قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
في الآية التالية آداب التعامل بين المؤمنين:
أيها الأخوة الكرام، الآية اليوم:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾
[سورة الحجرات]
أولاً أيها الأخوة، في هذه الآية آداب التعامل بين المؤمنين، بهذه الآداب تمتن العلاقات بين المؤمنين، وبخلاف هذه الآيات تتفكك عُرى المحبة والمودة بين المؤمنين، فالمؤمنون إذا اجتمعوا هم أقوياء، وإذا تفرقوا أصبحوا ضعفاء، قوة المؤمنين في اجتماعهم واجتماعهم هذه أسبابه، فالغيبة تفرق، النميمة تفرق، البهتان يفرق، الكذب يفرق، أي مخالفة في هذه الآيات من مضاعفتها تفتيت العلاقة بين المؤمنين، المشكلة أننا إن لم نطبق هذه الآيات، هناك خلاف داخل الأسرة، وداخل العائلة، وداخل العشيرة، وداخل القبيلة، وداخل البلد، خلافات داخلية تفتُ في عضد المسلمين، خلافات داخلية تمزقهم، تضعفهم، والخلافات من لوازم البعد عن الله عز وجل.
أنواع الاختلاف:
الحقيقة أن هناك اختلافاً أساسه الهوى.
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾
[سورة آل عمران الآية:19]
هناك اختلاف طبيعي، أي في التاسع والعشرين من رمضان، استمعنا العصر إلى مدفع، يا ترى مدفع العيد أم تفجير في الجبل؟ لا نعلم، هذه اختلاف سببه نقص المعلومات، هذه اختلاف طبيعي لا يقيّم لا إيجاباً ولا سلباً، طبيعي، لكن عندنا اختلافاً قذراً، هذا الاختلاف اختلاف الهوى، مع أن الحق واضح، أي بشكل بديهي المسلمون إلههم واحد، نبيهم واحد، قرآنهم واحد، منهجهم واحد، وهم متمزقون، جماعات، وملل، ونحل، وطوائف، واتجاهات، إذا أردت أن تعرف فعل الشيطان الأول ففعله الأول هو التفرقة، وإذا عرفت إرادة الله الأولى وهي الجمع، إذا اجتمعنا كنا أقرب إلى الله، وإذا تفرقنا ابتعدنا عن الله عز وجل، وسائل الشيطان في التفرقة لا تعد ولا تحصى، بل إن كل الطغاة على سطح الأرض، من آدم إلى يوم القيامة بيدهم ورقة رابحة أولى وقد تكون الأخيرة هي الفتن الطائفية، والدليل:
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ﴾
[سورة القصص الآية:4]
كلم يرى حينما يأتي الغرب إلى بلادنا، أول عمل يقول: أنت عربي، وأنت آشوري، وأنت كردي، وأنت مسلم، وأنت مسيحي، وأنت سني، وأنت شيعي، أول عمل يقوم به الغرب إذا أتى إلى بلادنا أن يمزقنا إلى ملل، ونحل، وطوائف، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يجمعنا، فالذي يدعو إلى ائتلاف القلوب، واجتماع المسلمين، دعوته هذه من الله، والذي يدعو إلى التفرقة والتشرذم، دعوته هذه من الشيطان.
سوء الظن إثم كبير يفتت المجتمع فعلى الإنسان أن يتأكد قبل أن يسيء الظن:
لذلك الآية الكريم تقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ﴾
أولاً الآية تقول:
﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾
كيف نفرق بين الظن الذي هو إثم وبين الظن الذي هو حق؟:
﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾
إذاً في بعضه الآخر ليس إثماً.
إنسان دخل إلى البيت سماعة الهاتف بيد زوجته وتتحدث، فلما رأته وضعت السماعة فوراً، معنى هذا أن هناك مشكلة، هذا الاتصال الهاتفي عليه إشكال، هنا صارت بادرة، مؤشر، علامة، هنا سوء الظن ليس إثماً، يجب أن تحقق، مع من كنت تتكلمين؟ ما الرقم الذي كنت على اتصال به.
فأحياناً يكون هناك سبب لسوء الظن، من هنا قال تعالى:
﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾
لكن أحياناً لا يكون أي دليل، سوء الظن الآن إثم، لا يوجد أي دليل على انحراف الزوجة، لا قريب، ولا بعيد، ولا اتصال، ولا مؤشر، ولا رسالة، ولا شيء إطلاقاً، ومع ذلك هو سيئ الظن فيها، هذا مرض.
أنا يرفع إليّ قضايا كثيرة من هذا المرض، لا يوجد أي سبب، لكن حينما يسيء الظن فيها يرى نفسه حازماً، لا، إذا لم يكن هناك مؤشر، أو علامة، أو إشارة، أو سبب، أو علاقة، سوء الظن إثم كبير، بسوء الظن يتفتت المجتمع، ودائماً وأبداً المستقيم إذا أسأت الظن به كأنك ذبحته، أما غير المستقيم إذا أسأت الظن فيه فكن حازماً، لذلك ورد: الحزم سوء الظن.
سوء الظن عصمة و الحزم سوء الظن:
سوء الظن عصمة، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يعلمنا أخلاق المؤمن يقال عنه من شمائله: كان يحذر الناس ويحترس منهم، من دون أن يطوي بشره عن أحد، ابتسامته للجميع، ترحيبه للجميع، بشاشته للجميع، لكن شخص لا تعرفه إطلاقاً، طلب منك قرضاً كبيراً لا تكن ساذجاً، قد يكون قناصاً، فتأكد، تحقق، إن كنت تعرفه معرفه يقينية لا يوجد مشكلة لكن لا تعرفه، فإذا تأكدت كان أفضل لك، وهناك مئات الكوارث سببها سذاجة في حسن الظن، لذلك سوء الظن عصمة و الحزم سوء الظن، لكن إن كان هناك سبب، أو مؤشر، أو علامة، أو دليل، لكن إن لم يكن هناك دليل، أو مؤشر، أو سبب، أي زوجة طاهرة ربيت تربية دينية، أسرتها محافظة، أصيلة، يتزوجها إنسان سيئ الظن، من أخبرت اليوم؟ أين كنت؟ هذا سوء الظن للإنسان الطاهر المستقيم كأنك تذبحه.
لذلك الآية الكريمة:
﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾
الظن الذي ليس إثماً، هو الظن المبني على دليل، المبني على إشارة، المبني على عبارة، المبني على حادث، لكن إن لم يكن هناك إشارة، ولا عبارة، ولا حادث، ولا دليل، سوء الظن عندئذٍ إثمٌ كبير:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾
الابتعاد عن التجسس و الغيبة:
الآن:
﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾
التجسس تتبع الأخبار السيئة، استقبلت صديقك، ماذا تعمل؟ والله كنت في وظيفة تركتها، لِمَ تركتها؟ هم أقالوك أم أنك تركتها طوعاً؟ لا تدخل في تفاصيل ليس لك فيها، هذا ليس من الأدب، بأي وظيفة؟ بالوظيفة الفلانية، كم تأخذ؟ دعك من الدخل، يسأله عن دخله، وهذا البيت أجرة أما ملك؟ إذا ملك من أين لك حقه؟ هذا فضول وحشرية بالإنسان، هناك أشخاص هكذا طبعهم، إذا دخل لبيت صغير كيف يسعكم هذا البيت؟ اتركهم، هم مرتاحون فيه، مستورون فيه، لا يدع إنساناً مرتاحاً، شيطان، تأتي جارة لعند جارتها تسألها ماذا أحضر لك زوجك على العيد؟ فتجيبها: والله لم يحضر لي شيئاً، ألم يحضر لك قطعة من الذهب إذاً هو لا يليق بك، يرجع الزوج ظهراً فيجد أن الوضع غير طبيعي بالبيت، الكلمة الخبيثة من الشيطان، المؤمن يؤلف ولا يفرق، يقرب الناس من بعضهم بعضاً، لا يباعدهم عن بعضه بعضاً.
﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾
حتى هناك رأي آخر ولا تحسسوا، قالوا: التحسس تتبع الأخبار الطيبة، إنسانة لم تكن تنجب الأولاد بعد ذلك أصبحت حاملاً، فتسألها جارتها العلة منك أم منه؟ حملت وانتهى، لِمَ تدخل في هذه التفاصيل؟
﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾
ولا تحسسوا، التحسس تتبع الأخبار الطيبة.
﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾
أقسم لكم بالله الغيبة وحدها تمزق الأمة، تمزق المجتمعات، تفتت الأسر، الغيبة وحدها، لو كان هناك انضباط، أو كان عندنا عالم كبير، الشيخ بدر الدين الحسني، شيخ سوريا، من أخلاقه العالية أنه إذا تكلم إنسان أمامه عن إنسان آخر، يقول له: اسكت، أظلم قلبي، لم يكن يسمح لأحد أن يتكلم أمامه عن إنسان آخر.
مرة بلغني أن وزير أوقاف استلم الوزارة، فأتى وفد لتهنئته، وطعن بالذي قبله، فقال له: اسكت، الذي قبلي أحسن مني، هو صديقي، اسكت، لم يعد أحد يجرؤ بمدى وزارته أن يتكلم عن أحد أمامه، هذه بطولة.
تشبيه الله عز وجل الغيبة بأكل لحم الميت:
﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ﴾
سبحانك يا رب! لا يوجد أشهى من اللحم، ولا يوجد شيء له رائحة لا تحتمل إذا فسد كاللحم، أحياناً يكون هناك حيوان ميت بالبرية من خمسين متراً له رائحة تكاد تخرج من جلدك منها، فالله عز وجل اختار مشبهاً به دقيقاً جداً:
﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ﴾
أنت لحم الميت المتفسخ، لا تستطيع أن تواجه رائحته من خمسين متراً، فكيف إذا أكلته؟
﴿ فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾
كأن الله يشبه لنا الغيبة بأكل لحم الميت.
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾
أخواننا الكرام، والله لو أن هذه الآية وحدها طبقت، لا يوجد تفرقة بين الأسر، ولا بين الجماعات، ولا بين الأحياء، ولا بين المؤسسات، ولا بين النقابات، إذا طبقت هذه القاعدة.
لذلك السلف الصالح، الغيبة مرفوضة كلياً عندهم، الآن تجده يصلي ومرتاح وله قيام ليل، ويسهر سهرة لا يدع شيئاً لا يتكلم عنه!
أخواننا الكرام، مع الأسف الشديد مجالس المؤمنين كلها غيبة ونميمة، هذا الشيء مؤلم، والشيء البشع بالإنسان أنه يلتقي مع أخيه ابتسامه، يهش له، يبش له، يرحب فيه، يثني عليه، وإذا خرج يتكلم عنه، هذا موقف بشع، موقف حقير، معنى هذا أن لك وجهين ولسانين، ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً.
عليك ألا تتكلم عن أحد إلا إن سألك أحدهم في موضوع زواج، عندئذ تتكلم، هذه مسموح بها، أو موضوع شراكة اندماجية، موضوع زواج، موضوع شراكة، ساعتئذٍ هناك رخصة من رسول الله بالنصح.
الأخلاق الاجتماعية تُمكّن العلاقات والأخلاق غير الاجتماعية تمزق وتفرق:
أيها الأخوة، الأخلاق الاجتماعية تُمكّن العلاقات، والأخلاق غير الاجتماعية التي يمليها الشيطان على بني البشر أو على المؤمنين تمزق، تجد ديناً واحداً، إلهاً واحداً، كتاباً واحداً، فرقاً، وأحزاباً، وكل فئة تتراشق مع الفئات الأخرى التهم، الحمد لله نحن بخير الآن، لكن قبل خمسين سنة الجماعات الدينية كل جماعة تكفر الثانية، وتتهمها، هذه مشكلة كبيرة جداً، حينما تكون العلاقة سيئة جداً بين الجماعات، كل هذه الجماعات هدفها الله عز وجل، لا يوجد مانع، نتعاون فيما اتفقنا، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا، هناك قول آخر: نتعاون فيما اتفقنا، وينصح بعضنا بعضاً فيما اختلفنا، أما لا يوجد غيري على حق والباقي كله منحرف، هذا التفكير تفكير ساذج، يجب أن تنتمي إلى مجموع المؤمنين، وما لم يكن انتماؤك إلى مجموع المؤمنين فلست مؤمناً.
والحمد لله رب العالمين
مختارات