القدوس
وقد ذكر مرتين في القرآن في سورتي الحشر والجمعة
قال تعالى (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام) الحشر 23
و(يسبح لله مافي السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيزالحكيم) الجمعة 1
المعنى اللغوي
تقدّس في اللغة يعني تطهر
ومنها التقديس أي التطهير
والقدس (بسكون الدال وضمها) تعنى الطهر ومنها سميت الجنة حظيرة القدس.. وسمى جبريل روح القدس.
والقداسة تعنى الطهر والبركة
وقدس الرجل لله أي طهر نفسه بعبادته وطاعته، وعظمه وكبره:
ومنها قوله تعالى:
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون. )البقرة 30
ومعنى ونقدس لك: يعني يا رب نحن نطهر أنفسنا، ونقدسها كي نكون أهلاً للإقبال عليك، وهذه مهمة الإنسان في الدنيا، يجب أن يقدس نفسه كي ينال مقعد صدق عند مليك مقتدر.
والقدوس المطهر المعظم فهو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص.
قال الغزالي: هو المنزه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم.
وقَال ابن القيم َ: القدوس: المنزه من كل شر ونقص وعيب، كما قَالَ أهل التفسير: هو الطاهر من كل عيبَّ المنزه عما لا يليق به.
ثانيا تأملات وإيمانيات:
#
يقول الشيخ فوزي السعيد في رسالة له عن هذا الاسم الجليل:
لو فرضنا البشر كلهم على أجملهم صورة، على صورة جمال يوسف، ثم جُمعَ جمالهم كُلُّه في شخص واحد، هل يُتَصَوَّر جماله؟!
الحق أنه لا يمكن تَصَوُّرُه لبلُوغه درجات عالية في كمال الجمال المخلوق فكيف لو انضاف إليه الجمال في جميع المخلوقات من الطير والوحش والفلَكَ والحدائق والغابات واللؤلؤ وغيره، لا شك أنه سيكون أبعد عن التصور، ومن ثَمَّ يستحيل وجود عيوب أو قبح أو نقص في هذه الحالة، ثم لو نسبنا ذلك الجمال المفروض إلى جمال الخالق، لكان أقل من شمعة ضعيفة إلى قرص الشمس، فهل يخطر ببال أحد إمكانُ تصور جمال الرب سبحانه الذي له منتهى الكمال في الجمال؟! فإذا كان ذلك مستحيلاً فهل يُتَصَوَّر بعد ذلك وجود عيوب أو نقص في جمال الرب سبحانه؟! إن ذلك أبطل الباطل.
المثال الثاني:-
لو فرضنا مصباحاً كهربياً ذا قدرة عالية في الإضاءة فإنه يمكن تَصوَّر النَّظَرُ إليه وتصورُ قدرته الضَّوئية، فلو فرضنا أن مصابيح العالم كلِّه تَركَّزَت في مِصْباح واحد، فهل يمكن تصور النظر إليه عن قرب، وتَصُّور قدرتهِ الضوئية؟! أنا لا أستطيع تصور ذلك.
فكيف لو انضاف إلى ذلك كل وقود الأرض وجميع الطاقات الكهربية الموجودة وفرضناها إضاءة مركزة، فهل يمكن التصور؟!
إن ذلك مستحيل. فكيف بنور الشمس كُلَّه لو رُكِّز في المصباح المفترض؟! فكيف لو انضاف إليها أنوار جميع النجوم في جميع المجرات في زينة السماء الدنيا؟!
وكل هذه أنوار مخلوقه، فكيف بأنوار الخالق؟
هل يمكن تصور عَظَمَتِها وكمالِها؟
وإذا كان ذلك التصور مستحيلاً تماماً ؛ فهل بعد ذلك يُتصور وجود نقص أو عيب؟! حاشا لله.
واعتبر ذلك وقِسْ عليه في جميع صفات الله عز وجل
* مفهوم الطهارة الإلهية يختلف عن مفهوم الطهارة البشرية:
فالطهارة البشرية لها أكثر من معنى.. منها الطهارة من الدنس.. ومن كل ما يكون سببا للإصابة بالآفات والأمراض كما في قوله تعالى: ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ) الأنفال 11
وقوله سبحانه وتعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)المدثر 4، 5
وقوله جل وعلا: (فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ)البقرة 222
ومنا أيضا الطهارة من الآفات القلبية والنفسية كالحقد والحسد والبغض والبخل كما في قوله تعالى:( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) التوبة 102
وكما في قوله: ( أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) المائدة 41
ومنا أيضا التخلص من كل عبادة غير عبادة الحق جل وعلا والتخلص من معصيته
كما في قوله تعالى على لسان قوم لوط: أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) أي يتطهرون من المعاصي
هذا عن الطهارة البشرية.. فماذا عن مفهوم القداسة الإلهية؟
لا يمكن أن تكون القداسة أو الطهارة الإلهية بهذا المعنى، بل إنها تختلف اختلافا مطلقا عن الطهارة البشرية.
ولكي نفهم هذا الاختلاف ينبغي أن ندرك أن النجاسة خاصة المادية كالبول والبراز وخلافه مرتبطة بالبنية المادية للإنسان، فلولا الجسد لما كان هناك بول أو براز أو عَرَق أو دم الحيض.
ونظرا لأن الإنسان يتكون من روح وجسد فإنه لم يخل من كافة وجوه الدنس المرتبطة بتركيبه المادي.
أما الحق جل وعلا فهو مبرأ من المادة.. أي أن المادة لا تدخل في تركيبة، وكيف تدخل المادة في تركيبه وهي مخلوق من مخلوقاته عز وجل؟!
لقد كان الحق تبارك وتعالى ولم يكن معه شيء على الإطلاق كان الله ولم تكن المادة.
وكونه سبحانه وتعالى مبرأ من المادة يجعله مبرأ تبعا لذلك من جميع وجوه النجاسة والدنس التي تصيب البشر بسبب بنيتهم المادية.
وإذا انتقلنا إلى النجاسة أو الدنس المعنوي كالكفر والشرك والمعصية نجد أنها منتفية في حق الله عز وجل لأنه غيرخاضع لتكليف حتى يوصف بهذه الأوصاف.
وبالنسبة للآفات القلبية فهي أيضا منتفية في حقه تعالى، لأنه واحد أحد فرد صمد وليس له شبيه أو مثيل حتى ينظر إليه نظرة الحاسد أو الحاقد.
فماذا تعنى القداسة أو الطهارة الإلهية إذن؟
إن القداسة الإلهية تعنى أن الحق جل وعلا مبرأ من كل عيب أو نقص يتعارض مع كماله المطلق.
وهذا يعني أن جميع صفات الله عز وجل مطلقة وليست نسبية.
فمثلا صفة القدرة بالنسبة للإنسان نسبية يقدر على أشياء ولا يقدر على أخرى بينما نجد صفة القدرة لدى الحق جل وعلا مطلقة بمعنى أنه سبحانه قادر على كل شيء فلا يعجزه شيء ولا يقف ضد إرادته حائل.
فجميع صفاته مطلقة أي تبلغ منتهى الكمال في الوصف، فرحمته مطلقة وعلمه مطلق، وحكمته مطلقة وسمعه مطلق، وعزته مطلقة وعدله مطلق، وهكذا شأن جميع صفاته تبارك وتعالى
فهو سبحانه وتعالى الحي المطهر عن الموت.. العزيز المطهر عن الذل.. القادر المطهر عن العجز.. الكريم المطهر عن البخل.. العليم المطهر عن الجهل.. وهكذا شأن سائر أسماء ذاته الإلهية العلية.
فالحق سبحانه وتعالى) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) وهو جل وعلا منزه ومطهر عن المثيل والشبيه والند والسمي والكفؤ والمضاد، فتباركت ربنا وتعاليت
فكل شئ ألّه من دون الله عاجز ضعيف غير مقدس ولا مطهر بل عاجز ضعيف محتاج لا يقوم بأمر نفسه فضلا عن أن ينفع غيره.
ولعلنا نتأمل حوار الخليل إبراهيم مع قومه حينما رأى الكوكب ثم القمر ثم رأى الشمس، ويسمى هذا الأسلوب (مجاراة الخصم) وقد أراد إبراهيم بذلك إقناع قومه أن ما تعبدون من دون الله آلهة عاجزة ضعيفة تحضر وتغيب
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)الأنعام
قوله { هَـذَا رَبِّي } على زعمكم وعلى ظنكم
{ فَلَمَّا أَفَلَ } يعني زال وذهب النجم
{ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } لأن من كان إلها لا يمكن أن يغيب ولا يمكن أن تغيب عنه غائبة لا في السماء ولا في الأرض
{ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً } يعني طالعا
{ قَالَ هَـذَا رَبِّي } على زعمكم وعلى ظنكم
{ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } فيه إشارة إلى أنكم ضلّال فانتبهوا، لأن من يغيب ليس بإله.
{ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ } يعني أكبر من النجم وأكبر من القمر
{ فَلَمَّا أَفَلَتْ } أي زالت وذهبت ولم ينتفعوا
{ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } لم ينفع هؤلاء موعظة
فكأن إبراهيم أراد من ذلك بيان عجزها وضعفها وأنها تغيب أما إلهي وخالقي فهو حاضر لا يغيب.
وبين الله تعالى بشرية المسيح وأمه وأنهما ليس بإلهين كما زعم النصارى فقال
(مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) المائدة: 75
فقوله (كانا يأكلان الطعام ) دليل على البشرية والاحتياج الدائم للطعام والإخراج ومن كان كذلك فليس بإله.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
أيا عباد المسيح لنا سؤال.... نريد جوابه ممـن وعاه
إذا مات الإله بصنع قوم... أماتوه فما هذا الإله
و يا عجبا لقبر ضم ربا... و أعجب منه بطن قد حواه
أقام هناك تسعا من شهور... في الظلمات و من حيض غذاه
و شق الفرج مولوداً صغيراً... ضعيفا فاتحاً للثدى فاه
يأكل ثم يشرب ثم يأتي... بلازم ذاك فهل هذا اله
تعالى الله عن إفك النصارى.... سيسأل كلهم عما افتراه
فالله منزه عن النقائص كلها متصف بالكمالات كلها جل جلاله.
يقول على بن أبي طالب (ربي لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، ليس قبله شيء، وليس بعده شيء، وليس فوقه شيء، وليس دونه شيء، وهو لا كشيء في شيء ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)
دلالة ذِكْرُ اسم القدوس في القرآن والسنة مقروناً بالمَلك:
وذلك في موضعين من القرآن سبق الإشارة إليهما:
(1) (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) الحشر 23
(2) (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ..) الآتيان 1، 2 من سورة الجمعة
معلوم أن ملوك البشر لا يَخْلُون من النقص والعيب فِي الذات والصفات، بل يحتاج أحدهم ضرورة إلى أعوان ورجال وجنود، ولا يخلو حكمه مِنَ الظلم، ثم هو فَقيْرَ فقر البشر، وقد يُغْلب ويُسلب ملكه، و يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريد، ويمرض ويموت، وهكذا من النقص والعيب الكثير.
أما الملك القدوس سبحانه، فقد جاء اسمه القدوس مقروناً باسمه الملك وصفاً له بالكمال المقدس ذاتاً وأسماءً وصفاتٍ وأفعالا فلا سبيل إليه لشيء من تلك النقائص بوجه ما، فهو وحْده الفعال لما يريد، وهو الملك القدوس فلا يظلم مثقَالَ ذرة، ورسالاته وشرائعه وأمره ونهيه وأحكامه وجزاؤه وثوابه وعقابه كل ذلك على القداسة، فلا عيب ولا شر ولا ظلم.
اسم القدوس في السنة مقروناً بالمَلك:
(1) عن أبى بن كعب قَالَ: (كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)
هذا الذكر بعد صلاة الوتر، أي بعد نهاية عمل اليوم والليلة كمسك الختام للعمل اليومي، الذي هو تقديس لله عز وجل ثم هو تقديس ( تطهير وتبريك) للروح والقلب ليكون لائقاً بمقام القدوس ولقائه عز وجل.
(2) في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ)
إن أعداد الملائكة لا يمكن تصورها بالعقل البشرى، كما لا يمكن تسجيلها على الأوراق بكل الأرقام التي يعرفها البشر، كما لا يمكن إحصاء الوظائف التي يقومون بها في السماوات والأرض وما بينهما، وكذلك العبادة والتسبيح بالحمد والتقديس.
سؤال كثيرا ما يطرحه بعض العقلانيين:
لماذا خَلَق الله مخلوقاتٍ يَصْدُرُ منها الشر وهو يَعْلَم؟!
ألم يكن الأولى أن يُبْقيها على عدمها فيتمحض الخير في الأرض وينعدم الكفُر والشركُ والفَسَاد وسفكُ الدماءِ والظلمُ بأنواعه، وتنعدم الآلام وصَرْخات التألمُّ والاسْتِغَاثة، لا سيما من كل طفل برئ بلا ذنب جناه، ومن كل بائس جائع فقير، ومن كل مريض، ومن ضحايا الحروب المُدَمِّرة؟!!
ومن كل فريسةٍ ضَعِيفَةٍ يَفْتَرِسُها سَبُع متوحِّش، ومن كل بهيمة تَئِن من حادث أو مرض وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر؟!!
بل أولى من ذلك أن تكون هذه الدنيا جنةً كلها والله على كل شئ قدير، فما الحكمة في العدول عن هذا إلي الواقع المؤلم بشرورهِ الذي يعيشه كثير من الأحياء من الناس وغيرهم؟
يجيب الشيخ فوزي السعيد:
هذه الأسئلة غالباً ما تكون من إنسانٍ ظَلُومٍ جَهول، ظلوم لنفسه وفي أحكَامِه ورأيه، جهولٍ بِربِّه، لا يعرف قداسَتهَ سبحانه في عِلِمه وحكْمته المقدَّسةِ، جهولٍ بنفسه لا يعرفها بعجزها وقُصُورِها وحقارتها، فيجعل من رأيه الفاسد الكاسد حكماً على أقدار ربه يقول هذا لا يصلح وذاك لا ينبغي، بل ينبغي كذا وكذا، مع أنه لو تأمل في أيسر قدر يعرفه من حِكْمته الله في مخلوقاته لهداه ذلك إلى التَّسْليم لله فيما لا يعرفه.
2) يحلم أصحاب هذه التساؤلات بجنة في الدنيا، ونَسَوَا أن يعترضوا على الموت، لِم يكْتُبُ الله الموتَ على الناسِ والأحياء !!
فالموت مصيبةٌ كبيرةٌ وآلام وأحزان (لكنهم لا يعترضون على أكل لحم الحيوان والطير والسمك، ففي ذلك لذات لهم، فلا يهم إيلام المخلوقات حينئذ)
يريدونها جَنَّة بلا آلام ولا أَنْكَاد ولا أَحْزان ولا غم ولا هم ولا نصب ولا وصب ولا نوم ولا موت ولا أمراض ولا أبتلاءات ولا ظلم ولا شر ولا سوء في القول.. إلى أخر ما يمكن تَمَنِّيه.
إن الجنة في الآخرة حق، وفيها من النعيم وانعدام الشر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وخلود بلا موت، فماذا يقْتَرِحُون على الله بعد ذلك؟!
إنهم يريدون أن تكون هذه الجنة في الدنيا بلا ابتلاء ولا امتحان ولا دين ولا رسالات ولا عبوديات ولا حقوق لله ولا حساب، فهم يريدون سِلْعة الله بغير شئ يُقَدِّمُونه – وكل ذلك من ظلمهم وجهلهم،وبيان ذلك:-
(3) الكون كله آثار ومقتضيات وأحكام لأسماء الله تعالى وصفاتِه وإنما خُلِقَ الكَوْنُ وبُنِىَ على هذا الأصل وهذه الغاية (بالحق وللحق)، أي ليكون مظهراً لأسماءِ الله تعالى وصفاتهِ، لا ليكون تبعاً لأهواء الظالمين الجاهلين
وقَالَ تعالى (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) المؤمنون 71
وتبعاً لذلك الأصل الأصيل في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق اللهُ الجن والأنس ليعبدوه فُيْدخلَهم بذلك جنات النعيم، وتلك العبوديات متنوعة بتنوع دعاء الله بأسمائه الحسنى، فقدر الله الخَلْقَ والأَمْر – على هذا النَّحوِ الوَاقِع بالسنة الربَّانية التي لا تَتَبدَّل ولا تَتَحوّل إلى يوم القيامة.
بما يستخرج به تلك العبوديات المتنوعة من أتباع الرسل، ومن أبى فقد ظلم نَفْسَه وخَسِرهَا في جهنَّم التي هي أشد شَرَّاً له كما قَالَ تعالى ( يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الحج
فالنار في حق أصحابها شر مَا بَعْدهُ شر، وأما في حق الله خلقاً وتقديراً فهي مَظْهَرُ عدلِه، وهى الجزاء الوفاق (والعدل كله خير).
نعود إلى العبوديات المتنوعة كالجهاد وما يتبعه من الحب والبغض والموالاة والمعاداة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والصبر على الأذى، والاستغفار والتوبة والاستعاذة والهجرة والصبر عن المعصية وعلى الطاعة وعلى البلاء، وغير ذلك فكيف تكون هذه العبوديات بدون سُنَّة اللهِ عَزَّ وجل في المواجهة بين الحق والباطل الحق بقيادة الرسل والباطل بقيادة إبليس وأعْوانِه من شياطين الجن والأنس؟!
قَالَ تعالى (قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) الأعراف 24.
فخلق إبليس هو السبب الرئيسي الذي قدره الله تعالى، لاستخراج مثل هذه العبوديات، فأين حكمتكم أيها الظَّلَمة الجَهَلَة من حِكْمة الله عز وجل؟
وحكمتكم هذه (إن كان لكم حِكْمة) إنما هي مخلوقَةٌ مَفْعُولَةٌ لله، ولا تعدل مثقَالَ ذرة في حِكْمة الله عز وجل المخلوقة في السماوات والأرض، فكيف تجرأتم بالاعتراض على الحكيم الذي له الحكمة وصفاً وملكاً، وقد تبين لجميع العقلاء إن هذه الحِكْمة المخلوقة الموزَّعَة في أجزاء الكَوْن لا تدخل تحت إحصاءه بحال، والاكتشافات المستمرة والمعارف الحديثة تؤكد ذلك لكل من له مسكه من عقل.
4) من أسمائه تعالى: الغَفَّار التَوَّاب العفوّ الحليم (الصبور)، وظهور هذه الأسماء مستلزم للذنوب والمعاصي، ولا يكون ذلك بدون عدو الله إبليس وجنوده، فَلِمَنْ يَغْفِر اللهْ؟ !!
وعلى من يتوب ويحلم ويصبر ويعفو إذا إنعدمت الذنوب من الجن والأنس؟
روى مسلم من حديث هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ " وهذا أصل ينبغي أن يعرفه الصغير قبل الكبير.
5) أيضاً من أسمائه (وصفاته) تعالى: القهار المعز المذل، الضآر النافع، الخافض الرافع، النصير العدل، عزيز ذو انتقام. ومن صفاته أن بطشه شديد، وأنه لا يعذب عذابه أحد، ولا يُوثق وثاقه أحد.
فَبِمَنْ وفِيمَنْ يكون ذلك إلا بأعدائِه وأعداءِ رِسلهِ !!، ولا يكون ذلك في حكمةِ الله إلا بخلق عَدُوِّ الله إبليس وما يترتب عليه من شرور تتضاءل أمام تلك المصالح.
6) ومن أثار قدرته وحكمته خلق المتقابلات من الخير والشر، والقوة والضعف، وجعل الظلمات والنور، وخلق جبريل عليه السلام والملائكة وإبليس والشياطين، والسلامة العافية، والجن والإنس والصحة والمرض، والذكر والأنثى وأصحاب النار وأصحاب الجنة وغير ذلك كثير.
7) أما عن إيلام الأطفال بغير ذنب، وكذلك الحيوانات في الأمراض والحوادث والافتراس والذبح وغير ذلك، فمثل هذه المعارضات لم تكن لتخطر ببال هؤلاء إلا لكثرة ما يرون من النعم والعافية وأنها هي الأصل، فطمعوا أن تكون جنة بلا غُصَّة.
وسأجعل إجابتي في نقاط مركزة خشية الإطالة التي لا يتحملها هذا الموضع:-
(أ) أما رحمتكم وشفقتكم المزعومة، فإن كانت حقيقة (وما هي إلا نتيجة للظلم والجهل) فإنما خلقها وجعلها في قلوبكم الخالق سبحانه ولقد علمتم أنها لا نسبة لها في جزء الرحمة الذي أنزله الله إلى الأرض تتراحم به الخلائق وهو جزء من مائة جزء في الرحمة المخلوقة، فكيف برحمة الله وصفاً؟!
فعلى من تَعْتَرِضُون !!
قَالَ تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) يس 77.
(ب) ما قيل في الرحمة يقال أيضاً في الحِكْمة كما تقدم، فلا وجه للمُعَارضةِ بمثل هذه الأسئلة إلاَّ أن يكون كفرا بواحاً أو يكون استفساراً عن وُجُوهِ الحكمة، وعلى ذلك نُجيب بهذه الإجابة.
(جـ) الآلام تدفع الإنسان إلى الفرار إلى الله والتوبة والرجوع إليه خشية زيادتها في الدنيا ووقعها في الآخرة، وكيف يخاف الإنسان عذاب ربِّه، وكيف يستَقْبل
تَخو يف الله له، إذا لم يكن قد ذاق وعرف الألم؟!
قَالَ تعالى (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) الزمر 16.
وقَالَ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ) هود 103.
وقَالَ (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) الرحمن 45:43.
فجهنم حَقٌ وعدلٌ وهو خير فهو من الآلام، والتخويف بها رحمةٌ من اللهِ حتى يَبْتَعِد عنها المؤمن.
فكيف لو كان المخاطبون لا يَعْرفُونَ شيئاً عن الألم؟
بل كيف يحمى الإنسانُ نفسَهُ ويَحفظُها إذَا لم يشعر بالألم !؟
إن الألم الذي يصدر من أي عضو من أعضاء الجسم إنما هو صَيْحةُ استغاثةٍ للإنقاذ والعلاج، وذلك من رحمة الله وحكْمَتِهِ، إن المريض بالقدم السكرية مثلاً لا تَشعر قَدَمُه بالإبرة تغوص فيها، وقد تكون مُسَمَّمَةً أَوْ مُلَوَّثهً فتتَسبب في بتر القدم وأكثر، إن الشعور بالألم جزء لا يتجزأ من الخَلْقِ والرِّعَاية والحفظِ لجميع الأحياء في البر والبحر والجو. فلا حول ولا قوةَ إلا بالله العليّ العظيم.
اللهم إنا نبرأ إليك من الضلال.
(د) من سُنَنِ الله التي لا تتبدل ولا تتغير أنه لن يَنْجوَ من الآلام مخلوق ؛ إنسان أو حيوان، جنٌّ أو هوامّ، صغير أو كبير، عظيم أو حقير، مؤمن أو كافر، طائع أو عاصي، سليم أو مريض، آَكَلَهُ اللَّحْم أو آكله العُشْب، أحياء الماء أو أحياء البر، وهكذا، وتنتهي الآم الدنيا وعافيتُها بسكرات الموت، والسَّكْرة الواحدةُ تعْدِل أَلْفَ ضربةٍ بالسَّيْف مجتمعه، وبعد ذلك ما يحدث في القبر وضمتِه التي لو نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ الذي أهتز العرش لموته فرحاً بقدومه، وبعد ذلك أهوال ومشاهدُ القيامةِ وما يحدث من رعب عند تطاير الصحف والميزان والصراط، وفي النهاية يستقر الكافر في النار هي أمه ومأواه ومثواه، ويستقر المؤمن في الجنة ونعيمها المقيم
وقَالَ تعالى (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)الانشقاق6
وقَالَ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) البلد 4
فالآلام لا ينجو منها مخلوقٌ حَيٌّ على المرض وإن اختلفت في حِدَّتها ومُدَّتِها وأسْبَابِها. وأنْواعها وزَمَانِها بِحَسب الأَحْوَال، وما من ألمٍ يُصِيُبُ الجنَّ والأنسْ والحيوانَ إلا وهو مكتوب عند الله ومُقَدَّر، فَمِنْ هذه الآلام ما يَكْفِر السَّيئَات ومنها ما يُخَفَّفُ به من السَّكرات ومنها ما يُخَفَّف به الحساب، ومنها ما تُرفَعُ بها الدرجات، وهكذا، فالمْقُصود هنا الآم الأطفال، فلو أنَّ الطَّفْل مات قبل البلوغ، فهو في رحمةِ اللهِ بإذنه مع الولدان المخلدين، فأين هذه الآلام المُنْقَطِعةُ من ذلك النعيم المقيم؟!! علاوة على ما تَنَعَّمَ به الطَّفْل في دنياه من مأكلٍ ومشربٍ ومَلْبسٍ ولعبٍ وغيرهِ كَإنَسانٍ فُضِّلَ على كثير من خَلْقِ اللهِ تفضيلاً.
أما إذا بلغ سِنَّ البلوغ وصار مُكلَّفاً، فإن الآم طُفولتهِ قد تكون سبباً في التخفيف عليه حينئذ، أو في هدايته أو في تخفيف السكرات أو في صَقِلْ رُجُولَته ونُضُوجِهِ وسَبْقِهِ لإقْراَنه وما شابه، مما لا يعلمهُ إلا الله، ولله في خلقهِ شئون علاوةً على ما يكون في حَقِّ الوالدين مثلاً من الابتلاء بِمَرضِ الوَلَد وتوجُّعه.
(هـ) من الذي يجزم بأن الآم الأطفال كآلام الكبار !؟
بل ألام الأطفال أقل بكثير من مثيلها في الكبار، وذلك أَمْرٌ معلوم بِالمُشَاهدة، والرحمن تعالى يجعل من رَحْمتِه مع الأطْفَال ما لا يَجْعَلُها مَع الكبار، فالطفل يسقط من سريرة على الأرض، ويرتطم في جَرْيِهِ بالحائط وغيرهِ، بل يسقط بعضهم من ارتفاع خمسه أمتار، ومع ذلك لا نجد شيئاً قد حدث إلا بعضَ الخَوْفِ والصِّياح والبكاء ثم ينتهي الأمر. ومن المعلوم أنه لا نِسْبةَ للأطفال المرضى في المعافِين، فإذا وجَدْتَ طفلاً يَبْكى من الأَلم، فإنك تجد بجواره مئات يضحكون ويلعبون.
(و) لقد كانت الآم الأطفال سبباً في تطور المعلومات الطيبة باستمرار، وأُنْشِئت الأقسام والتخصصات والمستشفيات الخاصة بطب الأطفال، والأبحاث التي لا تتوقف، وظهرت من آيات الله في خلق الإنسان ما لم تكن لتظْهَرَ بدون ذلك، وكذلك في الأغذية والأدْوِية وغيرها ويسأل في ذلك أساتذة طِبِّ الأَطْفَال لِتُعْرَفَ الحقائق.
(ز) لقد قتل الخَضِر عليه السلام غلاماً بلا مقدماتٍ يعرفها موسى عليه السلام بل لم يُحِطْ بها خُبْرا، فأنكره بشدة قائلاً:
(أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا) الكهف 74
ثم تَبَيَّنَتْ حِكْمةُ اللهِ وظَهَر أَنهَّا رَحْمةٌ بالغة بالغلام وأَبَويْه المؤمنين الطِّيبين، إذ الغلام جاءه أجله في ساعته المحددة بإذن ربِّه، وبذلك يدخل الجنة برحمة الله، ولو عاش لأفسد في الأرض ولأرْهَق أبويه طغياناً وكفراً ويكون مصيرهُ النار، ولكن برحمة الله فَقَبضهُ قبل بلوغ سن المحاسبة، والأبوان سَلَّمهما الله من بوائق ولدهما، وأبدلهما خيراً منه زكاة وأقرب رُحما، ونفس الأمر في خرق السفينة وإقامة الجدار، حيث ظاهر الأمر شر وحقيقته رحمة وحكمه بالغة، ولكن الإنسان ظلوم جهول.
(ح) أما عن الحيوان فنقول للمعترضين (لا للمستفسرين) أكنتم حيوانات حتى تشعروا بالآم الحيوان؟! وسأذكر لكم شيْئين فقط يكفيان كل من له أدنى مِسْكَه من عقل:-
(1) إن الله تعالى وتقدس يبعث الشاه الجَلحَاء لتقتص من القرناء التي نطحتها في الدنيا، ثم يقول لها كوني تراباً، فعندها يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً، والرسول يضحك تعجباً من عدل الله عز وجل.
إذا كانت هذه النطحة اليسيرة ترتب عليها ما ذُكِر، فكيف بما فوق ذلك من الآم الأمراض والحوادث، أذلك يمر بغير تقدير وحساب !! ومع ذلك فهو سبحانه أعلم بما خلق، وارحم بِخَلِقِهِ من جميع البشر.
(2) عندما يذبح الحيوان تُقْطع العروقُ الموصلةُ للدماء إلى المخ والمخيخ، فَيُصْدرُ المخ أوامرهُ السريعةَ جداً عبر الجهاز العصبي بالنخاع الشوكي إلى عضلات الجسم لتنقبض وتنبسط بشده وبسرعة تضح الدماء إلى المخ والإغاثة، فيظهر التَّرْفِيسُ الشديد من الحيوان وَيَنْدفع الدم بغزارةٍ بعيداً عن جسم الذَّبيحة، لأن بقاءه (مع الَّلحم) مفسدةٌ عظيمةٌ يعرفها الأطباء، فيظن الجاهل أن لذلك الترفيس تعبيراً عن أشد الآلام بالحيوان (المسكين !)، فيعترض على شرع الله في الذبح، ويجعل من نفسه نِدَّاً لله في رحمته وحِكْمتِه قائلاً:
أليست هذه وحشيةً وبربريةً !! مع أن الذَّبِيحةَ لا تشعر بأي ألم بعد قطع العروق بقليل حيث ينقطع الدم عن المخيخ وتصاب الذبيحه بالإغماء. ونفس الشيء يحدث عند الافتراس، لأن الله عز وجل خلق فسوى وقدر فهدى، فنجد السَّبُعَ قد أمسك بالفريسة على العروق الحاملة للدَّمَاء إلى المخ والمخيخ ثم يضغط عليها بفكَّيْه بقوة لِيُحْكِم الخَنْقةَ، وبذلك لا تصل الدماء للمخ والمخيخ فتصاب الفريسة بالإغماء فلا تشعر بأي الآم وتقوم بعملية الترفيس الشديدة التي سبق بيانها ولا علاقة لها بالآلام ومع هذا فالوحوش تحشر إلى ربها عز وجل قَالَ تعالى (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) فيا ويله إذا قتل فريسته من غير مَقتلها هذا، أو عذّبها قبل قتلها فسبحان الله العظيم الحكيم في حلمه وصَبْره على الأذى يَسمعُه...
ثمار الإيمان بهذا الاسم:
1. وصف الله بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص:
فلا نؤمن باسم من أسماء الله إلا وننفي عن الله ضده فنؤمن أنه العزيز وننفي عنه الذل، وأنه العليم وننفي عنه الجهل، وأنه الكريم وننفي عنه البخل، ومن هنا نعلم خطأ بعض الألفاظ الجارية على الألسن مثل:
(أ) ربنا عايز كده: لأن العوز هو الفقر والحاجة،والله منزه عن الفقر والاحتياج.
(ب) يارب ليه الظلم ليه: فالله لا يظلم عباده مثقال ذرة
(ج) يدي الحلق للي بلا ودان (آذان) وهذا معناه أن الله أعطى شيئا لمن لا يستحقه، وأفعال الله كلها منزهة عن العبث أو الخطأ
(د) فلان ربنا افتكره:والله لا ينسى أبدا (وما كان ربك نسيا)
(هـ) عبث الأقدار، لعبة الأقدار، سخرية القدر: فكلها ألفاظ لا تليق بالله جل وعلا، فهو سبحانه منزه عن العبث واللعب والسخرية.
كذلك تنزيه الله عن العوارض البشرية:
فالله لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، ولا يموت ولا يتزوج،ولا يمرض ولا يهرم (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد)
2. تطهير النفس ظاهرا وباطنا وقلبا وقالبا للملك القدوس:
يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان ما مختصره:
قضي الله تعالي أن لا يجاوره في جنته إلا كل طيب طاهر لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
وصرح الله جل وعلا بمحبته للمتطهرين في كتابه في موضعين قال تعالى(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) البقرة222
وقال تعالى(والله يحب المطهرين) التوبة108
و صلي سلمان الفارس وأبو الدرداء في بيت نصرانية فقال لها أبو الدرداء هل في بيتك مكان طاهر نصلي فيه فقالت طهرا قلوبكما ثم صليا أين أحببتما فقال له سلمان خذها من غير فقيه.
وقال أيضا: من تطهر في الدنيا ولقي الله طاهراً من نجاساته دخل الجنة بغير معوق.
وأما من لم يتطهر في الدنيا فأن كانت نجاسته عينيه كالكافر (إنما المشركون نجس) لم يدخلها بحال.
وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر في النار من تلك النجاسة.
والله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفا على الطهارة فلا يدخل المصلي عليه حتى يتطهر وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفا على الطيب والطهارة فلا يدخلها إلا طيب طاهر فهما طهارتان:
طهارة البدن
وطهارة القلب
ولهذا شرع للمتوضىء أن يقول عقيب وضوئه أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فطهارة القلب بالتوبة وطهارة البدن بالماء فلما اجتمع له الطهران صلح للدخول على الله تعالى والوقوف بين يديه ومناجاته
وسألت شيخ الإسلام عن معنى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد كيف يطهر الخطايا بذلك وما فائدة التخصيص بذلك وقوله في لفظ آخر: والماء البارد والحار أبلغ في الإنقاء فقال:
الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفا فيرتخى القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه والماء يغسل الخبث ويطفىء النار فإن كان باردا أورث الجسم صلابة وقوة فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته فكان أذهب لأثر الخطايا.
ويقول في كتاب آخر:-
فتأمل محاسن الوضوء بين يدي الصلاة وما تضمَنُه من النظافة والنزاهة ومُجَانَبَة الأوساخ والمستقذرات، وتأمل كيف وضع على الأعضاء الأربعة التي هي آلةُ البطش والمشي ومَجْمع الحواس التي تعلق أكثر الذنوب والخطايا بها، ولهذا خصَّها النبي صلى الله علية وسلم بالذكر في قوله
(إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فالعين تزني وزناها النظر والأذن تزني وزناها السمع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمني ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)
فلما كانت هذه الأعضاء هي أكثر الأعضاء مباشرة للمعاصي، كان وسخُ الذنوب ألْصقَ بها وأعْلَق من غيرها، فَشَرع أحْكَم الحاكمين الوُضُوء عليها لتَتَضَمَّن نَظَافَتَها وطهارتها من الأوساخ الِحِّسية وأوساخ الذنوب والمعاصي، وقد أشار النبي صلي الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله:
(إذا توضأ العبد المسلم خرجت خطاياه مع الماء أو مع آخر قطرة من الماء حتى يخرج من تحت أظفاره...) الحديث أخرجه النسائي، والأحاديث في هذا الباب كثيرة فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين ورحمته أن شرع الوضوءَ على هذه الأعضاء التي هي أكثر الأعضاء مباشرة للمعاصي، وهي الأعضاء الظاهرة البارزة للغبار والوسخ، أيضا وهي أسهل الأعضاء غسلا فلا يشق تكرار غسلها في اليوم والليلة) أ. هـ مفتاح دار السعادة صـ 374، صـ 375.
3. الله لا يحب في ساحته إلا الأطهار فلن يشعر بحلاوة العبادة ويتذوق طعم الخشوع إلا طاهر القلب:
ولذلك قال السلف (إن قيام الليل دعوة لساحة الملك ولا يدعو الملك لساحته إلا من يحب)
وشكا رجل للحسن البصري عدم قيامه بالليل قال: أثقلتك ذنوبك
4. الاكثار من التسبيح فإن التسبيح يجمع كل معاني اسم الله القدوس ومن رحمة الله أن جعل الثناء عليه مجموع في كلمة واحدة (سبحان الله) هذه الكلمة يستوي في قولها جميع العباد الأمي والمتعلم، الكل يقولها بسهولة
ومعنى سبحان الله:أسبح الله أنزه الله فأصفه بكل كمال وأنزهه عن كل نقص.
ولعظم معناها أخبر النبي أن (سبحان الله تملأ الميزان)
مختارات