فقه أحكام الأسماء والصفات (١١)
ولا يتم الإيمان بأسماء الله إلا بثلاثة أمور:
الإيمان بالاسم اسماً لله.. والإيمان بما تضمنه من صفة.. والإيمان بما تضمنه من أثر وحكم.
فالعليم مثلاً من أسماء الله، فنؤمن بالعليم اسماً لله، ونؤمن بما تضمنه من صفة العلم، ونؤمن بالحكم المترتب على ذلك، وهو أنه يعلم كل شيء.
ومن أسماء الله عزَّ وجلَّ ما يختص به وحده مثل الله، الرحمن، رب العالمين ونحوها.
ومنها ما لا يختص به وحده فيسمى به هو، ويسمى به غيره كما قال سبحانه: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢)} [الإنسان: ٢].
وقال سبحانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)}... [التوبة: ١٢٨].
وأسماء الله عزَّ وجلَّ ثلاثة أقسام:
الأول: ما سمى الله به نفسه، وأنزله في كتابه، فتعرف به إلى عباده.
الثاني: ما سمى الله به نفسه، وأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه.
الثالث: ما استأثر الله به وانفرد بعلمه من أسمائه وصفاته، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: «ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شيءاً لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي» متفق عليه (١).
والله تبارك وتعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)} [الحديد: ٣].
فهو سبحانه الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه.
أحاطت أوليته وآخريته بالزمان كله، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بالمكان كله، فهو سبحانه محيط بكل ظاهر وباطن، كما أنه محيط بالأوائل والأواخر.
وأسماء الله الحسنى تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبباتها.
فاسم (السميع والبصير) يقتضي مسموعاً ومبصراً.
واسم (الرزاق والرحمن) يقتضي مرزوقاً ومرحوماً.
واسم (التواب والغفور) يقتضي وجود عاص يتوب عليه، ومسيء يغفر له، وهكذا في بقية الأسماء.
ولا بدَّ من ظهور أثر الأسماء في العالم:
فإذا فرضنا أن الحيوان بجملته معدوماً، فمن يرزق الرازق سبحانه؟
وإذا كانت المعصية والخطيئة منتفية من العالم، فلمن يغفر الغفور؟ وعمن يعفو العفو؟ وعلى من يتوب التواب؟.
وإذا فرضنا الفاقات كلها قد سدت، والعبيد أغنياء معافون، فأين السؤال والتضرع؟، وأين الإجابة وشهود الفضل والمنة؟
والله عزَّ وجلَّ أجود الأجودين.. وأكرم الأكرمين.. وأرحم الراحمين.. سبقت رحمته غضبه.. وكتب على نفسه الرحمة.. يحب الإحسان والجود، والعطاء والبر.
فالفضل كله بيده، والخير كله منه، والجود كله له، وأحب ما إليه أن يجود على عباده، ويوسعهم فضلاً، ويغمرهم إحساناً وجوداً، ويتم عليهم نعمته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه، فهو سبحانه الجواد لذاته، وجود كل جواد من جوده.
ومحبته سبحانه للجود والإعطاء والإحسان فوق ما يدور ببال الخلق.. وفرحه سبحانه بعطائه وجوده أشد من فرح الآخذ بما يعطاه.. ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه عن لذة المعطي وسروره وابتهاجه.
والله تبارك وتعالى جميل في ذاته، وجميل في أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو جل جلاله الجواد لذاته، كما أنه الحي لذاته، وجوده العالي من لوازم ذاته.
والعفو أحب إليه من الانتقام.. والرحمة أحب إليه من العقوبة.. والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع.
خلق الإنسان ومن عليه بالنعم، وفضله على غيره، وأنزل إليه كتبه، وأرسل إليه رسله، واعتنى به ولم يهمله، فهو يتقلب في نعمه في جميع أحواله.
فإذا تعرض العبد لغضب ربه، وارتكب مساخطه وما يكرهه، وأبعد منه، ووالى عدوه وتحيز إليه، وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه، فقد استدعى من الجواد الكريم الرحيم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر، وتعرض لإسخاطه وإغضابه وانتقامه، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه.
وبينما هو كذلك آبق شارد عن سيده ومولاه، منهمك في موافقة عدوه، إذ عرضت له فكرة، فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه، وعرضه عليه، وإن لم يقدم عليه بنفسه، قدم به عليه على أسوإِ الأحوال.
ففر إلى سيده من بلد عدوه، ووقف ببابه خاشعاً متضرعاً يتملق سيده، ويسترحمه ويستعطفه، ويعتذر إليه، فعلم سيده ما في قلبه فرضي عنه ورحمه، وأبدله بالعقوبة عفواً، وبالمنع عطاءً، وبالمؤاخذة حلماً، وبالبطش رحمة.
فلا تسأل عن فرح ربه به، وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعاً واختياراً، ففتح له طريق البر والإحسان والجود، والتي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٢٨)} [النساء: ٢٧، ٢٨].
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٤٧١٢)، ومسلم برقم (١٩٤) واللفظ له.
مختارات