العلم الحقيقي
وهو علم القلوب، وقد فهم سلفنا الصالح أهمية هذا علم القلوب على سائر العلوم، فقال عنه أبو حامد الغزالي: " وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة "، وقال عمرو بن قيس الملائي: " حديث أُرقِّق به قلبي، وأتبلَّغ به إلى ربي، أحب إليَّ من خمسين قضية من قضايا شُرَيح "، بل لما قيل للإمام أحمد: من نسأل بعدك؟! قال عبدالوهاب الوراق. قيل له: إنه ليس له اتساع في العلم قال: إنه رجل صالح مثله يُوفَّق لإصابة الحق، وسُئل كذلك عن معروف الكرخي ؛ فقال: كان معه أصل العلم: خشية الله.
واستُفتي الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له: إن فقهاءنا لا يقولون ذلك، فقال: " وهل رأيت فقيها قط؟! الفقيه القائم ليله الصائم نهاره الزاهد في الدنيا ".
وعن ليث قال: " كنت أسأل الشعبي فيُعرِض عني ويجبهني بالمسألة، فقلت: يا معشر العلماء! يا معشر الفقهاء! تروون عنا أحاديثكم وتجبهوننا بالمسألة، فقال الشعبي: يا معشر العلماء! يا معشر الفقهاء! لسنا بفقهاء ولا علماء، ولكنا قوم قد سمعنا حديثا، فنحن نحدثكم بما سمعنا، إنما الفقيه من ورع عن محارم الله، والعالم من خاف الله ".
وليس الوصول إلى الله والدار الآخرة بكثرة العلم والرواية بل بثمرة العلم والهداية، وما قيمة علم لا يدفع صاحبه إلى العمل؟! وهل هو إلا حجة عليه ودليل إدانته وعلامة استهزائه بربه؟! لذا كان نهج السلف تجهيز تربة القلب وإعدادها جيدا قبل أن يبذروا فيها أي بذرة علم. قال سفيان الثوري: " كان الرجل لا يطلب الحديث حتى يتعبَّد قبل ذلك عشرين سنة ".
يا من تباعد عن مكارم خلقه ** ليس التفاخر بالعلوم الزاخرة
من لم يهذِّب علمُه أخلاقَه ** لم ينتفع بعلومه في الآخرة
المحتالون
وإذا مرِض قلب العالم استخدم علمه في حِيَل يظن بها أن يتخلص من حكم الشرع وعاقبة البغي وكأن الله غير مطَّلع عليه، وقد انتشرت هذه الحيل عندما وهن الإيمان في الصدور واستثقل الناس أحكام الشرع ؛ حتى أفرد ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان فصولا عن الحيل وأقسامها، واسمع إلى واحدة من هذه الحيل يرويها لك أبو حامد الغزالي:
" وحُكي أن أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول، ويستوهب مالها إسقاطا للزكاة، فحُكِي ذلك لأبي حنيفة رحمه الله ؛ فقال: ذلك من فقهه، وصدق فإن ذلك من فقه الدنيا، ولكن مضرته في الآخرة أعظم من كل جناية، ومثل هذا هو العلم الضار ".
لذا كان عليك وأنت تدرس أي علم من علوم الشرع اليوم أن تقرأه بروح جديدة، وقلب كأنه وُلِد اليوم ولم يتلطَّخ بخطيئة بعد، وخذ مثلا على ذلك: عِلم السيرة الذي حثَّك الأستاذ البهي الخولي على قراءته بهذه الطريقة الجديدة باستخدام قلبك قبل عينك، وبروحك وعاطفتك مع عقلك، وأرشدك إلى الطرح الحي فقال:
" أن تُكثِر مصاحبة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته المطهرة مصاحبة وجدانية عميقة، تجعلك في مجلسه عليه السلام إذا جلس، وفي ركابه إذا ركب، وفي معيته إذا سار، وتُسمعك قوارع وعظه، وتُسرِّب إلى قلبك رقة مناجاته إذا ناجى ربه في جوف الليل، أو في خلوات النهار، وتصل عواطفك بعواطفه صلوات الله عليه، حتى تكاد تشعر بخلجات قلبه العظيم إذا غضب، وبشاشته وسماحته إذا تسهل لشيء وتهلل، وتسلكك في صفوف المؤمنين به، فأنت معهم حين يسامون العذاب، تألم كما يألمون، وتهاجر كما يهاجرون، تهاجر معهم بوجدانك وخيالك وعواطفك إلى الحبشة أو غيرها من بلاد الله، فإذا شرع له الجهاد في المدينة، فأنت تحت لوائه المظفر، تشهده ممتطيا صهوة جواده، وقد لبس لأمة الحرب، وتقلَّد السيف، وأخذ برمحه، فهو فارس الميدان، وقائد الفرسان، تزهر عيناه الشريفتان من تحت مغفره صلى الله عليه وسلم، فما يصعد شرفا ولا يهبط واديا، ولا ينال من عدو نيلا إلا وأنت معه عليه السلام، تكاد تضرِب إذا ضرب، وتُقدِم إذا أمر، وتفديه بما تملك، وتحوطه بكل ما في سويداء قلبك من حب وعاطفة ".
مختارات