فقه الإيمان بالقضاء والقدر (٦)
إن مشيئة الله تبارك وتعالى التي يجري بها قدره في الكائن الإنساني:
أنه خلق هذا الإنسان باستعداد مزدوج للهدى والضلال، مع إيداع فطرته إدراك حقيقة الربوبية والاتجاه إليها، ومع إعطائه العقل المميز للضلال والهدى، ومع إرسال الرسل بالبينات، لإيقاظ الفطرة إذا تعطلت، وهداية العقل إذا ضل.
وكذلك اقتضت مشيئة الله أن يجري قدر الله بهداية من يجاهد للهدى، وأن يجري قدر الله كذلك بإضلال من لا يستخدم ما أودعه الله من عقل، وما أعطاه الله من أجهزة الرؤية والسمع في رؤية وإدراك الآيات التي بثها الله في صفحات الكون، والآيات الشرعية التي جاء بها الرسل.
وفي كل الأحوال تتحقق مشيئة الله وحده، ولا يتحقق سواها، ويقع ما يقع بقدر الله لا بقوة سواه، وما كان شيء ليقع إلا أن يوقعه قدر الله.
وفي حدود هذا التقدير يتحرك الإنسان بنفسه، ويقع له ما يقع من الهدى والضلال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨)} [الأعراف: ١٧٨].
وكثير من الجن والإنس مخلوقون لجهنم، وهم مهيؤون لها، فما بالهم كذلك؟.
هنالك اعتباران:
الأول: أن الله بعلمه الأزلي يعلم أن هؤلاء الخلق صائرون إلى جهنم.
الثاني: أن هذا العلم الأزلي بأحوال العباد ومصائرهم، ليس هو الذي يدفع هذه الخلائق إلى الضلال الذي تستحق به جهنم، إنما هم: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩)} [الأعراف: ١٧٩].
فهم لم يفتحوا القلوب التي أعطوها ليفقهوا، وهم لم يفتحوا أعينهم ليبصروا آيات الله الكونية، ولم يفتحوا آذانهم ليسمعوا آيات الله المتلوة.
لقد عطلوا هذه الأجهزة وعاشوا غافلين، فهم أضل من الأنعام، لأن الأنعام لها استعدادات فطرية تهديها، تقبل إذا دعيت، وتنزجر إذا زجرت.
أما الجن والإنس، فقد زودوا بالقلب الواعي، والعين المبصرة، والأذن السامعة، فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا، فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكلة إلى استعداداتها الفطرية الهادية.
فكفار الجن والإنس، كل حيوان بهيم أهدى منهم، وهم أضل منه سبيلاً.
فما أضل هؤلاء في الدنيا، وما أخسرهم في الآخرة: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٤)} [الفرقان: ٤٤].
إن كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون مخلوقة بقدر، مدبرة بحكمه، فلا شيء جزاف، ولا شيء عبث، ولا شيء مصادفة، ولا شيء ارتجال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩)} [القمر: ٤٩].
قدر يحدد وجوده.
وقدر يحدد حقيقته.
وقدر يحدد صفته.
وقدر يحدد وظيفته.
وقدر يحدد مقداره.
وقدر يحدد عمره.
وقدر يحدد مكانه.
وقدر يحدد زمانه.
وقدر يحدد ارتباطه بما حوله من أشياء.
وقدر يحدد تأثيره في كيان هذا الوجود.
قدر في كل شيء.
قدر يحدد الأبعاد بين النجوم والكواكب.
وأحجام المخلوقات وكتلها.
وألوانها وصورها.
ونموها وتكاثرها.
وسيرها وحركتها: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩)} [القمر: ٤٩].
قدر يحدد وضع الأرض التي نعيش عليها، لتكون صالحة لنوع الحياة التي قدر الله أن تكون فيها.
فحجم هذه الأرض.
وبعدها عن الشمس.
وكتلة الشمس.
ودرجة حرارتها.
وميل الأرض على محورها بهذا القدر.
ودورة الفلك.
وبعد الشمس والقمر عن الأرض.
وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض.
ومهاب الرياح.
واختلاف الفصول.
إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديراً دقيقاً.
لو وقع الاختلال في أي منها لتبدل كل شيء.
فسبحان العليم القدير، الذي قدر هذه المقادير والأقدار.
والنسبة بين عوامل الحياة والبقاء.
وعوامل الموت والفناء.
في البيئة، وفي طبيعة الأحياء.
من نبات وحيوان وإنسان.
محفوظة دائماً بالقدر الذي يسمح بنشأة الحياة وبقائها.
وامتدادها وانضباطها.
فمثلاً الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد، قليلة التفريخ، ولا تعيش إلا في مناطق محدودة.
وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار، ولو كانت مع عمرها الطويل كثيرة الفراخ، تستطيع الحياة في كل موطن، لقضت على صغار الطيور، وأفنتها على كثرتها
وكثرة تفريخها، أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان، وللقيام بأدوارها الأخرى في هذه الأرض.
فسبحان من خلق كل شيء وقدره تقديراً.
وهكذا الماء موزون بأمر الله، لو طغى لأفسد الأرض، ولو نقص لاختلت الحياة ومات الأحياء من نبات وحيوان وإنسان.
وكذلك الهواء موزون بأمر الله، لو زاد وصار عواصف قوية، لدمر كل شيء، وما استطاع أن يعيش حي، ولو نقص لاختل وضع الحياة والأحياء.
فقدر الله عام شامل لجميع المخلوقات، وكل ما خلقه الله في هذا الكون من المخلوقات، وما يجري فيه من الأحوال من الحركات والسكنات، والحياة والموت، والتغيير والتبديل، كل ذلك كائن بقدر الله القوي العزيز.
تقدير في الزمان.
وتقدير في المكان.
وتقدير في المقدار.
وتقدير في الأشكال.
وتناسق مطلق بين جميع الكائنات والأحوال.
فسبحان الذي خلق السموات والأرض: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (٢)} [الفرقان: ٢].
إن كل شيء بقدر، وله حكمة معلومة أو مطوية:
فزواج يعقوب - صلى الله عليه وسلم - من امرأة أخرى، هي أم يوسف وبنيامين لم يكن حادثاً عارضاً، إنما كان قدراً مقدوراً، ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه، ويأخذوه ويلقوه في الجب، ليلتقطه بعض السيارة، ثم يباع في مصر، لينشأ في قصر العزيز، لتراوده امرأة العزيز عن نفسه، ليستعلي على الإغراء، ليلقى في السجن، لماذا؟.
ليلتقي في السجن مع خادمي الملك، ليفسر لهما الرؤيا.
لماذا يتعذب يوسف؟.
ولماذا يتعذب يعقوب بفقد ابنه حتى عمي بصره؟.
ولماذا يُسام يوسف الطيب الزكي كل هذه الآلام؟.
لماذا يمضي في هذا العذاب أكثر من ربع قرن؟.
لأن الله يعده ليتولى أمر مصر وشعبها، والشعوب المجاورة في سني القحط السبع، ثم ماذا؟.
ليستقدم أبويه وإخوته، ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل، ليضطهدهم فرعون، لينشأ من بينهم موسى - صلى الله عليه وسلم -، وما صاحب حياته من تقدير وتدبير، وظهور آيات الله، التي غيرت مجرى العالم كله.
وزواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية، لم يكن ذلك حادثاً شخصياً.
إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق، ومروره بمصر ليأخذ منها هاجر، لتلد له إسماعيل، ليسكن إسماعيل وأمه عند البيت المحرم.
ليبلغ إسماعيل ثم يتزوج، ليكون من نسله محمد - صلى الله عليه وسلم -، ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً إلى البشرية كافة.
إن قدر الله وراء طرف الخيط البعيد لكل حادث، ولكل نشأة، ولكل مصير، ووراء كل نقطة، وكل خطوة، وكل تبديل أو تغيير، إنه قدر الله النافذ الشامل الدقيق العميق.
ولكن البشر أحياناً يرون طرف الخيط القريب ولا يرون طرفه البعيد، وأحياناً يتطاول الزمن بين البدء والمصير في عمرهم القصير، فتخفى عليهم حكمة التدبير والتصريف.
فيستعجلون ويقترحون، وقد يسخطون أو يتطاولون.
والله تبارك وتعالى يعلمهم في القرآن أن كل شيء بقدر كما قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩)} [القمر: ٤٩].
يعلمهم ليسلموا الأمر إلى صاحب الأمر، وتطمئن قلوبهم وتستريح، ويسيروا مع قدر الله في توافق وتناسق، وفي أنس بصحبة القدر الذي قدره المولى الكريم الرحيم.
مختارات

