34. حذيفة بن اليمان صاحب
حذيفة بن اليمان صاحب
سر رسول الله ﷺ
"ما حدثكم حذيفة فصدقوه، وما أقرأكم عبد الله بن مسعود فاقرؤوه"
[حديث شريف]
(إن شئت كنت من المهاجرين، وإن شئت كنت من الأنصار، فاختر أحب الأمرين إلى نفسك).
بهذه الكلمات خاطب الرسول حذيفة بن اليمان حين لقيه أول مرة في مكة.
ولتخيير حذيفة بن اليمان في الانتماء إلى أكرم فئتين وأحبهما إلى المسلمين قصة:
فاليمان أبو حذيفة مكي من بني "عبس" لكنه أصاب دما (١) في قومه، فاضطر إلى النزوح عن مكة إلى "يثرب"، وهناك حالف بني "عبد الأشهل" وصاهرهم، وولد له ابنه حذيفة.
ثم زالت الموانع التي تحول دون اليمان ودون دخول مكة، فجعل يتردد بينها وبين "يثرب"، ولكن إقامته كانت في المدينة أكثر وألصق.
ولما أهل الإسلام بنوره على جزيرة العرب كان اليمان أبو حذيفة أحد عشرة من بني "عبس" وفدوا على الرسول صلوات الله عليه، وأعلنوا إسلامهم بين يديه، وذلك قبل أن يهاجر إلى المدينة، ومن هنا كان حذيفة مكي الأصل مدني النشأة.
* * *
نشأ حذيفة بن اليمان في بيت مسلم، وربي في كنف أبوين من السابقين إلى الدخول في دين الله، فأسلم قبل الله، فأسلم قبل أن تكتحل عيناه بمرأى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
* * *
كان شوق حذيفة إلى لقاء الرسول ﷺ يملأ جوانحه، فهو ما زال منذ أسلم يتسقط (٢) أخباره، ويلح في السؤال عن أوصافه، فلا يزيده ذلك إلا ولعا به، وحنينا إليه.
فرحل إلى مكة ليلقاه، فما إن رأى النبي ﷺ حتى سأله:
أمهاجر أنا أم أنصاري يا رسول الله؟.
فقال ﵇: (إن شئت كنت من المهاجرين، وإن شئت كنت من الأنصار، فاختر لنفسك ما تحب):
فقال: بل أنا أنصاري يا رسول الله.
* * *
ولما هاجر الرسول إلى المدينة لازمه حذيفة ملازمة العين لأختها، وشهد معه المواقع كلها إلا "بدرا".
ولتخلف حذيفة عن بدر" قصة رواها بنفسه فقال:
ما منعني أن أشهد "بدرا" إلا أني كنت خارج المدينة أنا وأبي، فأخذنا كفار قريش وقالوا: أين تقصدون؟ فقلنا: المدينة، فقالوا: إنكم تريدون محمدا، فقلنا: ما نريد إلا المدينة، فأبوا أن يطلقونا إلا بعد أن أخذوا العهد علينا ألا ننصر محمدا عليهم، وألا نقاتل معه، ثم أطلقوا سراحنا.
ولما قدمنا على رسول الله ﷺ أخبرناه بما قطعناه من عهد لقريش، وسألناه ماذا نصنع؟.
فقال: (نفي بعهدهم ونستعين عليهم بالله).
* * *
ولما كانت "أحد" خاضها حذيفة مع أبيه اليمان؛ أما حذيفة فأبلى فيها أعظم البلاء وأكرمه، وخرج منها سالما، وأما أبوه فقد استشهد فيها، ولكن استشهاده كان بسيوف المسلمين لا بسيوف المشركين؛ ولذلك قصة نوردها فيما يلي:
لما كان يوم "أحد" وضع رسول الله ﷺ اليمان، وثابت بن وقش في الحصون مع النساء والصبيان، لأنهما كانا شيخين كبيرين طاعنين في السن (٣)، فلما حمي وطيس المعركة (٤)، قال اليمان لصاحبه:
لا أبا لك، ما ننتظر؟! فوالله ما بقي لواحد منا من عمره إلا بمقدار ما يظمأ الحمار (٥)، إنما نحن هامة اليوم (٦) أو غد، أفلا نأخذ سيفينا ونلحق برسول الله ﷺ لعل الله يرزقنا الشهادة مع نبيه … ثم أخذا سيفيهما ودخلا في الناس واقتحما المعركة …
أما ثابت بن وقش فأكرمه الله بالشهادة على أيدي المشركين، وأما اليمان والد حذيفة فتعاورته (٧) سيوف المسلمين وهم لا يعرفونه، وجعل حذيفة ينادي: أبي … أبي … فلا يسمعه أحد، وخر الشيخ صريعا بأسياف أصحابه، فما زاد حذيفة على أن قال لهم:
يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين.
ثم أراد الرسول أن يعطي الابن دية (٨) أبيه، فقال حذيفة: إنما هو طالب شهادة وقد نالها، اللهم اشهد أني تصدقت بديته على
المسلمين، فازداد بذلك منزلة عند رسول الله ﷺ.
* * *
سبر (٩) الرسول صلوات الله وسلامه عليه غور حذيفة بن اليمان، فتجلت له فيه خلال ثلاث: ذكاء فذ يسعفه في حل المعضلات …
وبديهة (١٠) مطاوعة تلبيه كلما دعاها …
وكتمان للسر فلا ينفذ إلى غيره أحد.
وكانت سياسة الرسول تقوم على اكتشاف مزايا أصحابه؛ والإفادة من طاقاتهم الكامنة في ذواتهم، وذلك بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
* * *
وكانت أكبر مشكلة تواجه المسلمين في المدينة هي وجود المنافقين (١١) من اليهود وأشياعهم (١٢)، وما يحيكونه للنبي وأصحابه من مكائد ودسائس.
فأفضى (١٣) النبي صلوات الله عليه لحذيفة بن اليمان بأسماء المنافقين - وهو سر لم يطلع عليه أحدا من أصحابه - وعهد إليه برصد حركاتهم، وتتبع نشاطهم، ودرء خطرهم (١٤) عن الإسلام والمسلمين … ومنذ ذلك اليوم دعي حذيفة بن اليمان "بصاحب سر رسول الله ﷺ ".
* * *
وقد استعان الرسول بمواهب حذيفة في موقف من أشد المواقف خطرا، وأحوجها إلى الذكاء الفذ والبديهة المطاوعة، وذلك في ذروة غزوة "الخندق" (١٥) … حيث كان المسلمون قد أحاط بهم العدو من
فوقهم ومن تحتهم، وطال عليهم الحصار، واشتد عليهم البلاء، وبلغ منهم الجهد والضنك (١٦) كل مبلغ، حتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر (١٧)، وأخذ بعض المسلمين يظنون بالله الظنون.
ولم تكن قريش وأحلافها من المشركين في هذه الساعات الحاسمات بأحسن حالا من المسلمين.
فقد صب عليها الله ﷿ من غضبه ما أوهن قواها وزلزل عزائمها، فأرسل عليها ريحا صرصرا (١٨) تقلب خيامها، وتكفأ (١٩) قدورها، وتطفئ نيرانها وتقذف وجوهها بالحصباء، وتسد عيونها وخياشيمها بالتراب.
* * *
في هذه المواقف الحاسمة من تاريخ الحروب؛ يكون الفريق الخاسر هو الذي يئن أولا، ويكون الفريق الرابح هو الذي يضبط نفسه طرفة عين بعد صاحبه.
وفي هذه اللحظات التي تكتب فيها مصائر المعارك؛ يكون لاستخبارات الجيوش الفضل الأول في تقدير الموقف وإسداء المشورة.
ومن هنا احتاج الرسول لطاقات حذيفة بن اليمان وخبراته، وعزم على أن يبعث به إلى قلب جيش العدو تحت جنح الظلام؛ ليأتيه بأخباره قبل أن يبرم (٢٠) أمرا.
فلتترك لحذيفة الكلام ليحدثنا عن رحلة الموت هذه.
قال حذيفة:
كنا في تلك الليلة صافين قعودا، وأبو سفيان ومن معه من مشركي مكة فوقنا، وبنو "قريظة" من اليهود أسفل منا نخافهم على نسائنا وذرارينا،
وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أقوى ريحا منها، فأصوات ريحها مثل الصواعق، وشدة ظلامها تجعل أحدنا ما يرى إصبعه.
.
فأخذ المنافقون يستأذنون الرسول، ويقولون: إن بيوتنا مكشوفة للعدو - وما هي بمكشوفة - فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له وهم يتسللون حتى بقينا في ثلاثمائة أو نحو ذلك.
* * *
عند ذلك قام النبي، وجعل يمر بنا واحدا واحدا حتى أتى إلي وما علي شيء يقيني من البرد إلا مرط (٢١) لامرأتي ما يجاوز ركبتي … فاقترب مني وأنا جاث على الأرض، وقال: (من هذا؟).
فقلت: حذيفة، قال: (حذيفة؟) … فتقاصرت إلى الأرض كراهية أن أقوم من شدة الجوع والبرد، وقلت: نعم يا رسول الله، فقال:
(إنه كائن في القوم خبر فتسلل إلى عسكرهم وأتني بخبرهم) …
فخرجت وأنا من أشد الناس فزعا وأكثرهم بردا، فقال رسول الله ﷺ: (اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته).
فوالله، ما تمت دعوة النبي ﵇ حتى انتزع الله من جوفي كل ما أودعه فيه من خوف، وأزال عن جسدي كل ما أصابه من برد.
فلما وليت ناداني وقال: (يا حذيفة لا تحدثن (٢٢) في القوم شيئا حتى تأتيني)، فقلت: نعم، ومضيت أتسلل في جنح الظلام حتى دخلت في جند المشركين وصرت كأني واحد منهم.
وما هو إلا قليل حتى قام أبو سفيان فيهم خطيبا وقال:
يا معشر قريش، إني قائل لكم قولا أخشى أن يبلغ محمدا؛ فلينظر كل رجل منكم من جليسه، فما كان مني إلا أن أخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي وقلت: من أنت؟ فقال: فلان بن فلان.
وهنا قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار قرار، لقد هلكت رواحلنا (٢٣)، وتخلت عنا بنو "قريظة" (٢٤)، ولقينا من شدة الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل.
ثم قام إلى جمله ففك عقاله، وجلس عليه، ثم ضربه فوثب قائما … ولولا أن رسول الله ﷺ أمرني ألا أحدث شيئا حتى آتيه لقتلته بسهم.
عند ذلك رجعت إلى النبي فوجدته قائما يصلي في مرط لبعض نسائه، فلما رآني أدناني إلى رجليه وطرح علي طرف المرط فأخبرته الخبر، فسر به سرورا شديدا وحمد الله وأثنى عليه.
* * *
ظل حذيفة بن اليمان مؤتمنا على أسرار المنافقين ما امتدت به الحياة، وظل الخلفاء يرجعون إليه في أمرهم، حتى إن عمر بن الخطاب ﵁ كان إذا مات أحد المسلمين يسأل: أحضر حذيفة للصلاة عليه؟ … فإن قالوا: نعم، صلى عليه، وإن قالوا: لا، شك فيه، وأمسك عن الصلاة عليه.
وقد سأله ذات مرة: أفي عمالي أحد من المنافقين؟ فقال: واحد، فقال: دلني عليه، فقال: لا أفعل …
قال حذيفة: لكن عمر ما لبث أن عزله كأنما هدي إليه.
ولعل قليلا من الناس من يعلم أن حذيفة بن اليمان فتح للمسلمين
"نهاوند" و "الدينور"، و"همذان" و"الري" (٢٥) … وكان سببا في جمع المسلمين على مصحف واحد بعد أن كادوا يفترقون في كتاب الله.
وعلى الرغم من ذلك كله كان حذيفة بن اليمان شديد الخوف على نفسه من الله، عظيم الخشية من عقابه.
فهو حين ثقل عليه مرض الموت جاءه بعض الصحابة في جوف الليل، فقال: أي ساعة هذه؟.
فقالوا: نحن قريب من الصبح.
فقال: أعوذ بالله من صباح يفضي (٢٦) بي إلى النار … أعوذ بالله من صباح يفضي بي إلى النار … ثم قال: أجئتم بكفن؟.
قالوا: نعم.
قال: لا تغالوا بالأكفان؛ فإن يكن لي عند الله خير بدلت به خيرا، وإن كانت الأخرى سلب مني …
ثم جعل يقول: اللهم إنك تعلم أني كنت أحب الفقر على الغنى، وأحب الذلة على العز، وأحب الموت على الحياة.
ثم قال وروحه تفيض: حبيب جاء على شوق، لا أفلح من ندم …
رحم الله حذيفة بن اليمان فقد كان طرازا فريدا من الناس (*).
_________
(١) أصاب دما: قتل قتيلا.
(٢) يتسقط أخباره: يتتبعها ويبحث عنها.
(٣) طاعنين في السن: متقدمين في السن.
(٤) حمي وطيس المعركة: اشتدت.
(٥) إلا بمقدار ما يظمأ الحمار: كناية عن قصر المدة لأن الحمار قليل الصبر على العطش.
(٦) هامة اليوم: كناية عن أنهم يموتون قريبا.
(٧) تعاورته: تداولته وتتابعت عليه.
(٨) الدية: ما يؤدى لأهل القتيل.
(٩) سبر غوره: نفذ إلى أعماقه واختبره.
(١٠) البديهة: سرعة الفهم لأول وهلة.
(١١) المنافق: هو من ستر الكفر بقلبه وأظهر الإيمان بلسانه.
(١٢) أشياعهم: أنصارهم.
(١٣) أفضى النبي لحذيفة: أسر إليه وخبره.
(١٤) درء خطرهم: دفع خطرهم.
(١٥) غزوة الخندق: كانت سنة ٥ للهجرة وهي غزوة الأحزاب.
(١٦) الضنك: الضيق والشدة.
(١٧) بلغت القلوب الحناجر: كناية عن شدة الضيق.
(١٨) الريح الصرصر: الريح الشديدة التي تصر صرا.
(١٩) تكفأ: تقلب.
(٢٠) قبل أن يبرم أمرا: قبل أن يتخذ قرارا.
(٢١) المرط: كل ثوب غير مخيط من مئزر ونحوه.
(٢٢) لا تحدثن: لا تفعلن.
(٢٣) رواحلنا: دوابنا.
(٢٤) بنو قريظة: قبيلة من قبائل يهود المدينة.
(٢٥) نهاوند والدينور وهمذان والري: مدن عظيمة في بلاد فارس.
(٢٦) يفضي بي: يوصلني.
مختارات