فقه المشاهدة (٢)
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤)} [الزمر: ٦٢ - ٦٤].
لا يوجد شيء، ولا يحيا شيء، ولا يموت شيء، ولا يزيد شيء، ولا ينقص شيء، ولا يرتفع شيء، ولا ينخفض شيء إلا بأمره وإذنه، وتقديره وتدبيره سبحانه.
يرى كل شيء.
ويسمع كل شيء.
ويعلم كل شيء.
محيط بكل شيء.
رقيب على كل شيء.
قادر على كل شيء.
بصير بكل شيء.
لا يعزب عنه شيء.
ولا يخفى عليه شيء: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)} [الأنعام: ١٠٢،١٠٣].
فسبحان العزيز الجبار.
العليم الخبير.
الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض.
ويعلم ما في البر والبحر.
يعلم مكاييل البحار.
وعدد ذرات الرمال.
وعدد ورق الأشجار.
وعدد الملائكة والإنس والجان.
وعدد الكلمات والأنفاس.
وعدد الأقوال والأفعال.
وعدد الحركات والسكنات {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢)} [الطلاق: ١٢].
ألا ما أعظم قدرة الملك العزيز الجبار، وما أوسع ملكه، وما أعظم خلقه.
إن الإنسان الذي ينظر في ملكوت السماوات والأرض، وما فيهما من المخلوقات ليأخذه العجب من عظمتها وجمالها، وكمالها وكثرتها، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها ومدبرها؟
إننا لو نظرنا وتدبرنا في خلق واحد من أضعف المخلوقات وأصغرها، وقد ملأ الله به الكون كله، وهو عالم الذرات، الذي أعطى الله كل ذرة منه:
أمر الإيجاد.
وأمر البقاء.
وأمر النفع والضر.
وأمر الحركة والسكون.
وأمر الصعود والهبوط.
فكم عدد الذرات التي خلقها الله في العالم؟.
وكم عدد الأوامر التي تتعلق بتدبيرها؟
إن ذرات غرفة واحدة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات القصر، وذرات القصر لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات المدينة، وذرات المدينة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات الدولة، وذرات الدولة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات القارة، وذرات القارة الواحدة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات القارات السبع.
وذرات الأرض كلها لا تساوي شيئاً بالنسبة للذرات الموجودة في الجو بين السماء والأرض.
وذرات الجو والأرض لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات السماوات السبع.
وذرات السماوات السبع والأرضين السبع لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات الجنة والنار.
وذرات العالم العلوي والعالم السفلي، وذرات الدنيا والآخرة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات الكرسي.
وذرات الكرسي لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات العرش، فسبحان الله الذي خلق هذه الذرات، وأحصى أعدادها، وعلم مكانها، وكل هذه الذرات لا تساوي شيئاً بالنسبة لما في خزائن الله من الذرات: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)} [الحجر: ٢١].
وكل ذرة من هذه الذرات التي لا يحصيها إلا الذي خلقها لها أمر من الله بالإيجاد، وأمر بالبقاء، وأمر بالتحريك والتسكين، ولا يخفى على الله منها ذرة في الأرض ولا في السماء.
سبحانه: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٣)} [سبأ: ٣].
ولا يند من هذه الذرات شيء، بل جميعها في ملك الله، وفي قبضة الله كما قال لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)} [لقمان: ١٦].
فهذا الكون كله ما نبصره وما لا نبصره، كله ملك رب العالمين.
أرأيت أعظم من هذا الملك، وأوسع من هذا العلم؟
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٥٩)} [الأنعام: ٥٩].
فهذه عظمة العزيز الجبار وقدرته في خلق واحد من مخلوقاته وهي الذرات التي أكثر الناس غافل عنها.
فكيف بعظمة خلق الكائنات الأخرى كالعرش والكرسي.
والسماوات والأرض.
والجبال والبحار.
والشمس والقمر.
والكواكب والنجوم.
والجماد والنبات.
والإنسان والحيوان؟ وكيف بعظمة الخلاق العليم الذي خلقها؟
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١١)} [لقمان: ١١].
هو سبحانه الذي له الخلق كله، والأمر كله، ظاهره وباطنه، كبيره وصغيره، وأوله وآخره.
يحيي ويميت.
ويخلق ويرزق.
ويعطي ويمنع.
ويعز ويذل.
ويعافي ويسقم.
ويرفع ويضع.
بيده وحده النفع والضر.
والخلق والأمر.
والتصريف والتدبير.
والتحريك والتسكين.
والأمن والخوف.
واليسر والعسر.
والإكرام والإهانة.
وله ملك السماوات والأرض وما فيهن: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)} [المائدة: ١٢٠].
خلق سبحانه الدنيا والآخرة، والجنة والنار، والنعيم والعذاب، والثواب والعقاب، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، فأين من يشاهد؟ وأين من يرى؟ وأين من يبصر؟ وأين من يعلم؟
فسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
ماذا بيد الله؟ وماذا بأيدينا؟
وماذا علمنا؟ وماذا جهلنا؟
وماذا قدمنا؟ وماذا أخرنا؟
{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨)} [الانفطار: ٦ - ٨].
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)} [الأنفال: ٢٤].
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠)} [الحشر: ١٨ - ٢٠].
وهكذا يرى بقلبه شواهد جميع الصفات، فيزيد إيمانه، وتنقاد جوارحه لطاعة ربه، ويلهج لسانه بذكره وحمده.
مختارات