55. ثابت بن قيس الأنصاري
ثابت بن قيس الأنصاري
"ما أجيزت وصية امرئ أوصى بها بعد موته سوى وصية ثابت بن قيس".
ثابت بن قيس الأنصاري سيد من سادات الخزرج (١) المرموقين، ووجه من وجوه "يثرب" المعدودين.
وكان إلى ذلك ذكي الفؤاد، حاضر البديهة، رائع البيان، جهير الصوت، إذا نطق بز (٢) القائلين، وإذا خطب أسر السامعين.
وهو أحد السابقين إلى الإسلام في "يثرب"؛ إذ ما كاد يستمع إلى آي الذكر الحكيم يرتلها الداعية المكي الشاب مصعب بن عمير بصوته الشجي وجرسه (٣) الندي حتى أسر القرآن سمعه بحلاوة وقعه، وملك قلبه برائع بيانه، وخلب لبه بما حفل به من هدي وتشريع.
فشرح الله صدره للإيمان، وأعلى قدره ورفع ذكره بالانضواء تحت لواء نبي الإسلام.
* * *
ولما قدم الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة مهاجرا استقبله ثابت بن قيس في كوكبة (٤) كبيرة من فرسان قومه أكرم استقبال، ورحب به
وبصاحبه الصديق أجمل ترحيب، وخطب بين يديه خطبة بليغة افتتحها بحمد الله جل وعز، والثناء عليه، والصلاة والسلام على نبيه.
واختتمها بقوله: "وإنا نعاهدك - يا رسول الله - على أن نمنعك (٥) مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا ونساءنا؛ فما لنا لقاء ذلك؟ ".
فقال:
(الجنة) …
فما كادت كلمة "الجنة" تصافح آذان القوم حتى أشرقت وجوههم بالفرحة وزهت قسماتهم بالبهجة، وقالوا:
رضينا يا رسول الله … رضينا يا رسول الله.
ومنذ ذلك اليوم جعل الرسول صلوات الله عليه ثابت بن قيس خطيبه، كما كان حسان بن ثابت شاعره.
فصار إذا جاءته وفود العرب لتفاخره أو تناظره بألسنة الفصحاء المقاول (٦) من خطبائها وشعرائها، ندب لهم ثابت بن قيس لمصاولة (٧) الخطباء، وحسان بن ثابت لمفاخرة الشعراء (٨).
* * *
ولقد كان ثابت بن قيس مؤمنا عميق الإيمان، تقيا صادق التقوى، شديد الخشية من ربه، عظيم الحذر من كل ما يغضب الله جل وعز.
فلقد رآه رسول الله ﷺ ذات يوم هلعا جزعا (٩) ترتعد فرائصه (١٠) خوفا وخشية فقال:
(ما بك يا أبا محمد؟!).
فقال: أخشى أن أكون قد هلكت يا رسول الله …
قال: (ولم؟!).
قال: لقد نهانا الله جل وعز عن أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد …
ونهانا عن الخيلاء (١١)، وأجدني أحب الزهو (١٢).
فما زال الرسول صلوات الله وسلامه عليه يهدئ من روعه (١٣) حتى قال:
(يا ثابت، ألا ترضى أن تعيش حميدا.
وتقتل شهيدا.
وتدخل الجنة؟) …
فأشرق وجه ثابت بهذه البشرى، وقال:
بلى يا رسول الله … بلى يا رسول الله …
فقال: (إن لك ذلك).
* * *
ولما نزل قوله جل شأنه:
﴿ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم (١٤) وأنتم لا تشعرون﴾ (١٥).
تجنب ثابت بن قيس مجالس رسول الله ﷺ على الرغم من شدة حبه له، وفرط تعلقه به - ولزم بيته حتى لا يكاد يبرحه إلا لأداء المكتوبة (١٦).
فافتقده النبي صلوات الله وسلامه عليه وقال:
(من يأتيني بخبره؟).
فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله.
وذهب إليه فوجده في منزله محزونا منكسا رأسه؛ فقال له: ما شأنك يا أبا محمد؟.
قال: شر.
قال: وما ذاك؟!.
قال: إنك تعرف أني رجل جهير الصوت، وأن صوتي كثيرا ما يعلو على صوت رسول الله ﷺ وقد نزل من القرآن ما تعلم … وما أحسبني إلا قد حبط (١٧) عملي وأنني من أهل النار …
فرجع الرجل إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأخبره بما رأى وما سمع فقال:
(اذهب إليه وقل له: لست من أهل النار؛ ولكنك من أهل الجنة).
فكانت هذه بشارة عظمى لثابت ظل يرجو خيرها طوال حياته.
* * *
وقد شهد ثابت بن قيس مع رسول الله ﷺ المشاهد كلها سوى "بدر"، وأقحم نفسه في غمار المعارك طلبا للشهادة التي بشره بها النبي ﷺ، فكان يخطئها في كل مرة، وهي قاب قوسين (١٨) منه أو أدنى …
إلى أن وقعت حروب الردة بين المسلمين ومسيلمة الكذاب على عهد الصديق ﵁.
ولقد كان ثابت بن قيس إذ ذاك أميرا لجند الأنصار، وسالم مولى أبي حذيفة (١٩) أميرا لجند المهاجرين، وخالد بن الوليد قائدا للجيش كله:
أنصاره ومهاجريه؛ ومن فيه من أبناء البوادي.
ولقد كانت الريح والدولة (٢٠) في جل المعارك لمسيلمة ورجاله على جيوش المسلمين، حتى بلغ بهم الأمر أن اقتحموا فسطاط (٢١) خالد بن الوليد، وهموا بقتل زوجته أم تميم … وقطعوا حبال الفسطاط ومزقوه شر ممزق.
فرأى ثابت بن قيس يومذاك من تضعضع المسلمين ما شحن (٢٢) قلبه أسى وكمدا، وسمع من تنابزهم (٢٣) ما ملأ صدره هما وغما.
فأبناء المدن يرمون أهل البوادي بالجبن، وأهل البوادي يصفون أبناء المدن بأنهم لا يحسنون القتال ولا يدرون ما الحرب.
عند ذلك تحنط (٢٤) ثابت وتكفن ووقف على رؤوس الأشهاد وقال: يا معشر المسلمين، ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله ﷺ.
بئس ما عودتم أعداءكم من الجرأة عليكم …
وبئس ما عودتم أنفسكم من الانخذال لهم …
ثم رفع طرفه إلى السماء وقال:
اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء من الشرك [يعني مسيلمة وقومه].
وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء [يعني المسلمين].
ثم هب هبة الأسد الضاري كتفا لكتف مع الغر الميامين:
البراء بن مالك الأنصاري (٢٥) …
وزيد بن الخطاب أخي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب …
وسالم مولى أبي حذيفة …
وغيرهم وغيرهم من المؤمنين السابقين …
وأبلى بلاء عظيما ملأ قلوب المسلمين حمية وعزما، وشحن أفئدة المشركين وهنا ورعبا.
وما زال يجالد في كل اتجاه، ويضارب بكل سلاح حتى أثخنته (٢٦) الجراح؛ فخر صريعا على أرض المعركة قرير العين (٢٧) بما كتب الله له من
الشهادة التي بشره بها حبيبه رسول الله ﷺ، مثلوج الصدر (٢٨) بما حقق الله على يديه للمسلمين من النصر …
* * *
وكانت على ثابت درع نفيسة؛ فمر به رجل من المسلمين، فنزعها عنه، وأخذها لنفسه.
وفي الليلة التالية لاستشهاده رآه رجل من المسلمين في منامه فقال للرجل:
أنا ثابت بن قيس، فهل عرفتني؟
قال: نعم.
فقال: إني أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعها …
إني لما قتلت بالأمس مر بي رجل من المسلمين صفته كذا وكذا؛ فأخذ درعي ومضى بها نحو خبائه (٢٩) في أقصى المعسكر من الجهة الفلانية، ووضعها تحت قدر له، ووضع فوق القدر رحلا (٣٠) …
فائت خالد بن الوليد، وقل له:
أن يبعث إلى الرجل من يأخذ الدرع منه فهي ما تزال في مكانها.
وأوصيك بأخرى، فإياك أن تقول هذا حلم نائم فتضيعها.
قل لخالد: إذا قدمت على خليفة رسول الله ﷺ في المدينة فقل له: إن على ثابت بن قيس من الدين كذا وكذا.
وإن فلانا وفلانا من رقيقه (٣١) عتيقان (٣٢)، فليقض ديني وليحرر غلامي …
فاستيقظ الرجل، فأتى خالد بن الوليد فأخبره بما سمع وما رأى … فبعث خالد من يحضر الدرع من عند آخذها فوجدها في مكانها وجاء بها كما هي.
ولما عاد خالد إلى المدينة حدث أبا بكر ﵁ بخبر ثابت بن قيس ووصيته فأجاز الصديق وصيته.
وما عرف أحد قبله ولا بعده أجيزت وصيته بعد موته سواه …
رضي الله عن ثابت بن قيس وأرضاه، وجعل في أعلى عليين مثواه (*).
_________
(١) الخزرج: قبيلة يمانية الأصل ارتحلت إلى المدينة واستقرت فيها، وكانت هي والأوس تكونان جمهرة الأنصار.
(٢) بز القائلين: غلبهم وتفوق عليهم.
(٣) الجرس بسكون الراء: النبرة والنغمة.
(٤) كوكبة: جماعة.
(٥) نمنعك: نحميك.
(٦) المقاول: البلغاء الذين يجيدون القول.
(٧) المصاولة: المنازلة.
(٨) انظر موقف الإسلام من الأدب بعامة ومن الشعر بخاصة في كتاب "نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد" للمؤلف.
(٩) هلعا جزعا: خائفا محزونا.
(١٠) الفرائص: جمع مفرده فريصة، وهي لحمة بين الثدي والكتف ترتعد عند الفزع.
(١١) الخيلاء: التكبر.
(١٢) الزهو: الإعجاب بالنفس.
(١٣) يهدئ من روعه: يهدئ من خوفه.
(١٤) أن تحبط أعمالكم: أي مخافة أن تفسد أعمالكم وتذهب سدى.
(١٥) الحجرات: آية ٢.
(١٦) المكتوبة: الصلاة.
(١٧) حبط عملي: ذهب سدى.
(١٨) قاب قوسين: مقدار قوسين، وهي عبارة تستعمل للدلالة على شدة القرب.
(١٩) سالم مولى أبي حذيفة: انظره ص ٥٢٧.
(٢٠) الريح: القوة … والدولة: النصر والغلب.
(٢١) فسطاط خالد: خيمة خالد.
(٢٢) شحن: ملأ.
(٢٣) التنابز: التعاير، وتنابز القوم: عير بعضهم بعضا.
(٢٤) تحنط: وضع الحنوط على جسده، والحنوط: نبات يذر على جسد الميت، وتحنطه إشارة إلى استعداده للموت.
(٢٥) البراء بن مالك الأنصاري: انظره ص ٥١.
(٢٦) أثخنته الجراح: أوهنته وأضعفته.
(٢٧) قرير العين: سعيد معتبط.
(٢٨) مثلوج الصدر: بمعنى قرير العين.
(٢٩) خبائه: خيمته.
(٣٠) الرحل: ما يوضع فوق ظهر البعير ونحوه ويرحل عليه.
(٣١) رقيقه: عبيده.
(٣٢) عتيقان: معتوقان محرران.
مختارات