيَنظُرِ) نتيجة حسية معاينة مؤكَّدة تلزمها مقدمات وردت بالتصريح في حالتين لفظاً مما يقتضي في البقية ورودها ضمناً ويلزم تقديرها، وقوله: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىَ طَعَامِهِ﴾ جواب لسؤال تفرضه حالة المنكرين الغافلين عن تقدير النعمة قبل إيجاد المُنْعَم عليه، وكأنهم يتساءلون مستنكرين فلزمهم الإسهاب في بيان سبق الإعداد في قوله تعالى: ﴿أَنّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً. ثُمّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقّاً. فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً. وَحَدَآئِقَ غُلْباً. وَفَاكِهَةً وَأَبّاً. مّتَاعاً لّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ﴾ عبس 25-32، وكشف حالة الكفر بالنعمة التصريح بها في التذييل: ﴿أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ عبس 42، وبالمثل جاء قوله: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾ جواباً لسؤال تطرحه حالة منكري البعث الغافلين عن المصير، وكشف التصريح بالإعادة حالة الإنكار مؤكداً لقدرة الله تعالى بداهةً على إرجاع الإنسان وذلك في التذييل: ﴿إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾.
وصيغة الفعل (يُخْرِجْ) بضم الياء تُصَرِّح بخروج الشيء بتدبير فاعل غيره بينما الصيغة (يَخْرُجُ) بفتحها تصف الشيء نفسه فتعني أنه المُؤَدِّي للفعل ولا تصرح بفاعل التدبير؛ هل هو الشيء نفسه أم فاعل غيره؟، ولكن الفعل المبني للمجهول ﴿خُلِقَ﴾ والعائد على الإنسان يصرح بضرورة وجود الخالق، وكأنه قال (يُخْرِجُهُ اللهُ من بين الصلب والترائب)، وبهذا الاحتياط يقطع التركيبفي قصر تدبير (الإخراج) على الخالق وحده، وصيغة المضارع ﴿يَخْرُجُ﴾ تدل على تجدد الفعل ودوامه دفعاً للصدفة وبياناً للتقدير،واقتدار الخالق شاخص في كل العرض بينما يتملى الخيال مشاهد أعرضت عن الإنسان فعبرت عنه بالغائب في ومضات تُعَرِّيه من الخيلاء وتفاجئه بأصله ومصيره طاويةً حياته ومماته وكأنه لم يكن، في مقابل مشهد استكباره في تبجحصارخ يعلنه الاحتجاج المستهل بحرف (الفاء) ليفصح بأصل دلالته على التعقيب عن محذوف يكشف ما يجول في طوية نفسه: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾، كأنه صيحة مدوية مؤنبة تقول: ألم تحدثك نفسك؟، وليس للإنسان في تلك المحاكمة إلا حضورا باهتا داخل قفص الاتهام في زاوية من المخيلة بينما تشخص عياناً أدلة التجريم؛ وكأنه تعالى يقول: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىَ﴾ القيامة 40، وهذا المشهد الأصغر لتعري السرائر مثال لمشهد يوم عظيم ﴿يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ﴾، فتأمل الاتساق في عرض المشاهد!، تصوير عجيب يكشف ما قبل فتح الستار وحتى بعد ضمه تبقى في الخاطر شتى صور العقاب وتأز في المسامع نيران تتشوق لمن يشك لحظة في قدرة الخالق سبحانه!.
وتجاوباً مع الإعراض عن الإنسان الغافل عن مبتداه الناكر لمصيره لم يستفته التعبير ولم ينتظر منه جواباً بل يجرده من الأعذار، فعدل عن أداة الاستفهام (مِما؟) إلى الأداة ﴿مِمّ﴾ بغير ألف لأن المقام هنا لا يتعلق بالاستفهام وإنما التقرير، ومثله قول العلي القدير: ﴿عَم ّيَتَسَآءَلُونَ﴾ النبأ 1، وقوله تعالى: ﴿فِيمَأَنتَ مِن ذِكْرَاهَا﴾ النازعات 43، وقوله: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ﴾ البقرة 91، ويصلح التقرير فيها جميعاً مع التمييز بين ﴿ما﴾ الاستفهامية والخبرية بحذف الألف والاكتفاء بالميم مع حرف الجر (83)، وأصل تركيب ﴿مِمّ﴾: (مِن) للابتداء و(مَا) بمعنى (الذي) لكن الإبهام زاد بداية الإنسان إيغالاً في الضآلة إلى حد العدم في مرأى العين، ودليل البَدء حجة دامغة لذا فاضت به محاكمات القرآن لتجريم الغافلين عن البعث وأدانهم مراراً سؤاله: (كيف بدأ الخلق؟)، مثل قول العلي القدير: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ﴾ يس 77، وقوله: ﴿أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ مريم 67، وقوله: ﴿هَلْ أَتَىَ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مّذْكُوراً﴾ الإنسان 1، وقوله: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ﴾ القيامة 37، وقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مّا تُمْنُونَ. أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ الواقعة 58و59، وقوله: ﴿كَلاّ إِنّا خَلَقْنَاهُم مّمّا يَعْلَمُونَ﴾ المعارج 39، وقوله: ﴿مّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلّهِ وَقَاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ نوح 13و14، وقوله: ﴿يَأَيّهَا الإِنسَانُ مَا غَرّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ. الّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ الانفطار 6و7، وقوله: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلّن نّجْمَعَ عِظَامَهُ. بَلَىَ قَادِرِينَ عَلَىَ أَن نّسَوّيَ بَنَانَهُ﴾ القيامة 3و4، وكذلك قوله: ﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيّ شَيءٍ خَلَقَهُ﴾ عبس 17و18، وهو كقوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ. إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ. فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِر﴾، وكأنه يقول: كيف يجرؤ أحد أن ينكر قدرة الله على البعث والحساب ولو حديثاً في النفس! ألم يعلم كيف كان قبل خلقه ويدرك تلاحق الذرية!، فالظاهر السؤال والمعنى التقرير والاحتجاج للإفحام، وتلمس تعجب وإعراض وتبكيت وتقريع في جو تشوبه هيبة وغلبة وتمكن واستعلاء ويصاحبه إيقاع كأنما هو في الحس قرع الطبول في ساحة معركة أو كما لو كانت قاعة المحاكمة ليست لإصدار الحكم فحسب بل ساحة لتنفيذ حكم الإعدام؛ فلا يملك المعاند إلا أن يسمع الحكم مأخوذاً بكشف السرائر مستسلماً لهدير دلائل التجريم، وهذا أسلوب عجيب فريد جامع لا يبلغه اليوم أي كتاب يُنسب للوحي قد بلغ الذروة في التصوير وثراء المعني مع الغاية في إيجاز اللفظ، وهكذا يتصل العرض وينقلك في ومضة من مشاهد بدايات مقدرة تسبق وجود الإنسان إلى حيث يقف عاجزا معرَُى السريرة ليواجه مصيره وحده بلا أعوان فيتجلى بتلك النقلة الكبيرة الفارق في أحواله، وسرعة النقلة تؤكد سبق التقدير وتجلي قدرة الله وواسع تدابيره وحكمته؛ ناطقةً: ]إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ[.
قال ابن عاشور: " التقدير: إن رأيتم البعث محالاً ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ﴾ ليعلم أن الخلق الثاني ليس بأبعد من الخلق الأول، فهذه الفاء مفيدة مفاد فاء الفصيحة، والنظر نظر العقل وهو التفكر المؤدي إلى علم شيء بالاستدلال، فالمأمور به نظر المنكر للبعث في أدلة إثباته " (84)، وقال ابن القيم: " والتفكر في القرآن نوعان:تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه،فالأول تفكر في الدليل القرآني والثاني تفكر في الدليل العياني،الأول تفكر في آياته المسموعة والثاني تفكر في آياته المشهودة،ولهذا أنزل الله القرآن ليتدبر ويتفكر فيه ويعمل به..،قال تعالى ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ. ثُمّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّىَ. فَجَعَلَ مِنْهُ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ وَالاُنثَىَ. أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِـيَ الْمَوْتَىَ﴾ القيامة 36-40،وقال تعالى ﴿أَلَمْ نَخْلُقكّم مّن مّآءٍ مّهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مّكِينٍ. إِلَىَ قَدَرٍ مّعْلُومٍ. فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ المرسلات 20-23،وقال ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ﴾ يس 77،وقال ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ. ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ. ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ المؤمنون 12-14،وهذا كثير في القرآن يدعو العبد إلىالنظر والتفكر في مبدأ خلقه.. إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره،وأقرب شيء إلى الإنساننفسه،وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه،وهو غافل عنه معرض عن التفكر فيه،ولو تفكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقه عن كفره،قال الله تعالى ﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيّ شَيءٍ خَلَقَهُ. مِن نّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ. ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ. ثُمّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ﴾ عبس 17-22،فَلَمْ يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذا لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب ولا لنتكلم بها فقط ولا لمجرد تعريفنا بذلك، بل لأمر وراء ذلك كله هو المقصود بالخطابوإليه جرى ذلك الحديث، فانظر الآن إلى النطفة (الأمشاج) بعين البصيرة وهي (مثل) قطرة من ماء.. كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير ﴿من بين الصلب والترائب﴾ منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها (في أصلاب الأسلاف) إلى أن ساقها إلى مستقرها! " (85)، ولا يملك أحد أن يستوعب كل تفصيلات الإبداع في هذا الوجود والتي أجملها قول العلى القدير: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىَ﴾! القيامة 40، وأما التفاصيل العلمية التي يستحيل أن يدركها بشر زمن التنزيل فهي بعض دلائل النبوة الخاتمة التي تسطع اليوم أمام النابهين.
مختارات