73. سعيد بن العاص
سعيد بن العاص
"كان أشبه الناس لهجة برسول الله ﷺ "
سعيد بن العاص الأموي القرشي؛ صحابي موغل (١) في المجد …
عريق السؤدد …
فجده سعيد؛ كان يقال له ذو التاج …
لأنه كان إذا اعتم لا يعتم أحد من قريش بعمامة من لون عمامته حتى
ينزعها؛ إعظاما له، وإجلالا لشأنه.
وأبوه العاص بن سعيد؛ كان سيدا من سادات قريش، وكبيرا من كبرائها؛ خاض مع المشركين معركة بدر هو وأخوه عتبة؛ فقتلا معا …
وكان مصرع العاص على يدي علي بن أبي طالب ﵁.
* * *
كان سعيد؛ يوم قتل أبوه وعمه في بدر؛ في الثانية من عمره؛ فكفله عثمان بن عفان (٢) ﵁؛ لما كان بينه وبين الصبي الصغير من أواصر (٣) النسب.
فنشأ سعيد بن العاص في كنف الجواد العباد السجاد؛ ذي النورين عثمان بن عفان.
ودرج على عين زوجتيه رقية وأم كلثوم؛ بنتي سيد المرسلين محمد بن
عبد الله ﷺ …
فورث المجد كابرا عن كابر …
ونهل الشمائل (٤) الكريمة والخلائق العظيمة من أعذب ينابيعها وأصفاها …
وأخذ الإسلام من أغزر مناهله وأقواها …
وقرأ القرآن على خدين (٥) كتاب الله عثمان بن عفان …
وتلقاه غضا طريا من فم النبي ﵇؛ فكان أشبه الناس لهجة برسول الله ﷺ، وكان في جملة الإثنى عشر رجلا الذين كتبوا القرآن على عهد عثمان وعدموه الناس.
* * *
بدت على سعيد بن العاص علامات السيادة منذ كان فتى يافعا (٦).
فقد روي: أن امرأة نذرت أن تعطي بردا (٧) ثمينا كان عندها لأكرم العرب؛ فقيل لها: أعطه لهذا الغلام [يريدون سعيد بن العاص].
فسميت الثياب الفاخرة بعد ذلك بالسعيدية نسبة إليه.
وقد كان هؤلاء على حق حين تنبأوا لسعيد بن العاص بما تنبأوا له من السيادة والجود …
فقد ولي سعيد بن العاص للمسلمين الولايات، وقاد لهم الجيوش، وفتح لهم الفتوح؛ حيث فتح الله على يديه طبرستان وجرجان (٨) …
وظل واليا من قبل عثمان على مدينة الرسول صلوات الله عليه؛ حتى استشهد الخليفة المظلوم ﵁.
* * *
لكن الصفة التي غلبت على سعيد بن العاص هي الأريحية (٩) والجود؛ حتى إن معاوية بن أبي سفيان لقبه بكريم قريش.
فقد أغدق الله على سعيد بن العاص المال بغير حساب …
فجاد به سعيد على عباد الله بغير حساب أيضا.
وقد رويت له في ذلك أخبار رائعة كثيرة، وحكيت عنه قصص فذة مثيرة؛ ملأت صفحات التاريخ ثناء وضياء.
من ذلك؛ أن سعيد بن العاص كان يصر صرر المال في كل جمعة، ويضعها بين أيدي المصلين من ذوي الحاجات؛ حتى إذا فرغوا من صلاتهم أخذوها فرحين بها من غير مسألة (١٠).
* * *
وكان رجل من القراء يحضر مجلسه، ويأخذ عنه كتاب الله؛ فافتقر وأصابته فاقة (١١) شديدة؛ فقالت له زوجه:
إن أميرنا سعيد بن العاص يوصف بالجود؛ فلو ذكرت له حالك؛ فلعله يسمح لك بشيء.
فقال: ويحك! … أتريدين أن تسلخي (١٢) وجهي، والله لا أفعل.
فما زالت تشتد عليه الحاجة وتلح عليه زوجته في الطلب؛ حتى أتى مجلس سعيد بن العاص؛ كما كان يأتيه كل مرة …
فلما انصرف الناس؛ ظل الرجل جالسا في مكانه …
فأقبل عليه سعيد، وقال:
أظن جلوسك لحاجة؟!!.
فسكت الرجل.
فقال سعيد لغلمانه: انصرفوا …
فلما خرجوا قال له:
لم يبق غيري وغيرك؛ فاذكر حاجتك …
فسكت الرجل …
فأطفأ المصباح وقال له:
رحمك الله؛ لست ترى وجهي؛ فاذكر حاجتك.
فقال: أصلح الله الأمير …
أصابتنا فاقة فأحببت أن أذكرها لك؛ فاستحييت.
فقال له سعيد: هون عليك! وإذا أصبحت؛ فالق وكيلي فلانا.
ولما كان الصباح؛ لقي الرجل وكيل سعيد بن العاص؛ فقال له: إن الأمير قد أمر لك بشيء؛ فأت بمن يحمله معك.
فقال: ما عندي من يحمله.
ثم ذهب إلى زوجته؛ فلامها وقال:
حملتني على بذل ماء وجهي لسعيد بن العاص؛ فأمر لي بشيء يحتاج إلى من يحمله، وما أراه أمر لي؛ إلا بدقيق أو طعام …
ولو كان مالا؛ لما احتاج إلى من يحمله، ولأعطانيه بيدي.
فقالت المرأة: مهما أعطاك؛ فإننا بحاجة إليه فخذه.
فرجع الرجل إلى الوكيل؛ فقال الوكيل:
إني أخبرت الأمير أنه ليس لديك أحد يحمل عطيته لك؛ فأرسل إليك بهؤلاء الغلمان الثلاثة ليحملوها معك …
فمضى الرجل أمامهم؛ فلما بلغوا البيت …
إذا على رأس كل واحد منهم عشرة آلاف درهم؛ فقال للغلمان:
ضعوا ما معكم وانصرفوا.
فقالوا: إن الأمير قد وهبنا لك …
فإنه ما بعث مع غلام هدية إلى أحد؛ إلا كان الغلام في جملة الهدية.
* * *
وسأل أعرابي سعيد بن العاص؛ فأمر له بخمسمائة؛ فقال له وكيله:
خمسمائة درهم أم دينار؟!!.
فقال: إنما أمرتك بخمسمائة درهم …
أما وإنه جاش (١٣) في خاطرك أنها دنانير؛ فادفع إليه خمسمائة دينار.
فلما قبضها الأعرابي جلس يبكي؛ فقال له سعيد:
ما لك؟ ألم تقبض عطاءك؟!.
قال: بلى والله، ولكن أبكي على الأرض كيف تواري (١٤) مثلك.
* * *
وكان سعيد؛ يقول لابنه عمرو:
يا بني؛ ابذل المعروف ابتداء (١٥) من غير مسألة …
أما إذا أتاك الرجل تكاد ترى دمه في وجهه من الحياء، أو جاءك مخاطرا لا يدري أتعطيه أم تمسك عنه …
فوالله لو خرجت (١٦) له من جميع مالك ما كافأته.
* * *
ولما حضرت سعيد بن العاص الوفاة؛ جمع بنيه وقال لهم:
يا بني؛ لا يفقدن أصحابي بموتي غير وجهي …
فصلوهم بما كنت أصلهم به، وأجروا عليهم ما كنت أجريه عليهم …
واكفوهم مؤونة (١٧) الطلب …
فإن الرجل إذا طلب الحاجة؛ اضطربت أركانه، وارتعدت فرائصه؛ مخافة أن يرد …
فوالله! لرجل يتململ على فراشه وهو يراكم أهلا لقضاء حاجته؛ أعظم منة عليكم مما تعطونه.
* * *
فلما مات؛ قدم ابنه عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق على معاوية بن أبي سفيان في دمشق يخبره بوفاة أبيه، فبكى معاوية واسترجع (١٨)، وقال:
هل ترك أبوك من دين؟.
قال: نعم.
قال: وكم هو؟.
قال: ثلاثمائة ألف درهم.
فقال معاوية: هي علي.
فقال: إنه أوصاني ألا أقضي دينه؛ إلا من ثمن أراضيه …
فاشترى منه معاوية أرضا بمبلغ الدين.
* * *
عاد عمرو بن سعيد إلى المدينة، وأمر مناديا ينادي بالناس:
أن من كان له دين على سعيد بن العاص؛ فليأت ابنه عمرا ليقبضه …
فجاءه شاب معه رقعة من أدم (١٩)، كتب له فيها عشرون ألفا.
فقال عمرو:
كيف استحق هذا المال على أبي؟.
فقال الشاب: كان أبوك خارجا من دار الإمارة معزولا من عمله؛ فتبعته أمشي معه؛ فلما رآني قال:
ألك حاجة؟ … فأجبت: لا، ولكني أحببت أن أكون معك في هذه الساعة؛ فقال:
كان معك الله، ثم قال:
يا بن أخي اطلب لي دواة وجلدا، فأحضرتهما له …
فكتب لي بعشرين ألفا، وقال:
يا بن أخي؛ إذا جاءت غلتنا دفعنا ذلك لك.
فدفع له عمرو المال، وزاده شيئا كثيرا.
فقال الناس: من ترك مثل عمرو بن سعيد لم يمت.
* * *
رضي الله عن السخي الجواد …
حافظ كتاب الله سعيد بن العاص …
ونور له في قبره (*).
_________
(١) موغل: ممعن؛ مبعد.
(٢) عثمان بن عفان: انظره فى الكتاب الثامن من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٣) أواصر النسب: صلات القربى.
(٤) الشمائل: الصفات الطيبة.
(٥) الخدين: الصديق المولع بصديقه.
(٦) فتى يافعا: فتى في بواكير الصبا.
(٧) البرد: الثوب.
(٨) طبرستان وجرجان: منطقتان من مناطق بلاد فارس.
(٩) الأريحية: سمو الخلق ووفرة المعروف.
(١٠) من غير مسألة: أي دون الحاجة للسؤال.
(١١) الفاقة: الفقر.
(١٢) تسلخي وجهي: أي تنزعيه؛ وهو كناية عن الذل والمهانة.
(١٣) جاش في خاطرك: ظننت.
(١٤) تواري: تبتلع وتخفي، أي يدفن فيها.
(١٥) ابتداء: في بادئ الأمر وأوله.
(١٦) خرجت له: تنازلت له، وأعطيته.
(١٧) مؤونة الطلب: أي كلفة السؤال ومشقة الانشغال به.
(١٨) استرجع: قال إنا لله وإنا إليه راجعون.
(١٩) رقعة من أدم: خطاب أو رسالة من الجلد.
مختارات