لطائف بلاغية في آية الكرسي
سنمضى قُدُما مع آية الكرسي، وهي أعظم آية في كتاب الله مخصصين هذه السطور لإشاراتها البلاغية:
أول ما يطالعك من بلاغة الآية الكريمة: روعة استهلالها، فقد بدأت بداية هي خير ما قاله النبيون (كلمة التوحيد) بعد اسمه ذي الجلال والإكرام، ثم إذا ختمت الآية وجدت عظمة الخاتمة؛ إذ العلو والعظمة: هما الصفتان المناسبتان لخالق السموات والأرض ومالكهما.
والأمر الثاني الذي يشنف السمع من القراءة الأولى، هو هذا الانسجام المطرب المعجب بين الحروف، فأكثر الحروف فيها هو اللام ثم الميم ثم حروف المد وحروف الحلق، وهذه المذكورة هي أعذب الحروف مخارج وأكثرها شيوعا في الكلام الفصيح البليغ. أما الحروف ذات المخارج المضخمة كحروف الاستعلاء وهي: الخاء، والصاد، والضاد، والظاء، والغين، والطاء، والقاف، فإن أي حرفٍ منها إذا كررته مرتين بدون فاصل شعرت برهق كبير، كما في كلمة: نقاخ، بمعنى عذب، وفي كلمة: يقق بمعنى شديد البياض، وعقنقل بمعنى كثيب، وقد وردت بعض هذه الحروف في الآية ولكن نلاحظ أنها وردت في كلمات قليلة، وقد انسجمت مع حروفها انسجاما عجيبا، فترى الحرف منها واقعا بين حرفين كلاهما بعيد المخرج عن مخارج حروف الاستعلاء، مثل كلمة: القيوم التي وقعت فيها القاف بين اللام والياء، وكلاهما بعيد المخرج عن مخرج القاف، ومثلها: الأرض، وكلمة خلقهم، ويحيطون، وحفظهما، والعظيم، فإن حرف الاستعلاء في هذه الكلمات سهل النطق جدا؛ لأن الحروف المحيطة به بعيدة المخارج عن مخرجه.
أما الأمر الثالث فهو بلاغة الإيجاز المعجز في كل مقطع من مقاطعها، بل إن بعض الكلمات لها ظلال ممتدة، حتى إن الكلمة الواحدة تحتاج إلى عدة صفحات لشرح مدلولها وظلالها، مثل كلمة: القيوم، ومعناها القائم على حفظ كل مخلوق في السموات والأرض وما بينهما والذي لا يقوم أي مخلوق إلا بقدرته، ومثل كلمة: الحي، إذ الحياة التي يتصف بها الله جلّ وعلا، لا يحدها زمان ولا مكان، فلا بداية لها ولا نهاية ولا يعتريها زوال ولا عدم، أما العبارات الموجزة أو المقاطع، فجميع مقاطع الآية غاية في الإيجاز البليغ.
﴿اللهُ لَا إِلَهَ إلَّا هُوَ﴾: كلمات قلائل قررت مبدأ التوحيد الخالص المصفى من جميع لوثات الشرك، لقد أغنت هذه الكلمات عن نفي كل أنواع الشرك في الديانات القديمة، وجميع أنواع الآلهة من نجوم وحيوانات وشمس، وملائكة ونار وحجارة وآلهة وهميين يتصارعون في خرافات!
﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾: إيجاز عن كناية عظيمة مترامية أطراف المعنى؛ فيهما إذ النعاس والنوم يتعارضان مع تدبير السموات والأرض، وكل ما فيهما من خلائق، وقد روى أن موسى عليه السلام سأل: هل ينام ربنا؟ فأراد الله أن يعلمه الجواب عملياً فأمره أن يحمل قارورتين، في كل يد قارورة ثم سلط عليه النوم فصحا وقد اصطدمت القارورتان إحداهما بالأخرى، ففهم أن الله جل وعلا لا ينعس ولا ينام، وإلا لاصطدمت السموات بالأرض.
﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾: إيجاز شمل كل مخلوقات الله. ثم في تكرار كلمة: ما، تأكيد لشمولية الملك.
ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي علم ما كان من القضاء والقدر والحوادث، كما يعلم ما هو كائن للخلائق إلى الأبد، وشرح هذا العلم المطلق يطول ويتطلب مجلدات، وفي تكرار كلمة: ما، توكيد للعلم عظمته وشموليته.
ومن أبلغ الإشارات البيانية في الآية الكريمة هذا الاستفهام البديع في قوله تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ﴾؟؟ وهو استفهام يحمل معنى النفي والإنكار والاستحالة، والعبارة كناية عن عدة صفات من صفات الله العلا، منها: المهابة التي لا يتحرك معها لسان إزاء عظمتها، ومنها انفراد الله جل وعلا بالشفاعة، أو العقوبة، ومنها: العلم المحيط الدقيق بأعمال العباد، وهو علم يجعل الشفاعة لا تمنح إلا لمن ارتضى رب العباد، ومنها القهر الإلهي من فوق كل الشركاء الذين عبدهم الكفار ليشفعوا لهم ويقربوهم إلى الله.
وفي قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ تعبير عن الكنايات المدهشة التي تعجز العقل أن يحيط بمراميها كاستواء الله على العرش ونزوله في الثلث الأخير من الليل ووضع قدمه في النار يوم القيامة حتى تقول: قط قط... إلى أخر ذلك، وإذ ذاك لا يملك العقل إلا أن يقول ما قال السلف: الاستواء حق والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، ومثل هذه الكناية قوله تعالى في سورة الزمر: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر:67].
ومن المواضع البلاغية أن كلمتي العلى والعظيم جاءتا معرفتين، والتعريف في مثل هذه العبارة يفيد القصر أو الحصر، كما تقول: أخوك الناجح فتعنى أنه الوحيد، وأن النجاح مقصور عليه، ولو قلت: أخوك ناجح بالتنكير لما أفاد حصراً ولا قصرا؛ ولهذا جاء الاسمان الكريمان معرفين ليكون المعنى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ أي المتفرد بالعلو والعظمة، فالعلو والعظمة قصر عليه سبحانه، لا عظيم ينهض لعظمته، ولا عالي يرقى لعلوه.
أسأل الله إيمانا لا يشوبه شك، وتسليما لا يخالطه تساؤل، وعبادة متقبلة يزكيها الإخلاص والتقوى.
* المصدر: من لطائف التفسير: أحمد عقيلان.
مختارات