فقه الفكر والاعتبار في الخلق والأمر (٤)
إن آيات الخلق، وآيات النعم، وآيات التدبير والتصريف، وآيات العزه والتمكين، وآيات البطش والإنتقام، من أعظم الأدلة على الخالق العظيم سبحانه.
فهل من خالق غير الله يعبده الناس؟: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣)} [فاطر: ٣].
وهل يستوي من يخلق ومن لا يخلق؟: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠)} [النحل: ١٧ - ٢٠].
أفيجوز أن يسوى إنسان في حسه وتقديره بين من يخلق ذلك الخلق كله، ومن لا يخلق لا كبيراً ولا صغيراً، بل هو مخلوق:
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨)} [الجاثية: ٧، ٨].
والله تبارك وتعالى جعل في الماء حياة كل حي، يحيي به الأرض بعد موتها، ومن عليها من الإنسان والحيوان والنبات.
وخير ما أنزل الله على عباده الوحي، الذي به حياة الروح، ويليه الماء الذي به حياة الأجسام.
ومن الناس من يقبل الوحي الإلهي، ومنهم من لا يقبله، كذلك الأرض منها ما يقبل الماء، ومنها ما لا يقبله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)} [الأعراف: ٥٨].
وهذا اللبن الذي تدره ضروع الأنعام من بين فرث ودم لبناً خالصاً أليس له خالق قدير؟: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦)} [النحل: ٦٦].
وهذه الأسراب من النحل، ذلل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وسخرها لجمع الرحيق من الأزهار والثمار، ليخرج من بطونها شراب فيه شفاء للناس، كما أن في الوحي شفاء لأرواح الناس.
فسبحان من سخر هذه الأمة من النحل لنفع البشرية بهذا الشراب اللذيذ: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)} [النحل: ٦٩].
وسبحان من أنزل الوحي شفاءً للقلوب.
فمن هذا خلقه.
ومن هذه قدرته.
وهذه عظمته.
هو الذي يستحق أن يُعبد.
ويشكر فلا يكفر.
ويطاع فلا يعصى.
ويذكر فلا ينسى.
والله سبحانه وحده هو الذي خلق البشر، وجعل لهم الأزواح والبنين، ورزقهم من الطيبات، فكيف يشركون به؟.
وكيف يخالفون أمره وهذه النعم كلها من عطائه؟: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)} [النحل: ٧٢].
فكيف لا يعبد الناس ربهم الذي خلقهم ورزقهم؟: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣)} [النحل: ٧٣].
وإنه لعجيب حقاً أن ينحرف الناس إلى هذا الحد، فيتجهون بالعبادة والطاعة إلى ما لا يملك لهم رزقاً، وما هو بقادر في يوم من الأيام، ولا في حال من الأحوال، ويدعون الله الخالق الرازق، وآلاؤه ونعمه بين أيديهم لا يملكون إنكارها: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (٨٣)} [النحل: ٨٣].
فما أخطر الجهل.
وما أعظم.
الجحود.
وما أقبح الكذب.
ومشهد الطير في جو السماء مشهد مكرور، قد ذهبت الألفة بما فيه من عجب، وتحليقه في جو السماء آية عجيبة: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)} [النحل: ٧٩].
فسبحان من جعل الطير قادراً على الطيران.
ومن جعل الجو من حولها مناسباً لهذا الطيران.
ومن أمسك بها طائرة في جو السماء.
إن التفكر في عظمة خلق السموات والأرض، وما فيهما من العجائب والآيات.
ينشأ منه توجيه القلب إلى الله.
وإيقاظه لرؤية آلائه.
وشهود رحمته وفضله.
وتملى بدائع صنعه في خلقه.
وامتلاء الحس بهذه البدائع والعجائب.
وفيضه بالتسبيح والحمد والتكبير: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)} [الأنعام: ١].
والله تبارك وتعالى بديع السموات والأرض، ومنشئ هذه الخلائق الهائلة في السموات والأرض، وإنها لمخلوقات عظيمة، لكن الإلفة قد أفقدتنا الجمال والروعة التي يحسها القلب وهو ينظر إلى هذه البدائع للمرة الأولى.
ولا يحتاج القلب الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بمواقع النجوم في السماء، وأحجامها وطرق سيرها، ليستشعر الروعة والرهبة، أمام هذا الخلق الهائل العجيب من الخلاق العليم.
فحسبه إيقاع هذه المخلوقات على قلبه.
حسبه مشهد النجوم المتناثرة في الليلة الظلماء.
حسبه مشهد النور الفائض في الليلة القمراء.
حسبه الفجر المنفجر كل يوم بالنور الموحي بالتنفس والانطلاق.
حسبه الغروب الزاحف بالظلام الموحي بالوداع والانتهاء.
حسبه الأرض وما فيها من النبات النامي.
والنهر الجاري.
والحب المتراكب.
وما فيها من مشاهد وحركات لا تنتهي.
ولا يستقصيها أهل الأرض ولو قضوا أعمارهم في السياحة والتفكر والتملي.
مختارات

