فقه الاستفادة من الإيمان (٢)
وقد جعل الله في الدنيا حياة الأسباب موجودة، وحياة الأعمال موجودة.
فمن اجتهد على الأسباب، جاء عنده اليقين على الأسباب، ومن اجتهد على الإيمان والأعمال، جاء عنده اليقين على قدرة الله عزَّ وجلَّ.
والله عزَّ وجلَّ يقضي الحاجات بالإيمان والأعمال قطعاً، ويقضيها بالأسباب امتحاناً وابتلاءً للمؤمن، واطمئناناً للكافر.
وأحياناً نفعل الأسباب ولا تظهر النتائج لتذكير العباد بالخالق.
والله سبحانه يقضي حاجات العباد بهذا وهذا، بقدرته من الأرض أو من السماء، بالأسباب وبدون الأسباب، وبضد الأسباب، فقد أعطى الله بني إسرائيل مع موسى - صلى الله عليه وسلم - الماء من الحجر من الأرض، وأعطاهم المن والسلوى من السماء، ورزق مريم طعاماً بلا شجر، وابناً بلا ذكر، وأخرج النبات من الأرض، وأظهر الثمر من الشجر، وأخرج الحليب من الضرع، والنور من الشمس، والكلام من اللسان.
وهذا كله من الله وحده لا شريك له، وهذه المخلوقات مظاهر لقدرة الله، فلا الأرض تعطي، ولا السماء تعطي، وإنما المعطي والرازق واحد لا شريك له.
فالخالق واحد، والمعطي واحد، وأماكن التسليم والنفع متعددة، ومظاهر القدرة مختلفة: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)} [التوبة: ٣١].
فالمعطي والمانع، والنافع والضار، والمعز والمذل هو الله وحده لا شريك له.
فالطعام مخلوق وقد أمر الله بأكله، وجعله سبباً للحياة، ولكن ليس بيده شيء فهو لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، يأكله الصغير فيكبر وينمو، ويأكله الكبير فيضعف وينقص.
والماء مخلوق وقد أمرنا الله بشربه، وجعله سبباً للحياة، ولكن ليس بيده شيء فهو لا ينفع ولا يضر إلا بأمر الله، يشربه الإنسان فيحيا، وأحياناً يشربه فيموت، ومن طبيعته الإغراق، ولكنه مملوك لله أمره الله فانفتح لموسى ومن آمن معه، وأغرق فرعون وقومه في آن واحد، وحمل موسى وليداً حتى أدخله في قصر فرعون، وأغرق كفار قوم نوح قاطبة.
والنار مخلوقة وقد جعلها الله سبباً لمصالح العباد، ومن طبيعتها الإحراق، ولكنها لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله، فهي مملوكة مدبرة.
إن جاءها أمر الإحراق أحرقت، وإن جاءها أمر الحفاظة أطاعت وحفظت، كما جعل الله النار برداً وسلاماً على إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٦٩)} [الأنبياء: ٦٩].
فسبحان مالك الملك، وسبحان من نواصي الخلائق كلها بيده يفعل بها ما يشاء: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)} [الرعد: ٢].
وإذا جاءت مصيبة على الإنسان فحلها بيد الإنسان بأن يمتثل أوامر الله على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا غير ما في قلبه وجاء عنده اليقين على ربه غير الله بدنه وحاله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: ١١].
وإذا جاءت علينا أحوال شديدة نشكوها أمام الخالق وحده، ونتضرع إليه في كشفها، ولا نذكرها أمام المخلوق العاجز الضعيف، بل نشكو أحوالنا فقط إلى الله، ونفعل الأسباب التي أمر الله بها في حدود الاستطاعة.
فالله أعطانا بمنه وكرمه الإيمان والأعمال، لجميع الأحوال، فإذا قمنا بالأعمال التي يرضى الله بها أصلح الله الأحوال بقدرته.
كما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في بدر النصر على الكفار، فنصره الله بقدرته، ولم يتوجه إلى الفرس ولا إلى الروم، ولا لبشر ولا لسبب، بل توجه إلى الناصر الذي يملك النصر وحده كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣)} [آل عمران: ١٢٣].
وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لما دعا قومه إلى الإيمان فأبوا وأرادوا إحراقه بالنار توجه إلى ربه في طلب النجاة، ولم يتوجه لأحد سواه، فأنجاه الله وخذلهم كما قال سبحانه: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٦٨) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٦٩) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)} [الأنبياء: ٦٨ - ٧٠].
ونوح - صلى الله عليه وسلم - لما دعا قومه إلى الإسلام فأبوا واستكبروا، وعادوه، دعا عليه ربه فأغرقهم بالماء، وأنجاه ومن آمن معه كما قال سبحانه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥)} [القمر: ١٠ - ١٥].
وقال سبحانه: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)} [الأنبياء: ٧٦، ٧٧].
وأيوب - صلى الله عليه وسلم - حين ابتلاه الله ببلاء شديد، فقد سلط الشيطان على جسده ابتلاء من الله، فنفخ في جسده فتقرح قروحاً عظيمة، ومكث مدة طويلة، واشتد به البلاء، ومات أهله، وذهب ماله فوجده الله صابراً راضياً عن ربه.
فدعا ربه، فكشف ضره، ومنحه مع العافية من الأهل والمال شيئاً كثيراً كما قال سبحانه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (٨٤)} [الأنبياء: ٨٣، ٨٤].
فمتى يستفيد المؤمنون من قدرة الله، بالتوجه إليه وحده في كشف الكربات والأمراض، ودعائه، وحسن الصبر على بلائه، والله سميع مجيب.
ويونس - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله إلى قومه فلم يؤمنوا، فوعدهم بنزول العذاب بأن سماه لهم، فلما جاءهم العذاب عجوا إلى الله وتابوا، فرفع الله عنهم العذاب كما قال سبحانه: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨)} [يونس: ٩٨].
ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ذهب مغاضباً لقومه، وخرج من بين أظهرهم قبل أن يأمره الله بذلك، وظن أن الله لا يقدر عليه، وعرض له هذا الظن فركب السفينة فأوشكت على الغرق، فاقترعوا من يلقى في البحر، لئلا تغرق السفينة، فأصابت القرعة يونس، فألقي في البحر، فالتقمه الحوت، وذهب به إلى ظلمات البحار، فنادى في تلك الظلمات ربه ومولاه فأنجاه كما قال سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)} [الأنبياء: ٨٧، ٨٨].
فأقر لربه بكمال الألوهية، ونزهه عن كل عيب وآفة ونقص، واعترف بظلم نفسهوجنايته فكشف الله ضره وأنجاه، وكذلك ينجي الله المؤمنين.
وفي هذا وعد وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغم أن الله تعالى سينجيه منها، ويكشف عنه ضرها لإيمانه كما فعل بيونس - صلى الله عليه وسلم -.
وزكريا - صلى الله عليه وسلم - من رحمته للخلق، ونصحه لهم لما قرب أجله خاف ألا يقوم أحد بعده مقامه في الدعوة إلى الله والنصح لعباده، وأن يكون في وقته فرداً ولا يخلف من يشفعه ويعينه على ما قام به.
فاستجاب الله له، ووهب له ابناً سماه يحيى، وأصلح رحم زوجته للولادة كما قال سبحانه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠)} [الأنبياء: ٨٩، ٩٠].
ومريم ابنة عمران التي حفظت فرجها من الحرام، بل ومن الحلال فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة، واستغراق وقتها في طاعة ربها، وخدمة بيت المقدس، رزقها الله ولداً من غير أب، فنفخ فيها جبريل بأمر الله، فحملت بإذن الله: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢)} [التحريم: ١٢].
فهؤلاء الأنبياء والمرسلون وصفهم الله بالصبر:
الصبر على طاعة الله.
والصبر عن معصية الله.
والصبر على أقدار الله المؤلمة.
فهذه أقسام الصبر الثلاثة، ولا يستحق العبد اسم الصابر حتى يوفيها حقها.
وهؤلاء الأنبياء قد وفوها حقها، وقاموا بها كما ينبغي.
ووصف الله الأنبياء كذلك بالصلاح، وهو يشمل:
صلاح القلوب بمعرفة الله ومحبته والإنابة اليه كل وقت.
وصلاح الجوارح باشتغالها بطاعة الله وكفها عن المعاصي، والتحلي بمكارم الأخلاق.
فبصبرهم وصلاحهم أدخلهم الله في رحمته، وجعلهم من المرسلين، وأثابهم الثواب العاجل والآجل، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين.
وهؤلاء الأنبياء والرسل كانوا على خلق عظيم وعمل لله مستديم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠)} [الأنبياء: ٩٠].
مختارات

