فقه الفكر والاعتبار في الخلق والأمر (٥)
إن آيات الله في الكون كفيلة بتوجيه الناس إلى الإيمان لو تدبروها، وتفكروا في خلقها وجمالها، وعظمتها ونموها، وبقائها وحركتها.
إن تأمل هذه الآيات العظيمة يوقظ القلوب، ويفتح مغاليقها، ويوجه القلوب إلى تعظيم مبدع هذا الكون: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥)} [الجاثية: ٣ - ٥].
والآيات المبثوثة في السموات والأرض، لا تقتصر على شيء دون شيء، ولا على حال دون حال.
إن الإنسان حيثما مد بصره وجد آيات الله تطالعه في هذا الكون العجيب:
هذه السموات بأجرامها آية.
وإمساكها آية.
وأفلاكها الهائلة آية.
ونثر هذه الكواكب والنجوم في هذا الفضاء الهائل آية.
ودورة هذه الأجرام في أفلاكها في دقة وانسجام آية.
وآيات لا يحصيها إلا الله.
وذلك كله لا تشبع العين من النظر إليه، ولا يشبع القلب من تمليه، ولا يشبع العقل من التفكر فيه، ولا يشبع اللسان من الكلام فيه، ولا تمل الأذن من سماعه.
وهذه الأرض الواسعة العريضة آية.
والبشر بالنسبة إليها كالذرة.
وهي كالذرة بالنسبة للفضاء الذي يحيط بها.
والله يمسكها أن تضطرب أو تزول.
وكل شيء في الأرض آية.
وكل حي آية.
وفي كل جزء، من كل شيء، في السماء والأرض آية: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٢٢)} [الذاريات: ٢٠ - ٢٢].
والصغير الدقيق كالضخم الكبير آية.
هذه الورقة الصغيرة.
وهذه الثمرة اللذيذة.
في هذه الشجرة الضخمة أو النبتة الهزيلة آية.
آية في شكلها وحجمها.
وآية في لونها وملمسها.
وآية في وظيفتها وتركيبها.
وآية في طعمها وحلاوتها.
فهل ننظر ونتفكر في خلق هذا النبات، وما فيه من الآيات والعجائب كما قال سبحانه؟: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)} [الأنعام: ٩٩].
وهذه الشعرة في جسم الحيوان آية.
وفي جسم الإنسان آية.
وهذه الريشة في جناح الطائر آية.
وحيثما مد الإنسان ببصره في الأرض أو في السماء تزاحمت الآيات أمامه.
وأعلنت عن نفسها لقلبه وسمعه وبصره.
ولكن لمن تعلن هذه الآيات عن نفسها؟.
ومن الذي يراها ويستشعرها؟.
إنهم المؤمنون الذين اتصلت قلوبهم بالله فعرفوه بآياته ومخلوقاته.
فالإيمان هو الذي بفتح القلوب لتلقي الأصداء والأضواء، ورؤية النعم والآلاء.
والإيمان هو الذي تخالط بشاشته القلوب، فتحيا وترق وتلطف، وتلتقط ما يزخر به الكون من إيحاءات خفية وظاهرة، تشير كلها إلى قدرة الخالق المبدع الذي خلق كل شيء، وأحسن خلقه.
ولكن بلادة الإلفة تذهب بروعة النظر والتأمل والتدبر في هذا الكون الرائع العجيب، الواسع الجميل.
الذي لا تشبع العين من تملي جماله وروعته.
ولا يشبع القلب من تملي إيحاءاته وإيماءاته.
ولا يشبع العقل من تدبر نظامه ودقته.
والذي يتأمل هذا الكون بهذه العين وبهذا العقل، يرى معرضاً إلهياً باهراً رائعاً، لا تخلق بدائعه وعجائبه، لأنها أبداً متجددة للعين والقلب والعقل.
والإنسان الذي يعرف شيئاً عن طبيعة هذا الكون ونظامه، تدركه الدهشة والذهول، ويرى قدرة الجبار في الخلق والتحريك والتسكين والتغيير.
ومن نعمة الله على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل.
إن القرآن يكل الناس إلى النظر في هذا الكون، وإلى تملي مشاهده وعجائبه، ذلك أن القرآن يخاطب الناس جميعاً على مختلف مستوياتهم العلمية والفكرية.
يخاطب ساكن المدينة.
كما يخاطب ساكن الغابة.
ويخاطب العالم.
كما يخاطب الأمي الذي لم يقرأ.
وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون.
وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)} [الأعراف: ١٨٥].
وفي القرآن الكريم من الأدلة والبراهين والآيات الدالة على كمال الباري تبارك تعالى، ووصفه بالأسماء الحسنى، والصفات العلا، الموجبة لامتلاء القلوب من معرفته ومحبته، وتعظيمه وإجلاله، وصرف جميع أنواع العبودية الظاهرة والباطنة له تعالى.
وإن من أكبر الظلم والفحش اتخاذ أنداد لله من دونه، ليس بأيديهم نفع ولا ضرر، بل هم مخلوقون مفتقرون إلى الله في جميع أحوالهم: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩)} [الشورى: ٩].
فهؤلاء قد غلطوا أقبح الغلط في عبادة أولئك الأولياء.
فالله سبحانه هو الولي الذي يتولاه عبده بعبادته وطاعته، والتقرب إليه بما أمكن من أنواع القربات.
وهو سبحانه الولي والمولى الذي يتولى عباده وجميع الخلائق بتدبيره، ونفوذ القدر فيهم، ويتولى عباده المؤمنين خصوصاً بإخراجهم من الظلمات إلى النور، وتربيتهم بلطفه وعونه.
مختارات

