فقه الإيمان بالله (١)
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)} [الأنفال: ٢ - ٤].
وقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)} [الحجرات: ١٥].
وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١٣٦)} [النساء: ١٣٦].
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وخلق فيه ثلاث أوان:
آنية للطعام والشراب وهي المعدة.
وآنية للعلوم والمعارف وهي العقل.
وآنية للإيمان والتوحيد وهي القلب.
وجعل سبحانه كمال الإنسان بتكميل هذه الثلاث.
فكمال الأولى بأكل الحلال الطيب.
وكمال الثانية بمعرفة علوم الأنبياء.
وكمال الثالثة بالنظر في الآيات الكونية والآيات الشرعية.
والإيمان قلب الإسلام ولبه، واليقين قلب الإيمان ولبه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول، والإيمان الحقيقي هو الذي يبعث النفس لتقديم أوامر الله على كل شيء، مع المحبة والتعظم والذل لله.
والإيمان له ظاهر وباطن:
فظاهره قول اللسان، وعمل الجوارح.
وباطنه تصديق القلب، وانقياده لربه، ومحبته له، والأنس به، وإخلاص العمل له.
فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن الدماء، وعصم المال والذرية.
ولا يجزي باطن لا ظاهر له، إلا إذا تعذر مؤقتاً بعجز أو إكراه أو خوف هلاك.
وتخلف العمل ظاهراً مع عدم المانع دليل على فساد الباطن، وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل على نقصه، وظهور العمل الصالح دليل قوة الإيمان، وأكثر الناس، أو كلهم يدعون الإيمان: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)} [يوسف: ١٠٦].
وأكثر المؤمنين عندهم إيمان مجمل، وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - معرفةً وعلماً، وإقراراً ومحبة، ومعرفة بضده وكراهيته، فهذا إيمان خواص الأمة من الأنبياء والصديقين.
وكثير من الناس حظهم من الإيمان الإقرار بوجود الله، وأنه وحده الذي خلق السموات والأرض وهذا لا يكفي.
وآخرون الإيمان عندهم هو النطق بالشهادتين، سواء كان معه عمل أو لم يكن، وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه.
وآخرون الإيمان عندهم عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم، وما تهواه نفوسهم، من غير تقيد بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وآخرون عندهم الإيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السموات والأرض، وأن محمداً عبده ورسوله، وإن لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئاً.
وآخرون عندهم الإيمان ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائناً ما كان، يرونه حقاً يجب اتباعه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٢١)} [لقمان: ٢١].
وآخرون عندهم الإيمان مكارم الأخلاق، وطلاقة الوجه، وإحسان الظن بكل أحد، وترك الناس وغفلاتهم.
وآخرون عندهم الإيمان التجرد من الدنيا وعلائقها، وتفريغ القلب منها، والزهد فيها، فإذا رأوا رجلاً هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان، وإن كان منسلخاً من الإيمان علماً وعملاً.
وأضل من هؤلاء من جعل الإيمان هو مجرد العلم وإن لم يقارنه عمل.
وكل هؤلاء لم يعرفوا حقيقة الإيمان، ولا قاموا به، ولا قام بهم، ولا ذاقوا طعمه ولا حلاوته.
بل الإيمان وراء ذلك كله، وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد لله محبةً وخضوعاً، والعمل بشرعه باطناً وظاهراً، والدعوة إليه، وعدم الالتفات إلى ما سواه.
هذا أساس الإيمان، وكماله في الحب في الله، والبغض في الله، والعطاء لله، والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده.
والطريق إليه تجريد متابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى ماسوى الله.
وموانع الإيمان أربعة:
الكبر.
والحسد.
والغضب.
والشهوة.
فالكبر يمنع الإنسان من الانقياد لله ورسوله.
والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها.
والغضب يمنعه العدل والتواضع.
والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة.
وهذه هي أركان الكفر.
فإذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد للحق.
وإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله.
وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع.
وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف وتقديم أوامر الله.
وجميع الآفات التي تحصل للبشرية متولدة من هذه الأربعة، وإذا استحكمت في القلب أرته الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، والمعروف في صورة المنكر، والمنكر في صورة المعروف.
وإذا تأمل الإنسان كفر الأمم السابقة رآه ناشئاً منها، وعليها يقع العذاب، وتكون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها.
فمن فتحها على نفسه فقد فتح عليه أبواب الشرور.
ومن أغلقها عن نفسه فقد أغلق عنه أبواب الشرور.
ومنشأ هذه الأربعة من أمرين:
أحدهما: جهل العبد بربه.
والثاني: جهل العبد بنفسه.
فالإنسان لو عرف ربه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وعرف عظمته وجلاله، وآلاءه وإنعامه، وعرف نفسه بالنقائص والآفات، لم يتكبر ولم يغضب لها، ولم يحسد أحداً على ما آتاه الله من فضله.
فالحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإن الحاسد يكره نعمة الله على عبده، وقد أحبها الله له، ويحب زوالها عنه، والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه ومحبته وكرامته.
ومن أجل هذا كان إبليس عدو الله حقيقة، لأن ذنبه كان عن كبر وحسد.
وقلع هاتين الآفتين بمعرفة الله وتوحيده، والرضى به، والإنابة إليه.
وقلع الغضب بمعرفة النفس، وأنها لا تستحق أن يغضب لها، فإن ذلك إيثار لها بالرضى والغضب على خالقها.
وأحسن ما تدفع به هذه الآفة أن يعودها أن تغضب لله سبحانه وترضى له، وذلك يدفع الرضى والغضب لها.
أما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة، بأن إعطاءها شهواتها أعظم أسباب هلاكها وحرمانها، فالشهوة كالنار إذا أضرمها صاحبها بدأت بإحراقه.
والغضب كالسبع إذا أفلته صاحبه أكله وأهلك غيره.
والحسد بمنزلة معاداة من هو أقدر منك.
والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه، فإن لم يقتلك طردك عنه.
مختارات

