20. أسيد بن الخضير
أسيد بن الخضير
"تلك الملائكة كانت تستمع إليك يا أسيد … "
[محمد رسول الله]
قدم الفتى المكي مصعب بن عمير إلى "يثرب" (١)، في أول بعثة تبشيرية عرفها تاريخ الإسلام.
فنزل على أسعد بن زرارة (٢) أحد أشراف الخزرج، واتخذ من داره مقاما لنفسه، ومنطلقا لبث دعوته إلى الله، والتبشير بنبيه محمد رسول الله ﷺ.
وأخذ أبناء "يثرب" يقبلون على مجالس الداعية الشاب مصعب بن عمير إقبالا كبيرا.
وكان يغريهم (٣) به عذوبة حديثه، ووضوح حجته، ورقة شمائله (٤)، ووضاءة الإيمان التي تشرق من وجهه القسيم الوسيم (٥).
وكان يجذبهم إليه شيء آخر فوق ذلك كله، هو هذا القرآن الذي كان يتلو عليهم بين الفينة والفينة (٦) بعضا من آياته البينات؛ بصوته الشجي الرحيم، ونبراته الحلوة الآسرة، فيستلين به القلوب القاسية، ويستدر الدموع العاصية، فلا ينفض (٧) المجلس من مجالسه إلا عن أناس أسلموا وانضموا إلى كتائب الإيمان.
* * *
وفي ذات يوم، خرج أسعد بن زرارة بضيفه الداعية مصعب بن عمير؛ ليلقى جماعة من بني "عبد الأشهل"، ويعرض عليهم الإسلام، فدخلا بستانا من بساتين بني "عبد الأشهل"، وجلسا عند بئرها العذبة في ظلال النخيل.
فاجتمع على مصعب جماعة قد أسلموا وآخرون يريدون أن يسمعوا، فانطلق يدعو ويبشر، والناس إليه منصتون، وبروعة حديثه مأخوذون.
* * *
فجاء من أخبر أسيد بن الحضير، وسعد بن معاذ (٨) - وكانا سيدي "الأوس" (٩) - بأن الداعية المكي قد نزل قريبا من ديارهما، وأن الذي جرأه على ذلك أسعد بن زرارة.
فقال سعد بن معاذ لأسيد بن الحضير:
لا أبا لك (١٠) يا أسيد، انطلق إلى هذا الفتى المكي الذي جاء إلى بيوتنا ليغري (١١) ضعفاءنا، ويسفه آلهتنا، وازجره (١٢)، وحذره من أن يطأ ديارنا بعد اليوم.
ثم أردف يقول: ولولا أنه في ضيافة ابن خالتي أسعد بن زرارة، وأنه يمشي في حمايته لكفيتك ذلك.
* * *
أخذ أسيد حربته، ومضى نحو البستان، فلما رآه أسعد بن زرارة مقبلا قال لمصعب:
ويحك يا مصعب، هذا سيد قومه، وأرجحهم عقلا، وأكملهم كمالا: أسيد بن الحضير.
فإن يسلم تبعه في إسلامه خلق كثير، فاصدق الله فيه، وأحسن التأتي (١٣) له.
* * *
وقف أسيد بن الحضير على الجمع، والتفت إلى مصعب وصاحبه وقال:
ما جاء بكما إلى ديارنا، وأغراكما بضعفائنا؟! … اعتزلا (١٤) هذا الحي إن كانت لكما بنفسيكما حاجة (١٥).
فالتفت مصعب إلى أسيد بوجهه المشرق بنور الإيمان، وخاطبه بلهجته الصادقة الآسرة وقال له:
يا سيد قومه، هل لك في خير من ذلك؟.
قال: وما هو؟.
قال: تجلس إلينا وتسمع منا، فإن رضيت ما قلناه قبلته، وإن لم ترضه تحولنا عنكم ولم نعد إليكم.
فقال أسيد: لقد أنصفت، وركز رمحه في الأرض وجلس.
فأقبل عليه مصعب يذكر له حقيقة الإسلام، ويقرأ عليه شيئا من آيات القرآن؛ فانبسطت أساريره وأشرق وجهه وقال:
ما أحسن هذا الذي تقول، وما أجل ذلك الذي تتلو!!!
كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في الإسلام؟!.
فقال له مصعب:
تغتسل وتطهر ثيابك، وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتصلي ركعتين.
فقام إلى البئر فتطهر بمائها، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وصلى ركعتين.
فانضم في ذلك اليوم إلى كتائب الإسلام فارس من فرسان العرب المرموقين (١٦)، وسيد من سادات "الأوس" المعدودين.
كان يلقبه قومه بالكامل؛ لرجاحة عقله، ونبالة أصله، ولأنه ملك السيف والقلم، إذ كان بالإضافة إلى فروسيته ودقة رميه، قارئا كاتبا في مجتمع ندر فيه من يقرأ ويكتب.
وقد كان إسلامه سببا في إسلام سعد بن معاذ.
وكان إسلامهما معا سببا في أن تسلم جموع غفيرة (١٧) من "الأوس".
وأن تصبح المدينة بعد ذلك مهاجرا (١٨) لرسول الله ﷺ، وموئلا (١٩) وقاعدة لدولة الإسلام العظمى.
* * *
أولع (٢٠) أسيد بن الحضير بالقرآن - منذ سمعه من مصعب بن عمير - ولع
المحب بحبيبه، وأقبل عليه إقبال الظامئ على المورد العذب في اليوم القائظ، وجعله شغله الشاغل.
فكان لا يرى إلا مجاهدا غازيا في سبيل الله، أو عاكفا يتلو كتاب الله.
وكان رخيم الصوت، مبين النطق، مشرق الأداء، تطيب له قراءة القرآن أكثر ما تطيب إذا سكن الليل، ونامت العيون، وصفت النفوس.
وكان الصحابة الكرام يتحينون (٢١) أوقات قراءته، ويتسابقون إلى سما سماع تلاوته.
فيا سعد من يتاح له أن يسمع القرآن منه رطبا طريا كما أنزل على محمد ﷺ.
وقد استعذب أهل السماء تلاوته كما استعذبها أهل الأرض.
ففي جوف ليلة من الليالي كان أسيد بن الحضير جالسا في مربده (٢٢)، وابنه "يحيى" نائم إلى جانبه، وفرسه التي أعدها للجهاد في سبيل الله مرتبطة.
غير بعيد عنه
وكان الليل وادعا ساجيا (٢٣)، وأديم السماء رائقا صافيا، وعيون النجوم ترمق الأرض الهاجعة بحنان وعطف.
فتاقت (٢٤) نفس أسيد بن الحضير لأن يعطر هذه الأجواء الندية بطيوب القرآن، فانطلق يتلو بصوته الرخيم الحنون:
﴿الم (١) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (٢) الذين يؤمنون
بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (٣) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون﴾ (٢٥).
فإذا به يسمع فرسه وقد جالت (٢٦) جولة كادت تقطع بسببها رباطها، فسكت؛ فسكنت الفرس وقرت.
فعاد يقرأ:
﴿أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون﴾ (٢٧).
فجالت الفرس جولة أشد من تلك وأقوى.
فسكت …
فسكنت …
وكرر ذلك مرارا، فكان إذا قرأ أجفلت (٢٨) الفرس وهاجت، وإذا سكت سكنت وقرت.
فخاف على ابنه "يحيى" أن تطأه، فمضى إليه ليوقظه، وهنا حانت منه التفاتة إلى السماء، فرأى غمامة كالمظلة لم تر العين أروع ولا أبهى منها قط وقد علق بها أمثال المصابيح، فملأت الآفاق ضياء وسناء، وهي تصعد إلى الأعلى حتى غابت عن ناظريه.
فلما أصبح مضى إلى رسول الله ﷺ، ووقص عليه خبر ما رأى، فقال له النبي:
(تلك الملائكة كانت تستمع لك يا أسيد …
ولو أنك مضيت في قراءتك لراها الناس ولم تستتر منهم) (٢٩).
* * *
وكما أولع أسيد بن الحضير بكتاب الله فقد أولع برسول الله ﷺ، فكان - كما حدث عن نفسه - أصفى ما يكون صفاء، وأشد ما يكون شفافية وإيمانا حين يقرأ القرآن أو يسمعه.
وحين ينظر إلى رسول الله ﷺ، وهو يخطب أو يحدث.
وكان كثيرا ما يتمنى أن يمس جسده جسد رسول الله ﷺ، وأن يكب عليه لاثما مقبلا.
وقد أتيح (٣٠) له ذلك ذات مرة.
ففي ذات يوم كان أسيد يطرف القوم بملحه (٣١)، فغمزه (٣٢) رسول الله صلوات الله عليه في خاصرته بيده، كأنه يستحسن ما يقول.
فقال أسيد: أوجعتني يا رسول الله.
فقال: (اقتص مني يا أسيد).
فقال أسيد: إن عليك فميصا ولم يكن علي قميص حين غمرتني.
فرفع رسول الله ﷺ قميصه عن جسده، فاحتضنه أسيد، وجعل يقبل ما بين إبطه وخاصرته وهو يقول:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنها لبغية كنت أتمناها منذ عرفتك، وقد بلغتها الآن.
* * *
وقد كان الرسول صلوات الله عليه يبادل أسيدا حبا بحب، ويحفظ له سابقته في الإسلام، وذوده (٣٣) عنه يوم "أحد" حتى إنه طعن سبع طعنات مميتات في ذلك اليوم.
وكان يعرف له قدره ومنزلته في قومه، فإذا شفع في أحد منهم شفعه فيه …
حدث أسيد قال: جئت إلى رسول الله ﷺ فذكرت له أهل بيت من الأنصار فيهم محاويج (٣٤)، وجل أهل ذلك البيت نسوة، فقال:
(لقد جئتنا يا أسيد بعد أن أنفقنا ما بأيدينا، فإذا سمعت بشيء قد جاءنا فاذكر لنا أهل ذلك البيت).
فجاءه بعد ذلك مال من "خيبر" فقسمه بين المسلمين فأعطى الأنصار وأجزل (٣٥)، وأعطى أهل ذلك البيت وأجزل، فقلت له:
جزاك الله عنهم - يا نبي الله - خيرا.
فقال: (وأنتم معشر الأنصار جزاكم الله أطيب الجزاء، فإنكم - ما علمت (٣٦) - أعفة صبر، وإنكم ستلقون أثرة بعدي (٣٧)، فاصبروا حتى تلقوني، وموعدكم الحوض) (٣٨).
قال أسيد: فلما آلت الخلافة إلى عمر بن الخطاب ﵁ قسم بين المسلمين مالا ومتاعا، فبعث إلي بحلة فاستصغرتها …
فبينا أنا في المسجد إذ مر بي شاب من قريش عليه حلة سابغة (٣٩) من تلك الحلل التي أرسل إلي منها عمر، وهو يجرها على الأرض جرا؛ فذكرت لمن معي قول رسول الله ﷺ:
(إنكم ستلقون أثرة من بعدي)، وقلت: صدق رسول الله ﷺ.
فانطلق رجل إلى عمر وأخبره بما قلت، فجاءني مسرعا وأنا أصلي فقال:
صل يا أسيد.
فلما قضيت صلاتي أقبل علي وقال: ماذا قلت؟.
فأخبرته بما رأيت وبما قلت.
فقال: عفا الله عنك، تلك حلة بعثت بها إلى فلان، وهو أنصاري عقبي بدري أحدي (٤٠)، فشراها منه هذا الفتى القرشي ولبسها …
أفتظن أن هذا الذي أخبر به رسول الله ﷺ يكون في زماني؟!!.
فقال أسيد: والله يا أمير المؤمنين لقد ظننت أن ذلك لا يكون في زمانك.
* * *
لم يعش أسيد بن الحضير بعد ذلك طويلا، فقد اختاره الله إلى جواره في عهد عمر ﵁ وعن عمر.
فوجد أن عليه دينا مقداره أربعة آلاف درهم، فهم ورثته ببيع أرض له لوفاء ديونه.
فلما عرف عمر ذلك قال:
لا أترك بني أخي أسيد عالة على الناس.
ثم كلم الغرماء (٤١) فرضوا بأن يشتروا منه ثمر الأرض أربع سنين، كل سنة بألف (٥).
_________
(١) يثرب: المدينة المنورة.
(٢) أسعد بن زرارة النجاري الأنصاري: أحد الشجعان الأشراف في الجاهلية والإسلام، قدم على الرسول ﷺ في مكة فأسلم هو وذكوان بن عبد قيس وعادا إلى المدينة، فكانا أول من قدمها بالإسلام؛ مات قبل وقعة بدر ودفن في البقيع.
(٣) يغريهم به: يولعهم به.
(٤) رقة شمائله: رقة طباعه.
(٥) القسيم الوسيم: الجميل الحسن.
(٦) بين الفينة والفينة: بين الحين والحين.
(٧) ينفض المجلس: يتفرق المجلس.
(٨) سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس الأوسي الأنصاري: صحابي من الأبطال، حمل لواء قومه يوم بدر وشهد أحدا فكان ممن ثبت فيها، ومات متأثرا بجرحه في يوم الخندق.
(٩) الأوس: قبيلة يمانية ارتحلت هي وأختها "الخزرج" إلى المدينة بعد خراب سد مأرب، واستقرت فيها.
(١٠) لا أبا لك: كلمة تقال في الذم والمدح، والمراد بها هنا المدح.
(١١) ليغري ضعفاءنا: ليحض ضعفاءنا على الإسلام ويزينه لهم.
(١٢) ازجره: امنعه.
(١٣) أحسن التأتي له: أحسن عرض الأمر عليه.
(١٤) اعتزلا هذا الحي: ابتعدا عنه.
(١٥) إن كانت لكما بنفسيكما حاجة: كناية عن التهديد بالقتل.
(١٦) المرموقين: الذين ينظر إليهم إعجابا بهم.
(١٧) غفيرة: كثيرة وفيرة.
(١٨) مهاجرا لرسول الله: مكانا لهجرته.
(١٩) موئلا: ملاذا وملجأ.
(٢٠) أولع بالقرآن: أحبه حبا شديدا وتعلق به.
(٢١) يتحينون أوقات قراءته: يترقبون أوقات قراءته ويترصدونها.
(٢٢) المربد: فضاء وراء البيت.
(٢٣) ساجيا: ساكنا.
(٢٤) تاقت نفسه: رغبت واشتاقت.
(٢٥) سورة البقرة: من الآية ١ - ٤.
(٢٦) جالت جولة: دارت دورة.
(٢٧) سورة البقرة: آية ٥.
(٢٨) أجفلت الفرس: نفرت.
(٢٩) ورد أصل هذا الخبر في البخاري ومسلم.
(٣٠) أتيح له: يسر له ومكن منه.
(٣١) بملحه: بطرائفه ونكته.
(٣٢) غمزه بيده: طعنه بها.
(٣٣) ذوده عنه: دفاعه عنه.
(٣٤) محاويج: فقراء محتاجون.
(٣٥) أجزل: أكثر.
(٣٦) ما علمت: طول مدة معرفتي إياكم.
(٣٧) إنكم ستلقون أثرة بعدي: أي إن الناس سيستأثرون بالخير من دونكم.
(٣٨) انظر أصل هذا الخبر في البخاري ومسلم.
(٣٩) حلة سابغة: حلة طويلة واسعة.
(٤٠) عقبي: نسبة إلى العقبة حيث بايع الأنصار الرسول ﷺ تلك البيعة المشهورة، وبدري: نسبة إلى موقعة بدر، وأحدي: نسبة إلى موقعة أحد.
(٤١) الغرماء: الدائنون.
مختارات