(لا تمدن عينيك)
كنت في بلدة صغيرة تتغير عمرانيا ببطء شديد لا شيء يلفت الانتباه إلا في استناءات قليلة فالطقس هو المتغير الأكثر وضوحا في مجريات اليوم والأسبوع والسنة
بلدتنا الرتيبة في عمرانها حيوية وشابة ونشطة في مناخها تجمع مناخات العالم في أمسية واحدة ترى في أصيلها الشمس والمطر والرياح والضباب والسكون والعاصفة والدفء والبرد في وقت قصير.
فحديثنا هناك عن السماء عن الغيوم عن المطر والصقيع والصباحات الباردة
نتسامر:
كيف قضينا البارحة الشاتية وكيف بعثرت الرياح متاعنا
أصوات الرياح في نوافذنا تجعل المساء صاخبا رغم خواء الشوارع
في بلدتنا نتشارك الصخب والمناخ والسحابة والندى والبرد والدفء
كلنا ليس هناك خصوصية لأحد
الجميع يقتسمون كسرة الحياة بالتساوى فلوحة السماء فوق الجميع يراها الفقراء،والأغنياء
هنا يجتاز الإنسان أستار الدنيا إلى الكون والأفق البعيد وما وراء الأشياء إلى النهايات والغايات وقصة الإنسان والمغزى
لا شيء في أرض قريتنا قادر على الإمساك بنا واعتقال عيوننا الشاخصة في السماء
هناك تندر أحاديث العقار والتجارة والأسهم ليس لأننا لا نحبها كما يحبها الآخرون بل لأننا لا نمر في الطريق لمجلس السمر على مخططات جديدة أو عمارات تشيد كل يوم أو أسواق تفتتح كل اسبوع
لا شيء يوقظ سباع الطمع الجاثمة في قلوبنا.
لا أحد يتحدث عن المحلات والثروة والمواقع العقارية الرائعة وارتفاع العقار وقصص رجال الأعمال.
الماضي أو الطقس أو الآخرة أو القيم أو الطرائف أو أخبار المرضى والجنائز مائدتنا كل مساء
تبدو الآخرة هنا أقرب بكثير تبدو في أفق واحد مع خط الحياة تبدو الحياة صغيرة كحجم قريتنا الجامدة
في هذا الجو يذبل الجشع ويصيبه الهزال فليس هناك من الصور ما يتغذى عليه.
حين انتقلت إلى مدينة صاخبة تولد كل يوم
تنسلخ وتتجدد من ثيابها كالأفعى
الشوارع والأنوار الأسواق والأبراج والألوان والضجيج والركض في كل اتجاه
هنا يتجدد كل شيء الثياب والأواني والسيارات والبيوت والشوارع والألوان
وأحاديث الناس
الدنيا العجوز الكسول في قريتنا تبدو هنا فتاة جميلة تقتحم حياتك في كل مكان تلاحقك بزينتها في واجهات الفلل والقصور والأسواق واللوحات وأحاديث الناس والرفاق
كأنما تحاول أن تحجزك عن رؤية أي شيء خلفها تريد سرقة سمعك وبصرك وقلبك
تريد أن تقول لك هنا كل شيء.
فاتنة صبور لا تمل من المطاردة في كل مكان.
جميلة لدرجة أن مجرد النظر إليها كاف في وقوعك أسيرا
( لا تمدن عينيك)
في المدينة تحتاج لكفاح مرير لحراسة عينيك فكل شيء هنا يراودها يتزين لها يخطفها يناديها
كل شيء هنا يريد عينيك
التجار والمصممون والمبدعون والثروات والإعلانات وخطط الشركات وعلم التسويق والدعاية كلهم يبحثون عن لفتة من عينيك.
لاشيء في المدينة المتحضرة من الرتابة التي تمنح عينيك فرصة للسأم والإعراض
التجدد والإبهار يجعلك حبيسا
تبدو فرصة عقولنا للنفاذ من كل ذلك إلى ماوراءه صعبة وقاسية.
مختارات