أكل الحرام
السم الذي يصل إلى القلب عن طريق أكلة محرمة يتسبب على الفور في موت القلب ويبوسه ؛ إن لم يتدارك الإنسان نفسه بترياق التوبة ودموع الندم، وقد قرَّر علماء القلوب مرارا أنه لا ينشأ من أكل الحرام إلا فعل الحرام، ولا من أكل الحلال إلا فعل الطاعات، فلو أراد آكل الحلال أن يعصي لما قدر، ولو أراد آكل الحرام أن يطيع لما قدر.
فأكل الحلال هو الذي تلين به القلوب وتسمو على إثره الروح، وهو دواء غير معتاد وزاد يغفل عنه الكثيرون، ويحسبون الأمر بكثرة الصيام وطول القيام فحسب، وهو الأمر الذي غاب عن بشر بن الحارث وعن صاحبه عبد الوهاب بن أبي الحسن، لكن ما كان ليغيب عن إستاذهما أحمد بن حنبل، فعن أبي حفص عمر بن صالح الطرسوسي قال:
" ذهبت أنا ويحيى الجلاء إلى أبي عبد الله فسألته، فقلت: رحمك الله يا أبا عبد الله بم تلين القلوب؟! فأبصر إلى أصحابه فغمزهم بعينه، ثم أطرق ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: يا بني بأكل الحلال، فمررت كما أنا إلى أبي نصر بشر بن الحارث، فقلت له: يا أبا نصر! بم تلين القلوب؟! قال: ألا بذكر الله تطمئن القلوب. قلت: فإني جئت من عند أبي عبد الله، فقال: هيه.. إيش قال لك أبو عبد الله؟! قلت: بأكل الحلال، فقال: جاء بالأصل، فمررت إلي عبد الوهاب بن أبي الحسن، فقلت: يا أبا الحسن! بم لين القلوب؟! قال: ألا بذكر الله تطمئن القلوب. قلت: فإني جئت من عند أبي عبد الله، فاحمرت وجنتاه من الفرح، وقال لي: إيش قال أبو عبد الله؟! قلت: قال بأكل الحلال، فقال: جاءك بالجوهر.. جاءك بالجوهر، الأصل كما قال، الأصل كما قال ".
ومن هنا أفتاك إبراهيم بن أدهم بما يلي:
" أطب مطعمك ؛ ولا عليك أن لا تقوم بالليل وتصوم بالنهار ".
بل وعقد هؤلاء العلماء المقارنات وعلَّموك مبكِّرا ما يُعرف بفقه الأولويات، فنطق عبد الله بن المبارك وقال: " ردُّ درهم من شبهة أحب إليَّ من أن أتصدق بمائة ألف درهم ومائة ألف ومائة ألف ؛ حتى بلغ إلى ستمائة ألف ".
ومن بعد جاء إبراهيم بن أدهم الذي أرشدنا إلى طريق الارتقاء في مدارج المتقين فقال: " ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه ".
والثالث هو الفضيل بن عياض الذي قال: " من عرف ما يدخل جوفه كتبه الله صديقا، فانظر عند من تفطر يا مسكين "، وأخيرا سفيان الثوري الذي فضح آكلي الحرام المتستِّرين بالتصدق منه ببعض الإحسان، فعرَّفهم حقيقة ما صنعوا بمثل واضح فاضح: " من أنفق من الحرام في طاعة الله كان كمن طهَّر الثوب النجس بالبول، والثوب النجس لا يطهِّره إلا الماء، والذنب لا يكفِّره إلا الحلال ".
وقرَّر أخيرا أبو حامد الغزالي في صرامة واضحة بعد أن استدل بكلام هؤلاء الفضلاء السابقين (أن العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام، وأن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها )
مختارات