فقه الحساب - الجزء الثالث
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟.
قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْواً». قُلْنَا: لا.
قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا».
ثُمَّ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيَذْهَبُ أصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأصْحَابُ الأوْثَانِ مَعَ أوْثَانِهِمْ، وَأصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله، مِنْ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ.
ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لله صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ.
ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لله صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ.
حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله، مِنْ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا.
قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأوْهُ فِيهَا أوَّلَ مَرَّةٍ. فَيَقُولُ: أنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أنْتَ رَبُّنَا، فَلا يُكَلِّمُهُ إِلا الأنْبِيَاءُ.
فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لله رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقاً وَاحِداً.
ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الْجَسْرُ؟.
قَالَ: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عَقِيفة، تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْباً، فَمَا أنْتُمْ بِأشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ، قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مَنْ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ.
وَإِذَا رَأوْا أنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فِي إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ الله تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأخْرِجُوهُ، وَيُّحَرِّمُ الله صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ.
فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا.
ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا.
ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا».
قَالَ أبُو سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَؤُوا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40].
«فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أقْوَاماً قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، قَدْ رَأيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ، وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أبْيَضَ.
فَيَخْرُجُونَ كَأنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ أهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» متفق عليه
فما أشد تلك الأهوال، وما أعظم ذلك الموقف بين يدي الله: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الانشقاق: 6 - 12].
والحساب يوم القيامة عام لجميع الخلق إلا من استثناهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم سبعون ألفاً من هذه الأمة يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب كما قال النبي (: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ». قَالُوا: مَنْ هُمْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» أخرجه مسلم
والمحاسبون يوم القيامة صنفان:
أحدهما: من يحاسب حساباً يسيراً وهو العرض.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ أحَدٌ يُّحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا هَلَكَ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، ألَيْسَ قَدْ قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [ٍٍالانشقاق: 7 - 8]. فَقَالَ رَسُولُ الله (: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا عُذِّبَ» متفق عليه
الثاني: من يحاسب حساباً عسيراً، ويُسأل عن كل صغيرة وكبيرة، فإن صدق فبها ونعمت، وإن حاول الكذب أو الكتمان فإنه يختم على فمه، وتستنطق جوارحه كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: 65].
والكفار يحاسبون وتعرض عليهم أعمالهم يوم القيامة توبيخاً لهم، وهم متفاوتون في العذاب، فعقاب من كثرت سيئاته، أعظم من عقاب من قلت سيئاته، ومن له حسنات منهم يخفف عنه العذاب لكنه لا يدخل الجنة.
وأول من يحاسب من الأمم يوم القيامة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأول ما يحاسب عليه المسلم يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله.
وجميع الكفار والمنافقين لا تقبل قُرَبُهم وطاعاتهم، لفقدها شرطها وهو الإيمان كما قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)}... [إبراهيم: 18].
وكل إنسان سوف يسأل ويحاسب على الأمانة التي تحملها، وقد حذرنا الله عزَّ وجلَّ من خيانة الأمانة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27].
فمن أدى الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها استحق من الله العقاب الوبيل، وصار خائناً لله وللرسول ولأمانته.
والأمانة هي الشيء الذي يجب أن يُّحفظ، ثم يؤدى إلى صاحبه.
والأمانة ثلاثة أقسام:
الأول: أمانة العبد مع ربه، وهي ما عُهِد إليه حفظه، والقيام به من الإيمان بالله، والاستقامة على دينه، وتعليم دينه، والدعوة إليه، وامتثال جميع أوامره، واستعمال قلبه وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه، وهذه أعظم الأمانات التي يجب أداؤها.
والطاعات كلها من الأمانة، فمن أداها فقد أدى الأمانة، والمعاصي كلها من الخيانة، فمن فعلها فقد خان الأمانة، وخان الله عزَّ وجلَّ.
الثاني: أمانة العبد مع الناس، كرد الودائع إلى أهلها، وإيفاء المكيال والميزان، ونصح الخلق، وعدم غشهم، وحفظ السر، ونحو ذلك مما يجب أداؤه للناس والحكام.
ومنه عدل الأمراء مع الرعية.. وعدل العلماء مع العوام بتعليمهم الأحكام التي تُقوِّي إيمانهم، وتصلح بها عباداتهم، وإرشادهم إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وترغيبهم في الخير، وتحذيرهم من الشر.
الثالث: أمانة الإنسان مع نفسه، بأن لا يختار إلا ما هو الأصلح له والأنفع له في الدين والدنيا.
فلا يُقْدِم على عمل يضره في دنياه وآخرته، كأن يتوقى أسباب الأمراض والأوبئة، ويغتنم عمره في اكتساب مرضاة الله بالقيام بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى ربه.
فيغتنم شبابه قبل هرمه.. وصحته قبل سقمه.. وغناه قبل فقره.. وفراغه قبل شغله.. وحياته قبل موته.
مختارات