فقه صفات الله وأفعاله (٣)
وهو سبحانه الكريم الرحيم، الذي بعث الرسل إلى الأمم بالدين، وهو الذي يبعث الأرواح والأجساد بعد الموت ليوم النشور، وهو الذي يبعث من في القبور، والذي بعث رسله للهداية، وبعث عباده إلى الطاعة، وأرسل الشياطين للغواية، وابتلى هؤلاء بهؤلاء.
وهو سبحانه الجامع للفضائل كلها، فله الأسماء الحسنى، والصفات العلا، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وهو سبحانه الجامع حقاً بين المتفرقات والمتباينات، كما جمع بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، في أمزجة الحيوانات، وهي متنافرات متعاندات، فهو سبحانه الجامع بكل اعتبار.
فسبحان القادر الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، جمع بين الماء والأرض فجاء النبات، وجمع بين الذكر والأنثى فجاء الأولاد: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧)} [هود: ١٠٧].
وهو سبحانه الجامع الذي يجمع قلوب عباده على الحق، ويجمع الناس يوم القيامة للحساب، ويجمع الرسل ويسألهم عما كلفهم به، ويجمع المؤمنين في الجنة، ويجمع الكفار والمنافقين في النار كما قال سبحانه: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩)}.
.
[آل عمران: ٩].
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (١٤٠)} [النساء: ١٤٠].
وهو سبحانه سريع الحساب، وسريع العقاب، وشديد العقاب.
يعاقب الكافرين لكفرهم، والعصاة لعصيانهم، فيعاجل من شاء بعقوبته في الدنيا، ويؤخر عقوبة من شاء إلى الآخرة، ويعفو عمن يشاء: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)} [الأنعام: ١٦٥].
وعقاب الله تعالى للخلق: ما يكون من جزاء على فعل المذموم.
ففي الدنيا يعاقب الله من شاء بالصواعق المحرقة، والزلازل المدمرة، والرياح المهلكة، والمياه المغرقة، والفتن المهلكة، وغير ذلك مما شاء الله أن يعاقب به.
وهذا العقاب مهما حل بكافر كان نقمة كما قال سبحانه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)} [الزخرف: ٥٥].
ومهما حل العقاب بعصاة المؤمنين كان رحمة لهم، وكفارة لذنوبهم، وطهارة لقلوبهم إن تابوا وأنابوا.
وما أصاب من هذه المحن الأنبياء والأولياء والصالحين المطهرين من الأوزار، فليس ذلك بعقاب، إذ العقاب على جناية، ومن حماه الله من الكفر والفسوق والعصيان، وحبب إليه الإيمان والأعمال الصالحة، فهو مهما امتحنه بمحنة من الضراء والبأساء، أو أصابه بما أصابه من البلاء، فذلك إكرام من الله، يزيده به تطهراً وتنويراً، ويقربه منه، ويرفع به درجاته.
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً؟ قَالَ: «أجَلْ، إِنِّي أوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُمْ».
قُلْتُ: ذَلِكَ بأنَّ لَكَ أجْرَيْنِ؟ قَالَ: «أجَلْ، ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أذًىً، شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلا كَفَّرَ الله بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَ» متفق عليه (١).
وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: من هم أشد الناس بلاء يا رسول الله؟ فقال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».
أخرجه الترمذي وابن ماجه (٢).
وأما العقاب في الآخرة فيكون عند قبض الروح، وفي القبر، وفي الموقف، وفي روعات الموقف والحساب والصراط، وغير ذلك من الشدائد، وعقاب بعض الخلق أشد من بعض بحسب أعمالهم، وغلظ كفرهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (١٤٥)} [النساء: ١٤٥].
ويعذب الله عصاة الموحدين في النار، ثم يخرجون منها إلى الجنة، ويخلد فيها الكفار والمنافقون.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٥٦٤٨)، واللفظ له، ومسلم برقم (٢٥٧١).
(١) حسن: صحيح، أخرجه الترمذي برقم (٢٣٩٨)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (١٩٥٦)وأخرجه ابن ماجه برقم (٤٠٢٣)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (٣٢٤٩).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (١٤٣).
مختارات