فقه الخوف (١)
قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)} [آل عمران: ١٧٥].
وقال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (٤١) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (٤٣) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (٤٥)} [النازعات: ٤٠ - ٤٥].
وقال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦)} [الرحمن: ٤٦].
الخوف: هو تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في المستقبل، واضطراب القلب وحركته من تذكر الخوف.
وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب.
وإذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها، وأزعج النفوس للآخرة.
والناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق.
وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عزَّ وجلَّ، فإنك إذا خفته فررت إليه.
والخوف المحمود ما حال بين العبد وبين محارم الله عزَّ وجلَّ، وهو ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الخوف من العقوبة، وله متعلقان.
نفس المكروه المحذور وقوعه.
والسبب والطريق المفضي إليه.
فإذا عرف الإنسان قدر الخوف، وتيقن إفضاء السبب إليه، حصل له الخوف.
الثانية: خوف المكر، فمن حصلت له اليقظة بلا غفلة، واستغرقت أنفاسه فيها استحلى ذلك.
فإنه ينبغي للعبد أن يخاف المكر، وأن يُسلب هذا اليقين والحضور، واليقظة والحلاوة.
فكم من مغبوط بحاله، انعكس عليه الحال، ورجع من أحسن الأعمال إلى أقبح الأعمال، واستبدل بالأنس وحشة، وبالحضور غيبة، وبالقرب بعداً.
الثالثة: هيبة الجلال لذي الجلال، فإن وحشة الخوف تكون مع الانقطاع والإساءة؟.
أما هيبة الجلال فإنها متعلقة بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وكلما كان العبد بربه أعرف، وإليه أقرب، كانت هيبته وإجلاله في قلبه أعظم، وهي أعلى درجات الخوف.
وأكثر ما تكون الهيبة أوقات المناجاة، وهو وقت تملق العبد ربه، وتضرعه بين يديه، وهي مخاطبة القلب للرب خطاب المحب لمحبوبه مع هيبة جلاله.
وأكمل الأحوال اعتدال الخوف والرجاء في القلب مع غلبة الحب لله.
فالخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة، والتي عليها مدار مقامات السالكين إلى الله وهي:
الخوف.
والرجاء.
والمحبة.
والخوف من لوازم الإيمان وموجباته فلا يتخلف عنه.
وقد أثنى الله عزَّ وجلَّ على أقرب عباده إليه بالخوف منه فقال عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠)} [الانبياء: ٩٠].
وكلما كان العبد بالله أعرف كان له أخوف، ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به.
فأعرف الناس بالله أخشاهم لله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (٢٨)} [فاطر: ٢٨].
ومن عرف الله جل جلاله اشتد حياؤه منه، وخوفه له، وحبه له، وإجلاله له.
فخوف الله جلَّ جلاله من أجلِّ منازل الطريق إلى الله، فإن العبد له حالتان:
إما أن يكون مستقيماً.
أو مائلاً عن الاستقامة.
فإن كان مائلاً عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف، وهذا الخوف ينشأ من ثلاثة أمور:
أحدها: معرفة العبد بالجناية وقبحها.
الثاني: تصديق الوعيد، وأن الله رتب على المعصية عقوبتها.
الثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة، ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب.
فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه، فإن الحامل على الذنب:
إما أن يكون عدم علم العبد بقبحه.
وإما عدم علمه بسوء عاقبته.
وإما أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتكاله على التوبة، وهو الغالب على ذنوب أهل الإيمان.
فإذا علم العبد قبح الذنب، وعلم سوء مغبته، وخاف أن لا يفتح له باب التوبة، اشتد خوفه فابتعد عنه.
وهذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد.
وأما إن كان المسلم مستقيماً مع الله، فخوفه يكون مع جريان الأنفاس، لعلمه بأن الله مقلب القلوب، وأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه، فإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)} [الأنفال: ٢٤].
وخوف العبد المسيء الهارب من الله خوف مقرون بوحشة ونفرة، فهو مشفق من عمله لعلمه بأنه صائر إلى العقوبة كما قال سبحانه: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: ٢٢].
وأما خوف المسيء الهارب إلى الله الفار إليه فهو خوف محشو بالحلاوة والسكينة والأنس، لا وحشة معه، وإنما يجد الوحشة من نفسه، فله نظران:
نظر إلى نفسه وجنايته فيوجب له وحشة.
ونظر إلى ربه وقدرته عليه وعزه وجلاله فيوجب له خوفاً مقروناً بأنس وحلاوة وطمأنينة.
ولهذا يزول الخوف وسائر الآلام والأحزان في الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)} [فصلت: ٣٠ - ٣٢].
مختارات

