فقه الإيمان بالقضاء والقدر (٢)
والقدر الإلهي كله عدل ورحمة.
ففي كل حادثة سببان:
الأول: سبب ظاهري يحكم الناس على وفقه، وكثيراً ما يظلمون.
الثاني: سبب حقيقي يجري القدر الإلهي على وفقه.
فإذا ألقي مثلاً أحد الأشخاص في السجن بتهمة السرقة التي لم يرتكبها، ولكن قضى القدر الإلهي عليه بسجنه لجناية له خفية، أو تربية له، فيعدل من خلال ظلم البشر له نفسه ويستقيم.
وفي امتحان العلماء والدعاة والصالحين انطواء على سببين:
أحدها: خدمة الدين خدمة عالية فائقة، حتى أثار حفيظة أهل الدنيا والأعداء، وقد نظر البشر إلى هذا السبب فحصل الظلم.
الثاني: لما لم يبين كل منا إخلاصاً تاماً، ولا أظهر تسانداً في نصرة الحق، نظر القدر الإلهي إلى هذا السبب، وعدل في حقنا رحمة بنا.
إن كل شيء في هذا الكون إنما يحصل بقضاء الله وقدره خيراً أو شراً.
فهل يرضى المسلم بما قدره الله من المعاصي التي نهى الله عنها؟.
وجوابه:
أننا لسنا مأمورين بأن نرضى بكل ما قضى الله وقدر.
ولكننا مأمورون بأن نرضى بكل ما أمرنا الله أن نرضى به كطاعة الله ورسوله.
وأن نرضى بدينه وشرعه.
وأن نرضى بالقضاء الذي هو صفة الله أو فعله.
لا بالمقضي الذي هو مفعوله.
فالمعاصي لها وجهان:
وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه.
ووجه إلى الرب من حيث أنه هو قضاها وخلقها وقدرها لحكمة يعلمها.
فنرضى من الوجه الذي يضاف به إلى الله، ولا نرضى من الوجه الذي يضاف به إلى العبد.
واختيار الرب تعالى لعبده نوعان:
أحدهما: اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد، ألا يختار في هذا النوع غير ما اختاره الله له: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (٣٦)} [الأحزاب: ٣٦].
الثاني: اختيار كوني قدري لا يسخطه الرب كالمصائب التي يبتلى الله بها الناس، فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يدفعها عنه، ويدفعها ويكشفها كدفع قدر المرض بقدر الدواء، بل هو مأمور بذلك.
وأما القدر الذي يسخطه الله، ولا يحبه ولا يرضاه، مثل قدر المعائب والمعاصي، فالعبد مأمور بسخطها، ومنهي عن الرضا بها.
ومشيئة الله ومحبته بينهما فرق:
فقد يشاء ما لا يحبه.
ويحب ما لا يشاء كونه.
فالأول: كمشيئة الله لخلق إبليس وجنوده، ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه.
والثاني: كمحبته إيمان الكفار، وطاعات الفجار، وعدل الظالمين، وتوبة الفاسقين.
ولو شاء لوجد ذلك كله، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
فإذا علم العبد أن القضاء غير المقضي، وأنه سبحانه لم يأمر عباده بالرضى بكل ما خلقه وشاءه، زالت الشبهات، ولم يبق بين شرع الرب وقدره تناقض.
فالرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب، وهو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان كما قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)} [النساء: ٦٥].
والرضا بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه من الصحة والعافية، والغنى واللذة أمر لازم بمقتضى الطبيعة، لأنه ملائم للعبد، موافق له، محبوب له.
فليس في الرضى به عبودية، بل العبودية في مقابلته بالشكر، والاعتراف بالمنّة، ووضع النعمة مواضعها التي يحب الله أن توضع فيها، وأن لا يعصى المنعم بها، وأن يرى التقصير في جميع ذلك.
والرضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه، ولا يدخل تحت اختياره، مستحب.
وهذا كالمرض والفقر، والحر والبرد، وأذى الخلق له، ونحون ذلك من المصائب.
والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه، وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان محرم يعاقب عليه، وهو مخالفة لله عزَّ وجلَّ، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه.
فإن قيل: كيف يريد الله أمراً لا يحبه ولا يرضاه؟.
قيل الله عزَّ وجلَّ يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره، وكونه سبباً إلى ما هو أحب إليه من غيره.
فقد خلق الله جل جلاله إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال، والاعتقادات والإرادات.
وهو سبب شقاوة العبيد، ووقوع ما يغضب الرب تبارك وتعالى، فهو مبغوض للرب مسخوط له، لعنه الله وغضب عليه ومقته.
ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودها أحب إليه من عدمها.
منها: أن تظهر للعباد قدرة الرب في خلق المتضادات، فخلق سبحانه إبليس هذه الذات التي هي أخبث الذوات وشرها، في مقابلة جبريل - صلى الله عليه وسلم - التي هي أشرف الذوات، وسبب كل خير.
وكما خلق سبحانه الليل والنهار، والحر والبرد، والحياة والموت، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر ونحو ذلك.
وخلق ذلك يدل على كما ل قدرته وتدبيره، وعزته وسلطانه.
فتبارك الله خالق هذا وهذا، ومدبر هذا وهذا.
ومخرج المنافع والمضار من هذا وهذا.
ومنها: ظهور أسمائه وأفعاله القهرية كالقهار والمنتقم، والعدل والضار، وشديد العقاب، وسريع الحساب، والخافض والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال من كمال ذاته فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، وتجاوزه عن حقه، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.
ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فهو سبحانه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه:
فلا يضع الثواب موضع العقاب، ولا العقاب موضع الثواب، ولا العز مكان الذل، ولا الذل مكان العز، ولا يضع العطاء موضع الحرمان، ولا الحرمان موضع العطاء، ولا الإنعام مكان الانتقام، ولا الانتقام مكان الإنعام.
ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بمن يصلح لقبولها، ويشكره على وصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)} [الأنعام: ٥٣].
وهو أحكم من أن يمنعها أهلها، أو أن يضعها عند غير أهلها.
فلو قدر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار، ولم تظهر لخلقه.
ولتعطلت تلك الحكم والمصالح المترتبة عليها، وفواتها شر من حصول تلك الأسباب.
وهذا كالشمس والمطر والرياح، فهذه فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر.
ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فإن الله يحب عبودية الجهاد، ولو كان الناس كلهم مؤمنين، لتعطلت هذه العبودية وتوابعها، من الموالاة في الله والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى.
ومنها: عبودية التوبة والاستغفار، فهو سبحانه يحب التوابين، ولو عطلت الأسباب التي يتاب منها لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار منها.
ومنها: أن يتعبد لله بالاستعاذة من عدوه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده.
ومنها: عبودية مخالفة عدوه الشيطان، ومراغمته في الله، وإغاظته فيه، وهي من أحب العبودية إليه، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه.
ومنها: أن عبيده سبحانه يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه، لما خالف أمر ربه بطرده ولعنه، فيلزمون طاعة ربهم ولا يعصونه.
ومنها: أن نفس اتخاذه عدواً من أكبر أنواع العبودية وأجلها، وهو محبوب للرب، وهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته من ربهم.
ومنها: أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد.
فخلق الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل.
وخلقت الرسل وأرسلت لتستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل.
فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها، ليرتب عليه آثاره، وما في قو ى أولئك من الشر، ليرتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في الفريقين.
فالملائكة ظنت أن وجود من يسبح بحمده ويقدسه ويعبده أولى من وجود من يعصيه ويخالفه.
فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح في خلق هذا الإنسان ما لا تعلمه الملائكة كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)} [البقرة: ٣٠].
ومنها: أن ظهور كثير من آيات الله وعجائب صنعه حصل بسبب وقوع الكفر والشرك من النفوس الكافرة الظالمة.
كآية الطوفان.
وآية الريح.
وآية إهلاك ثمود بالصيحة.
وآية انقلاب النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
وآية قلع قرى قوم لوط وقلبها عليهم.
وآيات موسى مع فرعون وبني إسرائيل كفلق البحر.
وانفجار عيون الماء من الحجر.
وانقلاب العصا حية، ونحو ذلك.
فلولا كفر الكافرين، وعناد الجاحدين، لما ظهرت هذه الآيات الباهرة.
ومع ظهورها فما أقل من يؤمن بها: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)} [الشعراء: ١٣٩، ١٤٠].
ومنها: أن خلق الأسباب المتقابلة، التي يقهر بعضها بعضاً، ويكسر بعضها بعضاً، هو من شأن كمال الربوبية، والقدرة النافذة، والملك الكامل، وإن كان شأن الربوبية كاملاً في نفسه ولو لم تخلق هذه الأسباب.
لكن ظهور آثارها وأاحكامها في عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال الإلهي.
مختارات

