فوائد من كتاب إيقاظ أولي الهمم العالية
قال سفيان الثوري: لا يجتمع في هذا الزمان لأحد مال إلا وعنده خمس خصال: طول الأمل، وحرص غالب، وشح شديد، وقلة الورع، ونسيان الآخرة.
ستة أشياء هن غريبةٌ في ستة مواضع: المسجدُ غريب بين ناس لا يصلون فيه، والمصحفُ غريبٌ في منزل قوم لا يقرءون فيه، والقرآن غريب في جوف الفاسق، والمرأة المسلمة غريبة في يد رجل ظالم سيئ الخلق، والرجلُ المسلمُ الصالحُ غريبٌ في يد امرأةٍ رديئةٍ سيئة الخلق، والعالم غريب بين قوم لا يستمعُون إليه.
قال مالك بن دينار: عجبًا لمن يعلم أن الموت مصيره والقبر مورده، كيف تقر بالدنيا عينه، وكيف يطيب فيها عيشه، ثم يبكي حتى يسقط مغشيًا عليه.
إن الله عز وجل إذا أحب عبدًا انتقصه من دنياه وكفَّ عنه ضيعته، ويقول: لا تبرح من بين يديَّ، قال: فهو متفرغٌ لخدمة ربه عز وجل. وإذا أبغض عبدًا دفع في نحره شيئًا من الدنيا، ويقول: أعزب من بين يدي فلا أراك بين يدي، فتراه معلقُ القلب بأرض كذا وبتجارة كذا.
عن أبي عبدالله البراثي أنه كان يقول: حملتنا المطامعُ على أسوأ الصنائع نذل لمن لا يقدرُ لنا على ضررٍ ولا على نفعٍ، ونخضعُ لمن لا يملكُ لنا رزقًا ولا حياةً ولا موتًا ولا نشورًا، فكيف أزعمُ أني أعرف ربي حقَّ معرفته وأنا أصنع ذلك، هيهات هيهات.
قال الربيع: نصب المتقون الوعيد من الله أمامهم فنظرت إليه قلوبهم بتصديق وتحقيق، فهم والله في الدنيا منغصون، ووقفوا ثواب الأعمال الصالحة خلف ذلك.
إن لله عبادًا أخمصوا له البُطون عن مطاعم الحرام وغضُّوا له الجُفون عن مناظر الآثام. وأهملُوا له العيون لما اختلط عليهم الظلام رجاءَ أن يُنير قُلُوبهم إذا تضمنتهم الأرضُ بين أطباقهم فهُم في الدنيا مُكتئِبون وإلى الآخرة مُتطلعون. فهم الذين لا راحةَ لهم في الدنيا وهم الذين تقرُّ أعينُهم بطلعةِ ملك الموت.
لم ينل المطيعون ما نالوا من حُلولِ الجنان ورضا الرحمن إلا بتعب الأبدان لله والقيام لله بحقه في المنشط والمكرَه.
قال عمر بن عبدالعزيز أهل القبور محبُوسُون ندموا على ما قدموا، وأهل الدور مُنتظرون يقتتلُون على ما عليه أهل القبور مُتندمُون. فلا هؤلاء إلى هؤلاء يرجعون، ولا هؤلاء بهؤلاء معتبرون.
أيُها العبد، حاسب نفسك في خلوتك وتفكر في سرعة إنقراض مُدتك، واعمل بجد واجتهاد في زمان فراغك لوقت حاجتك وشدتك. وتدبَّر قبل الفعل ما يُملى في صحيفتك وانظر هل نفسك معك على الشيطان والهوى والدنيا أو عليك في مجاهدتك. لقد سَعِدَ من حاسبها وفاز من حاربها وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها وكلما قصرت أو ونَتْ عاتبها وكلما توقَّفَتْ جذبها.
قال عمر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وطالبوها بالصدق في الأعمال قبل أن تطالبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا وتزينوا للعرض الأكبر
من فوائد ذكر الموت أنه يورث الاستشعار بالانزعاج عن هذه الدار الفانية المملوءة بالأكدار والأنكاد والهموم والغموم. ويحثُك ذكر الموت على التوجُه في كل لحظةٍ إلى الآخرة بالاستعداد لها ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيقٍ وسعةٍ ونعمةٍ ومحْنةٍ. فإن كان في حال ضيقةٍ ومحنةٍ فذكر الموت سهَّلَ عليه بعض ما هو فيه إذ لا مُصيبة إلا والموت أعظم منها وهو ذائقه ولابُد.
الدنيا لا تذم لذاتها وكيف يذم ما منَّ الله به على عباده وما هو ضرورة في بقاء الآدمي وسبب في إعانته على تحصيل العلم والعبادة من مطعم ومشرب وملبس ومسجد يُصلى فيه، وإنما المذموم أخذ الشيء من غير حله أو تناوله على وجه السرف لا على مقدار الحاجة، ويُصرفُ النفس فيه بُمقتضى رُعوناتها لا بإذن الشرع فالعاقل يجعلها مطية للآخرة فينفقها في سبيل الله في المشاريع الدينية من طباعة مصاحف كتب دينية وعمارة مساجد وبذل للفقراء الذين لا موارد لهم.
تأهب فإنك مُقبل على كربةٍ لا كالكرب، تطلب النجاة من غير باب الطَّلب، وتقفُ في الصلاة وإن صلاتك لعجبْ، الجسْمُ حاضرٌ والقلبُ في شُعب. الجسدُ بالعراق والقلبُ في حلب، الفهم أعجميُ و اللفظ لفظ العرب، وهذا يدل على أن حُبَّ الدُنيا والهوى على قلبك قد غلب.
قال أحد العلماء: وجدت الدنيا شيئين، فشيء منها هو لي فلن أعجله قبل أجله ولو طلبته بقوة السموات والأرض. وشيءٌ منها هو لغير فلم أنلهُ فيما مضى ولا أرجوه فيما بقي يُمنعُ الذي لي من غيري كما يمنع الذي لغيري مني، ففي أي هذين أفني عمري. ووجدت ما أعطيتُ من الدنيا شيئين، فشيءٌ يأتي أجله قبل أجلي فأغلبُ عليه، وشيء يأتي أجلي قبل أجله فأموتُ وأخلفُه لمن بعدي ففي أي هذين أعصي ربي عز وجل.
عن عمر بن الخطاب قال: لو نادَ مُنادٍ من السماء أيها الناس، إنكم داخلون الجنة إلا رجلاً واحدًا لخفتُ أن أكون ذلك الواحد. ولو ناد مُنادٍ أيها الناس، إنكم داخلون النار إلا رجُلاً واحدًا لرجوتُ أن أكون أنا ذلك الواحد.
قال عثمان : لو أني بين الجنة والنار ولا أدْري إلى أيتهما يُؤمرُ بي لاخترتُ أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصبر.
قال وهيب: عجبًا للعالم كيف تُجيبه دواعي قلبه إلى ارتياح الضحك، وقد علم أنَّ لهُ في القيامة روعات ووقفات وفزعات.
عن وهيب يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي وعظمتي ما من عبد آثر هواي على هواه إلا أقْلَلْتُ هُمومه وجمعتُ عليه ضيعته ونزعتُ الفقر من قلبه وجعلتُ الغنى بين عينيه واتجرت له من وراء كُل تاجرٍ. وعزتي وجلالي ما من عبد آثر هواهُ على هواي إلا كثرتُ همومه وفرقت عليه ضيعته ونزعتُ الغنى من قلبه، وجعلت الفقر بين عينيه ثم لم أبالي في أي أوديتها هلك.
قال بعض العلماء: إذا بلغك عن صديق لك ما تكره فإيَّاك أن تُبادره بالعداوة وقطع الولاية فتكون ممَّن أزال يقينهُ بشك؛ ولكن إلقه وقُل له بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تُسمِّيْ لهُ المبلِّغ، فإن أنكر ذلك فادفع بالتي هي أحسن واعفُ عنه ولا تزد على ذلك شيئًا. وإن اعترف بذلك فرأيت لهُ في ذلك وجهًا لعذر فاقبل منه، و إن لم تُرد ذلك، فقلْ لهُ: ماذا أردت بما بلغني عنك، فإن ذكر ما له وجهٌ من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجهًا لعذرٍ وضاق عليك المسلكُ فحينئذٍ أثبتها عليه. ثم أنت بعد ذلك بالخيار إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، و إن شئت عفوتَ عنه، والعفوُ أقربُ للتقوى وأبلغ في الكرم فإن نازعتك نفُسكَ بالمكافأة، فأفكر فيما سبق لديك من الإحسان فعاجل لهُ إحسانًا بهذه السيئة، ولا تبخس باقي إحسانَهُ السالف بهذه السيئة، فإنه ظلم.
قال بعض العلماء: لا تُنزلن حاجتك من أغلق دُونك أبوابه وجعل عليها حُجَّابَهُ؛ ولكن انزلها بمن بابهُ مفتوحٌ لك إلى يوم القيامة أمرك أن تدعوهُ وضمنَ لك أن يستجيب لك.
قال أبو حازم: يسيرُ الدنيا يُشغلُ عن كثير الآخرة، وقال: ما أحببت أن يكون معك في الآخرة فقدمهُ اليوم، وما كرهْتَ أن يكون معك في الآخرة فاتركَهُ اليوم.
قال بديلُ العقيلي: من أراد بعمله وجه الله عز وجل أقبل الله عليه بوجهه وأقبل بقُلُوب العباد إليه، ومن عمل لغير الله عز وجل صرف الله عز وجل عنه وجهه وصرفَ قلوبَ العباد عنه.
قال يحيى بن معاذ: من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذُنوبُ على رَجَاء العَفو من غير ندامة، وتوقَّعُ القُربِ من الله تعالى بغير طاعة. وانتظار زرع الجنة ببذر وطلبُ دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل والتمني على الله مع الإفراط.
قال الحسن البصري: فساد القلوب متولد من ستة أشياء، أولها: يذنبون برجاء التوبة، ويتعلمون العلم ولا يعملون به، وإذا عملوا لا يُخلصُون، ويأكلون رزق الله ولا يشكرون، ولا يرضون بقسمة الله، ويدفنون موتاهم ولا يعتبرون.
عن سعيد بن جبير قال: إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيته بينك وبين معصيتك فتلك الخشية والذكر طاعة الله، فمن أطاع الله فقد ذكره ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن.
روي عن عيسى ـ عليه السلام ـ: لا تجالسوا الموتى فتموت قُلُوبكم، قيل: ومن الموتى؟ قال: المحبون للدنيا.
خمس خصال يعرف بها الجاهل: الغضب في غير شيء، والثقة بكل أحد، والكلام في غير نفع، والعظة في غير موضعها، ولا يعرف عدُوّهُ من صديقه.
من توفيق الله للإنسان أن يكون بين قوم صالحين، إن أمر بمعروف آزروه، وإن نهى عن منكر أعانُوه، وإن احتاج إلى شيء من الدنيا ساعدوه، وإن مات دعوا له وشيعوه.
القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه. فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر ومع عدم الجناحان فهو عرضة لكُلِّ صائد وكاسر.
قال عمرو بن مرة: من طلب الآخرة أضر بالدنيا، ومن طلب الدنيا أضر بالآخرة، فاضروا بالفاني للباقي، وما كتب لك من الرزق سوف يأتيك.
قال شميط بن عجلان: بادروا بالصحة السقم، وبالفراغ الشغل، وبادروا بالحياة الموت، ويقول: بئس العبد خلق للعاقبة، فصدته العاجلة عن العاقبة فزالت عنه العاجلة، وشقي في العاقبة.
قال أبو عمرو الأوزاعي: ليس ساعةٌ من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة يومًا فيومًا وساعةً فساعةً. ولا تمر به ساعة لم يذكر الله فيها إلا وتقطعت نفسهُ عليها حسرات، فكيف إذا مرَّت به ساعة مع ساعة ويومٌ إلى يومٍ!!
ابن آدم اعْمَلْ عَمَلَ رجل لا ينجيه إلا الله ثم عملُهْ، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتبه الله له.
قال حذيفة المرعشي: إنما هي أربعة: عيناك ولسانك وهواك وقلبك، فانظر عينيك لا تنظر بها إلى ما لا يحل لك وانظر لسانك لا تقل به شيئًا يعلم الله خلافه من قلبك، وانظر قلبك لا يكن في غلٌ على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا تهوى شيئًا –أي مخالفًا لما جاء به النبي.
قال حذيفة المرعشي: إياكم وهدايا الفُجار والسفهاء، فإنكم إن قبلتموها ظنوا أنكم قد رضيتُم فعلهُم.
قال الحسن البصري: لمَّا أهبط آدم أوحى الله إليه أربعٌ فيهن جماع الأمر لك ولولدك من بعدك. أما واحدة: فلي. وأما الثانية: فلك. وأما الثالثة: فبيني وبينك. وأمَّا الرابعة: فبينك وبين الناس. أمَّا التي لي فتعبدني ولا تشرك بي شيئًا. وأمَّا التي لك فعملك أجزيكهُ أفقر ما تكون إليه. وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة. وأما التي بينك وبينَ الناس فتُصاحِبُهُم بما تُحبُّ أن يُصاحبُوكَ به. أربعٌ من حصل عليها واجتمعت عنده اجتمع له خير الدنيا والآخرة: امرأة صالحة عفيفة، وصديقٌ موافق على طاعة الله، ومال من حلال واسع ينفقه في مراضي الله، وعمل صالح.
عن أنس، عن أبي العالية، قال: كُنتُ أرحلُ إلى الرجل مسيرة أيامٍ، فأولُ ما أتفقدهُ من أمره صلاته، فإن وجدته يقيمها ويُتمها أقمتُ وسمعتُ منه، وإن وجدته يضيعها رجعت ولم أسمع منه، وقلتُ: هو لغير الصلاة أضيع.
قال يحيى بن معاذ: لستُ آمركم بترك الدُنيا آمركم بترك الذنوب، تركُ الدنيا فضيلة وتركُ الذنوب فريضة وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات.
قال يوسف بن الحسين: على قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر حبك الله يحبك الخلق، وعلى قدر شُغلك بأمر الله يُشغلُ الخلقُ بأمرك.
قال أبا يزيد البسطامي: الناس كلهم يهربون من الحساب ويتجافون عنه، وأنا أسأل الله تعالى أن يحاسبني، فقيل: لِمَ قال لعله أن يقول لي فيما بَيْنَ ذلك يا عَبْدِي، فأقولُ لَبَّيْك. فقوله لي يا عبدي، أعجب إليَّ من الدنيا وما فيها، ثم بعد ذلك يفعل بي ما يشاء
قال أحد العلماء: لا يكن هم أحدهم في كثرة العمل؛ ولكن ليكن همه في إحكامه وإتقانه وتحسينه، فإن العبد قد يُصلي وهو يعصي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه.
قال أبو هاشم الزاهد: إن الله عز وجل وسم الدنيا بالوحشة، ليكن أنسُ المريدين به دونها، وليُقْبل المطيعُون له بالإعراض عنها، وأهلُ المعرفة بالله فيها مُسْتَوْحِشُون، وإلى الآخرة مُشتاقون.
قال وهيب: الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس بينهُما حرون، فإذا قاد القائدُ ولم يسُق السائقٌ لم يُغن ذلك شيئًا. وإذا ساق السائق ولم يقد القائد لم يغن ذلك شيئًا، وإذا قادَ القائدُ وساقَ السائقُ ابتعتْهُ النفسُ طوعًا وطاب العمل.
عن عطاء الحسن الخرساني أنه كان يقول: إني لا أوصيكم بدنياكم أنتم مُستوصون بها، وأنتم عليها حراص. وإنما أوصيكم بآخرتكم، فخذوا من دار الفناء لدار البقاء، واجعلوا الموت كشيء ذقتُموه، فوالله لتذوقُنَّه، واجعلوا الآخرة كشيء نزلتموه فوالله لتنزُلُنَّها، وهي دار الناس كلهم، ليس من الناس أحد يخرج لسفر إلا أخذ له أهبته، فمن أخذ لسفره الذي يُصلحُهُ اغتبط. ومن خرج إلى سفر لم يأخذ له أهبتهُ ندم، فإذا أضحى لم يجد ظلاً، وإذا ظمئ لم يجد ماء يتروى به، وإنما سفرُ الدنيا منقطع، وأكيس الناس من قام يتجهَّز لسفر لا ينقطعُ.
عن إبراهيم بن الأشعث قال: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهبٌ إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر. فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
المعاصي تنقسم إلى قسمين: قسم ذنوب جوارح ظاهرة، مثل القذف، والغيبة، والظلم، والاغتصاب، والقتل، والزنا، واللواط، والسرقة ونحو ذلك. والقسم الثاني: وهي ذنوب القلوب، وهن المهلكات القاصمات، ومنها: الشرك، والشك، والنفاق، والكفر، والاغترار بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله. ومنها احتقار الذنوب والتهاون بها والتسويف بالتوبة والإنابة والإصرار على المعاصي والرياء والتيه والكبر والعجب والخيانة والغدر والحسد والغل والحقد والبغض. وسوء الظن والجفاء والقطيعة والعقوق والقسوة والشح والحرص والشره على ما لا ينبغي الحرص والشره عليه. ومنها: الطغيان بالمال والقوة والجاه واحتقار النعم والاحتقار بمصائب الدين، ومنها الاستهانة بعلم الله ونظره وسمعه وإطلاعه. ومنها: قلة الحياء من الله عز وجل وتقدس وقلة الحياء ممن على اليمين وعلى الشمال من الملائكة عند فعلك ما يكرهه الله ونحو ذلك من الذنوب التي لا يسلم منها إلا من عصمه الله.
قال ابن الجوزي: يا عجبًا كيف أنس بالدنيا مفارقها! وأمن النار واردها! كيف يغفُل من لا يُغفل عنه! كيف يفرحُ بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته وسنتُه تهدم عمُره! كيف يلهو من يقوده عُمُره إلى أجله وحياته إلى موته! إخواني: الدنيا في إدبار، وأهلُها منها في استكثار، والزارع فيها غير التقي لا يحصُدُ إلا الندم.
عن أبي بكر بن عياش قال: قال لي رجُلٌ مرَّة وأنا شابٌّ خلِّصْ رقبتك ما استطعت في الدنيا من رقِّ الآخرة. فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبدًا، قال أبو بكر: فما نسيتُها أبدًا. وكان يقومُ الليل في قباء صُوف وسراويل وعُكازة يضعُها في صدره فيتكيءُ عليها حين كبرُ فيُحْيي ليْلَتَهْ ويُذكِّرِهُ حَمْلُ العَصَى بالسَّفرِ إلى الآخرة.
عن عاصم قال: سمعت شقيق بن سلمة يقول وهو ساجد: رب اغفرْ لي، رب اعفُ عني إن تعفُ عني تعف عني تطوُّلاً من فضلك، وإن تعذبني تُعذبني غير ظالم لي، قال: ثم يبكي حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد.
قال الربيع بن أبي راشد وقد رأى رجلاً مريضًا يتصدق بصدفة فقسمها بين جيرانه، فقال: الهدايا أمام الزيارة فلم يلبث الرجل إلا أيامًا حتى مات، فبكى عند ذلك الربيع بن أبي راشد، وقال: أحسن والله بالموت وعلم أنه لا ينفعه من ماله إلا ما قدم بين يديه.
قال أحمد بن عبدالله بن يونس: كان معروف بن واصل التيمي إمام مسجد بني عمرو بن سعد. قيل: إنه كان يختم القرآن في كل ثلاث سفرًا وحضرًا وأنه أم قومه ستين سنة لم يسهُ في صلاته؛ لأنها كانت تهمُّه.
قال عبدالملك بن أبجر: ما من الناس إلا مُبتلى بعافية ليُنظر كيف شُكْرُه أو مُبْتَلى ببليَّةٍ ليُنظر كيف صبرُه. وفي الخبر يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده يُعيرونهُ بالفقر ويكلفونه ما لا يطيق فيدخل في المداخل التي يذهب فيها دنه فيهلك
عن الأعمش قال: قال عمرو بن عُتبة بنُ فَرْقَد سَألْتُ الله ثلاثًا فأعطاني اثنتين وانتظر الثالثة، سألته أن يُزهِّدني في الدنيا فما أبالي ما أقبل وما أدبر، وسألته أن يُقوِّيْني على الصلاة فرزقني منها، وسألته الشهادة فأنا أرجوها.
عن أبي معشر قال: رأيتُ عونَ بن عبدالله في مجلس أبي حازم يبكي ويمسحُ وجههُ بدُموعه. فقيل له: لم تمسح وجْهَكَ بدمُوعِكَ؟ قال: بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانًا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار. وقال: قلبُ التائب بمنزلة الزُجَاجة يُؤثِّر فيها جميعُ مَا أصابها، فالموعظة إلى قلوبهم سريْعة وهُمْ إلى الرقة أقرب. فداوُوا القلوب بالتوبة فلرُبَّ تائب دعته توبتُهُ إلى الجنة حتى أوفدتْهُ عليها، وجالسوا التوابين، فإن رحمة الله إلى التوابين أقرب.
قال عُمر بن درهم لعطاء: حتى متى نسهو ونلعب وملك الموت في طلبنا لا يَكُفَ فصاح عطاء صيحَةً خَرَّ مَغْشيًا عليه. واجتمع الناس وقعد عمر عند رأسه فلم يزل على حاله حتى المغرب ثم أفاق فحُمل.
قال محمد بن واسع: ما آسى مِن الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا اعوججت قومني، وصلاة في جماعة يُحمل عني سهوها وأفوزُ بفَّضْلِها، وقوتٍ من الدنيا ليس لأحد فيه منة، ولا لله عز وجل علي فيه تبعة.
قال خليد العصري: كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعدًا، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً، وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى له خائفًا، فعلام تعرجون. وما عسيتم تنتظرون الموت فهو أول وارد عليكم من الله بخير أو شر، فيا اخوتاه، سيروا إلى ربكم سيرًا جميلاً.
رأى مالك بن دينار رَجُلاً يُسِيءُ في صلاته، فقال: ما أرحمني لعياله. فقيل له: يُسيءُ هذا صلاته وترحم عياله، قال: إنه كبيرهم ومنه يتعلمون.
قال سهل بن عبدالله: استجلب حلاوة الزهد بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع بصحة اليأس، وتعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الذكر. واستفتح باب الحزن بطول الفكر، وتزيَّن لله بالصدق في كل الأحوال. وإياك والتسويف فإنه يغرقُ الهلكى، وإياك والغفلة فإن فيها سواد القلب، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر.
كان السلف أحرص ما يكونون على أوقاتهم؛ لأنهم يعرفون قيمة الوقت وأنه إذا فات لا يُستدرك فهو أعز شيء يُغار عليه أن ينقضي بدون عملٍ صالح. فالوقت ينقضي وينصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظم فواته واشتدَّت حسراتُه. فكيف حالُه إذا علم عند تحقق الفوات مقدار ما أضاع، وطلب الرجُوع فحيل بينه وبينه، وطلب تناول الفائت، وكيف يُردُ الأمسُ الفائت في اليوم الجديد.
قال شيخ الإسلام: القلبُ لا يصلح ولا يفلح ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحُبه والإنابة إليه، ولو حصل له كُل ما يلتذُ به من المخلوقات لم يطمئنَّ ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هُو معبودُهُ ومحبوبُه ومطلوبُه، وذلك يحصل له الفرح والسرور واللذةُ والنعمةُ والسُكونُ والطمأنينة. وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، ولا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائمَا مفتقرٌ إلى حقيقة إيَّاك نعبدُ وإيَّاك نستعين. فهو مفتقرٌ إليه من حيث هو المطلوب المحبوبُ المعبودُ ومن حيثُ هو المُستعانُ به المتوكلُ عليه. فهو إلهه لا إله لهُ غيرهُ وهو ربُّهُ لا ربَّ له سواهُ ولا تتمُ عبوديتُه إلا بهذين.
مر عبدالله بن جعفر على عبد في بُستان معه ثلاثةُ أقراص شعير، فأتاه كلب فرمى إليه بأول قُرص، ثم رمى بالثاني، ثم بالثالث، فسأله جعفرُ: ما هُو قُوتُ يومِكَ؟ فقال: هو ما رأيتَ، قال: ما حملك على هذا؟ قال: آثرتُ الكلب على نفسي؛ لأنه أتى من بعيد جائعًا. قال: وما تفعلُ في يومك؟ قال: أطويه بلا طعام، فاشترى البُستان واشترى العبد من سيده وأعتقه ووهبَهُ البُستان.
خرج عبدالله بن المبارك إلى الحج مع جماعة وبعد مسيرهم مرحلة خرج في الصباح من الخيمة، فوجد صبية آتت إلى مطرح القمامة وأخذت منها دجاجة مُلقاةً ميتة وذهبت بها فتبعها عبدالله فوجدها دخلت في خيمةٍ مُهلهلة أي خلقة وفيها ولدٌ صغير، فقال لها: لِمَ أخذت الدجاجة الميتة؟ فقالت: أنتُم رميتموها، فقال: ألا تعلمين أنه لا يحل أكلها؟ فقالت: إنها تحل لنا لشدة فقرنا، فذهب عبدالله بن المبارك إلى وكيله، وقال له: ما الذي معكَ؟ قال: ألف دينار، قال: أبق منها ما يُوصِلُنا إلى بلدنا وادفع للأنثى الباقي وسنحُجُّ في العام المقبل إن شاء الله.
دخل محمد بن واسع على أمير وعليه جُبَّةُ صُوف، فقال الأمير: ما الذي دعاك إلى لبس هذه فسكت، فقال الأمير: لِمَ لَمْ تُجبني؟ فقال: أكره أن أقول زُهْدًا فأزكي نفسي أو أقول فقرًا فأشكو ربي.
قال ابن رجب: دخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلَّل فسألوه عن سبب تهلُلُ وجهه، فقال: ما من عَمَل أوثقُ عندي من خصلتين كُنتْ لا أتكلم فيما لا يعنيني، و كان قلبي سليمًا للمسلمين.
مَرَّ أبو هريرة بسوق المدينة فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة، قال: ميراث رسول الله يُقْسَمُ وأنتمُ هاهُنا ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم فيه؟ قالوا: وأين هو يا أبا هريرة؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعًا ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعُوا، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نرى شيئًا يقسم. فقال لهم أبو هريرة: وما رأيت في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى رأينا قومًا يصلون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام. فقال لهم أبو هريرة: ويحكم فذاك ميراث محمد
عن ابن مسعود ، قال: كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتتخذ سُّنة فإن غيرت يومًا، قيل: هذا منكر!! قال: ومتى ذلك؟ قال: إذا قَلَّتْ أُمناؤكم وكثُرتْ أمراؤكم وقَلَّتْ فُقَهاؤكم وكَثُرتْ قُرَّاؤكم وتُفُقِّهَ لغير الدين والتمست الدنيا بعمل الآخرة، قلتُ: هذا موجود الآن بكثرة، فتأمل ودقِّق النظر!!
قيل: إن القاضي أبا الطيب صعد من سميرية (مركوب بحري) وهو في عشر المائة 100 سنة، فقفز منها إلى الشط. فقال له بعض من حضر: يا شيخ، لا تفعل هذا، فإن أعضاءك تضعف وربما أورثت هذه القفزة فتقًا في بطنك، فقال: يا هذا، إن هذه أعضاؤنا حفظناها عن معاصي الله فحفظها الله علينا
أوصى رجل بنيه، فقال: يا بني، عليكم بالنُسك، فإنه إذا ابتُلي أحدُكم بالبخل، قيل: مقتصد لا يُحبُ الإسراف، وإن ابتلى بالعيَّ، قيل: يكره كثرةَ الكلام فيما لا يعنيه، وإن ابتُلي بالجَبْن، قِيل: لا يُقْدِمُ على شبهة.
قال أحد العلماء: من صفات العالم المطبق للشرع: أن يأمن شره من خالطه، ويأمل خيره من صاحبه، ولا يؤاخذ بالعثرات، ولا يُشيع الذنوب عن غيره، ولا يُفشي سرَّ من عاداه، ولا ينتصر منه بغير حق ويعفو ويصفح عنه، ذليلٌ للحق، عزيزٌ في الباطل، كاظم للغيظ عمن آذاه، شديد البغض لِمَنْ عَصَى مولاه.
عن أبي الدرداء قال: إن الذين ألسنتهُم رطبة بذكر الله عزَّ وجل يدخلُ أحدهم الجنة وهو يضحك.
خرج زيدُ بنُ ثابت يُريد الجمعة فاستقبلهُ الناسُ راجعين، فدخل دارًا، فقيل له، فقال: إنه من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله.
صلى تميم الداري ليلةً حتى أصبح أو قارب الصبح وهو يقرؤ آيةً ويُرددها ويبكي:أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. وقام مرة بعدَ أن صلى العشاء في المسجد فمرَّ بهذه الآية وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ فما خرج منها حتى سمع أذان الصبح.
كان الربيع بن خيثم بعد ما سقط سِقّثه يعتمدُ على رجلين إلى المسجد، وكان أصحاب عبدالله يقولون له: لقد رخَّصَ الله لك لو صليت في بيتك. فيقولُ: إنه كما تقولون ولكني سمعتُ الأذان حيَّ على الفلاح، فمن سمع منكم فليجبه ولو زحفًا ولو حبوًا.
مرض خيثمة وثقل وجاءته امرأته، فجلست عنده فبكت، فقال لها: ما يبكيك؟ الموت لابد منه، فقالت: الرجالُ عليَّ حرا، فقال لها: ما كل هذا أردتُ منك إنما كنتُ أخاف رجُلاً واحدًا وهو أخي، وهو رجل فاسق يتناول الشراب، فكرهتُ أن يشربَ في بيتي الشراب بعد إذ القرآن يُتلى فيه كلَّ ثلاث.
عن الأعمش عن خيثمة، قال: تقول الملائكة: يا رب عبدك المؤمن تزوي عنه الدنيا، وتعرضه للبلاء، قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن ثوابه، فإذا رأوا ثوابه، قالوا: يا رب لا يضره ما أصابه في الدنيا. قال: ويقولون عبدك الكافر تزوي عنه البلاء وتبسط له الدنيا، قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن عقابه، قال: فإذا رأوا عقابه، قالوا: يا رب لا ينفعه ما أصابه من الدنيا.
قال حذيفة في مرضه الذي مات فيه: لولا أني أرى أن هذا اليوم آخرُ يوم من الدنيا وأولُ يومٍ من الآخرة لم أتكلم به. اللهم إنَّك تعلم أني كنت أحب الفقر على الغنى، وأحبُّ العُزْلَةَ على العِز وأحبُّ الموت على الحياة حبيبٌ جاء على فاقة لا أفلحَ من ندِم، ثم مات
قال الشيخ تقي الدين: من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم من الشدة والضر ما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه ولا يرجون أحدًا غيره. فتتعلق قلوبهم به لا بغيره فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه والبراءة من الشرك ما هو أعظم من زوال المرض والخوف والجُدْب والضر. اهـ.
علامات الشَّقَاوَةِ أربعة: نسيان الذنوب الماضية وهي عند الله محفوظة، وذكر الحسنات الماضية ولا يدري أقبلتْ أم رُدَّت، ونظره إلى من فوقه في الدنيا، ونظره إلى من دُونه في الدين. وعلامات السعادة أربعة: ذكر الذنوب الماضية، ونسيان الحسنات الماضية، ونظره إلى من فوقه في الدين، ونظره إلى من دُونه في الدنيا.
قال سعيد بن المسيب: لو أتمنتُ على بيت مال لأديتُ الأمانة، ولو أتمنتُ على امرأة سوداءَ لخفتُ أن لا أؤدي الأمانة فيها.
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: إخواني الأيام لكم مطايا، فأين العُدة قبل المنايا؟ أين الأنفة من دار الأذايا؟ أين العزائم؟ أترضون الدنايا؟ إنَّ بلية الهوى لا تشبه البلايا وإن خطيئة الإصرار لا كالخطايا، وإن سريَّة الموت لا كالسرايا، وقضية الأيام لا كالقضايا، وملك الموت لا يقبل الهدايا. فيا مستورين ستطهر الخبايا، أيها المستوطن بيت غُروره، تأهب لإزعاجكْ، أيها المسرور بقصوره، تهيأ لإخراجْك. خُذْ عُدَّتك وقم في قضاء حاجتك قبل فراق أولادك، وأزواجك، ما الدنيا دار مقامك، بل محثًا لإدلاجك.
قال ابن عباس: غي واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره، أعد الله ذلك الوادي للزاني المصر على الزنا، والشارب الخمر المدمن عليه، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولدًا ليس منه.
قال عمر بن ذر: لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم، ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم، قاموا إلى الله سبحانه وتعالى فرحين مُستبشرين بما قد وهبهم الله من السهر وطُول التَّهجُدِ، فاستقبلوا الليل بأبدانِهم وباشر ظلمتَهُ بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليلُ وما انقضت لذَّاتهُم مِن التلاوة ولا ملَّتْ أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولى بربحٍ وغبن. فاعملوا لأنفسكم في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الدنيا والآخرة.
قال ابن الجوزي: إخواني، إن الذنوب تغطي على القلوب، فإذا أظلمت مرآة القلب لم يبن فيها وجه الهدى، ومن علم ضرر الذنب استشعر الندم.
يا من أعماله إذا تُؤمِّلتْ سقط، كم أثبت له عمل فلما عدم الإخلاص سقط، يا حاضر الذهن في الدنيا، فإذا جاء الدين خلطْ، يجعل همَّهُ في الحساب فإذا صلى اختلط. يا ساكتًا عن الصواب فإذا تكلم لغط، يا قريب الأجل وهو يجري من الزلل على نمَطْ. يا من لا يعظه وهنُ العظم ولا كلامُ الشَّمطْ، يا من لا يرعوى ولا ينتهي، بل على منهاج الخطيئة فقط، ويحك بادر هذا الزمان فالصحة غنيمة والعافية لقطْ. فكأنك بالموت قد سلَّ سيفهُ عليك واخترط، أين العزيز في الدنيا؟ أين الغني المغتبط؟ خيَّم بين القبور، وضرب فسطاطه في الوسط، وبات في اللحد كالأسير المرتبط. واستلبت ذخائره ففرغ الصندوق والسفط، وتمزق الجلد المستحسن وتمعط الشعر فكأنه ما رجله وكأنه ما امتشط ورضي وُرَّاثُه بما أصابُوه وجعلُوا نصبه السخط. وفرقوا ما كان يجمعه بكف البخل والقنط ووقع في قفر لا ماء فيه ولا حنط وكم حُدِّثَ أن سعد بن معاذ في القبر انضغط، وكم حُذِّر من المعاصي، وأخبر أن آدم بلقمة زل فهبط.
قال ابن الجوزي: إنما فضل العقل على الحس بالنظر في العواقب، فإن الحس لا يرى الحاضر والعقل يلاحظ الآخرة ويعمل على ما يتصور أن يقع. فلا ينبغي للعاقل أن يغفل عن تلمُح العواقب.
ذكر ابن القيم في «الهدي»: أنه من صح له يومُ جمعته وسلم سلمت له سائر جمعته، ومن صح له رمضان وسلم سلمت له سائر سنته، ومن صحت له حجَّته وسلمت له صح له سائر عمره، فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر.
قال إبراهيم بن أدهم ـ رحمه الله ـ دخلنا على عاد مريض، وهو ينظر إلى رجليه ويبكي، فقلنا: ما لك تبكي؟ فقال: عليّ يوم مضى ما صُمتُه، وعليّ ليلة ذهبت ما قمتها.
نظر عبدالملك بن مروان عند موته وهو في قصره إلى قصارٍ يضرب بالثوب في المغسلة، قال: يا ليتني كنتُ قصارًا ولم أتقلد الخلافة. فبلغ كلامه أبا حاتم، فقال: الحمد لله الذي جعلهمُ إذا حضرهم الموت يتمنون ما نحن فيه، وإذا حضرنا الموت لم نتمنى ما هم فيهم.
عن وهب بن منبه قال: قال الحواريون: يا عيسى، من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها فأماتوا ما خشوا أن يميتهم، وتركُوا ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتًا، وفرحُهم بما أصابوا منها حُزنًا، فما عارضهم منها رفضوه، أو من رفعتها بغير الحق وضعوه. خلقت الدنيا عندهم فلم يجددوها، وخربت بينهم فلم يعمروها، وماتت في صدورهم فليسوا يُحْيُوها. يهدمُونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها وكانوا برفضها فرحين، وباعوها وكانوا ببيعها رابحين. نظروا إلى أهلها صرعى قد حلت بهم المثلات، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره. لهم خبر عجيب، و عندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم عُلم الكتاب وبه علموا فليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا ولا أمانًا دون ما يرجون ولا خوفًا دُونَ ما يحذرون
أرسل عمر إلى الكوفة من يسأل عن سعد فكان الناس يثنون عليه خيرًا حتى سُئل عنه رجل من بني عبس، فقال: أما إذا أنشدتمونا عن سعد فإنه كان لا يخرج في السرية ولا يعدل بالرعية ولا يقسم بالسوية. فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا قام رياء وسمعة فأطل عره وعظم فقره وعرضه للفتن. فكان يُرى وهو شيخ كبير قد تدلَّى حاجباه من الكبر يتعرض للجواري يغمزُهُنَّ في الطرقات، ويقول: شيخ كبير مفتُون أصابتني دعوة سعْد.
قال إبراهيم بن أدهم: مرض بعضُ العُبَّاد فدخلنا عليه نعُوده، فجعل يتنفس ويتأسف، فقلتُ له: على ماذا تتأسف؟ قال: على ليلة نمتُها، ويوم أفطرته، وساعةٍ غفلتُ فيها عن ذكر الله عز وجل.
بكى بعضُ العباد عند موته، فقيل له: ما يبُكيك؟ فقال: أن يصوم الصائمون ولستُ فيهم، ويذكر الذاكرون ولستُ فيهم، ويصلي المصلون ولستُ فيهم.
عن محمد بن سعد يرفعه: أن حكيم بن حزام بكى يومًا، فقال هل ابنه: ما يُبكيك؟ قال: خصالٌ كلها أبكاني: أما أولها: فبطءُ إسلامي حتى سُبقتُ في مواطن كلها صالحة، ونجوتُ يوم بدر واحدٍ، فقلت: لا أخرج أبدًا من مكة ولا أوضعُ مع قُريش ما بقيت. فأقمت بمكة ويأبى الله عز وجل أن يشرح صدري للإسلام، وذلك أني أنظرُ إلى بقايا من قريش لهم أسنان متمسكين لما هم عليه من أمر الجاهلية فأقتدي بهم، ويا ليت أني لم أقتد بهم، فما أهلكنا إلا الإقتداء بآبانا وكُبرائنا.
قيل: إن رجلاً نادى المأمون باسمه فغضب المأمُونُ، وقال له: أتدعُوني باسمي، فقال: نحنُ ندعُوا الله جل جلاله باسمه، فسكت المأمون، وقضى حاجة الرجل وأنعم عليه.
قيل لبعض العلماء: ما خير المكاسب؟ قال: خير مكاسب الدنيا طلب الحلال لزوال الحاجة، والأخذ منه للقوة على العبادة وتقديم فضله الزائد ليوم القيامة. وأمَّا خير مكاسب الآخرة فعلمٌ معمول به نشرته، وعملٌ صالح قدمته، وسُّنةُ حسنةٌ أحييتهَا. قيل: وما شر المكاسب؟ قال: أمَّا شر مكاسب الدنيا فحرام جمعته، وفي المعاصي أنفقته، ولمن لا يطيع ربه خَلَّفْتَه. وأما شر مكاسب الآخرة: فحق أنكرته حسدًا، ومعصية قدمتها إصرارًا، وسُّنة سيئة أحييتها عُدوانًا.
قال بعض العلماء: ذكر الله تعالى في ابتداء الأقوال والأفعال أنسةٌ من الوحشة وهداية من الضلال. وحمدُه جل وعلا فرضٌ لازمٌا لكُلِّ أحد على كُلِّ حال؛ لأنه أهلٌ أن يُحمد إن ابتلى، وإن منع، وإن أنال. ففضلُه جل وعلا عمَّ النساء والرجال والكهُولَ والأطفال. ولطف في قدره وقضائه بأهل أرضه وسمائه، فلم يخْلُ من لُطْفِهِ سافلٌ ولا عال.
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: استمعْ يا رهين الآفات والمصائب، يا أسير الطارقات النوائب، إياك وإياك الآمال الكواذب، فالدنيا دارٌ وليست بصاحب أما أرتْكَ في فعلها العجائب. فيمن مشى في المشارق والمغارب، ثم أرتك فيك شيب الذوائبْ. أما علمتَ أنَّ سهامَ الموت صَوَائِبْ، لا يَرُدُّهَا مُحَارِبْ، ولا يفوتُها هاربْ، تدبُّ إلينا دبيب الحيَّات والعَقارِبْ، بينما أنْتَ تسمعُ صوتَ مزْهِر صار صَوْت نادِبْ. يا أسير حُبِّ الدنيا إن قتلتك من نطالب كأني بك قدْ بتَّ فرحًا مسرورًا، فأصبحت ترحًا مثبورًا، وتركتَ مالك لِغَيَركَ مَوْفُورًا. وخرج من يدك فصار للكُلِّ شُوْرَى، وعَايَنْتَ ما فَعْلَتَ في الكتاب مَسْطْورًا. وعَلِمْتَ أنك كنتَ في الهوى مَغْرُورًا، واستحالتْ صَبَا الصَّبَا فعادتْ دَبُورًا، وأسكنتَ لحدًا تصيرُ فيه مأسورًا، ونزلت جدثًا خربًا وتركتَ قصرًا معمورًا، ودخلت في خبر كان وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا. أين الوالدان وعما ولدوا؟ أين الجبارون؟ وأين ما قصدوا؟ أين أرباب المعاصي على ماذا وردوا؟ أمَا جَنوا ثمرات ما جنوا وحصدوا، أما قدموا على أعمالهم في مآلهم ووفدوا، أما خلوا في ظلمات القبور. بكوا والله على تفريطهم وانفردوا أما ذَلُّوا وقلوا بعد أن عتوا ومردوا أما طلبو ا زادًا يكفي في طريقهم ففقدوا. عاينوا والله كلَّ ما قدَّموا ووجدُوا، فمنهم أقوام شقوا، ومنهم أقوام سعدوا.
قال الإمام أحمد: لا ينبغي أن يجيب في كل ما يُستفتى فيه، وقال: لا ينبغي للرجل أن يُعرض نفسه للفُتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أحدها: أن تكون له نية، وهي أن يخلص لله تعالى، ولا يقصد رياسةً ولا نحوها، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور. الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة، وإلا لم يتمكن من فعل ما تصدَّى له من بيان الأحكام الشرعية. الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته، وإلا فقد عرَّض نفسه لخطر عظيم. الرابعة: الكفَّاية، وإلا أبغضهُ الناس؛ لأنه احتاج إلى الناس وإلى الأخذ مما في أيديهم، فيتضررون منه. الخامسة: معرفة الناس بأن يكون بصيرًا بمكرهم وخداعهم، ليكون حذرًا منهم لئلاً يوقعوه في المكروه.
قال ابن مهدي: سأل رجل مالك بن أنس عن مسألة فطال ترداده إليه فيه وألح عليه، فقال: ما شاء الله يا هذا، إني لم أتكلم إلا فيما احتسبُ فيه الخير ولستُ أحسنُ مُسألتَكَ هذه.
قال سفيان: أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفُتيا حتى لا يجدوا بُدًّا من أن يُفتُوا، وقال: أعلمُ الناس بالفُتيا أسكتُهم عنها وأجهلهم بها أنطقهم فيها.
قال بعض العلماء لبعض المفتين: إذا سُئِلْتَ عن مسألة فلا يكن همك تخليص السائل؛ ولكن ليكن همُّكَ تخليص نفسك
كان ابن سيرين إذا سُئل عن الشيء من الحلال والحرام تغيَّر لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.
اسمع يا مُضيعَ الزَّمَانَ فيما ينقصُ الإيمان، مُعْرضًا عن الأرباح ومُتعرضٌ للخسران، لقد سُرَّ بفعلكَ الشامتْ. يا من يفرحُ العيد لتحسين لباسه، ويُوقِنُ بالموت وما استعدَّ لباسه ويغتر بإخوانه وأقرانه وجُلَّاسِه، وكأنه قد أمن سُرْعَةَ اختلاسِهْ. يا غافلاً قد طُلِبْ، ويا مُخاصمًا قد غُلِبْ، ويا واثقًا قد سُلِبْ، إيَّاك والدنيا فما الدنيا بدائمة، لقد أبانت للنواظرِ عُيُوبْهَا، وكشفتْ للبصائر غيُوبها، وعدَّدَتْ على المسامع ذُنُوبها، وما مرَّتْ حتى أمرَّت مشرُوبها. فلذاتها مثلُ لمعانِ البرقْ ومُصيبتُها واسعةُ الخرقْ، سوَّتْ عواقبُها بين سُلطان الغرب والشرق، فما نجا منها ذو عدَدْ، ولا سلم فيها صاحبُ عُدَدْ، مزَّقَت الكُلَّ بكفِّ البُدَدْ ثم ولَّتْ فما الْوَت على أحدْ.
اعلم أن من كان داؤُهُ المعصية، فشفاؤهُ الطاعة، ومن كان داؤُه الغفلة، فشفاؤه اليقظة، ومن كان داؤه كثرةُ الأشغال، فشفاؤه في تفريغ المال.
من تفرَّغ من هموم الدنيا قلبُه، قلَّ تعبُه، وتوفَّر من العبادة نصيبه، واتصل إلى الله مسيره، وارتفع في الجنة مصيره، وتمكن من الذكر والفكر والورع والزهد والاحتراس من وساوس الشيطان، وغوائل النفس
من كثر في الدنيا همه، أظلم طريقُه، ونصب بدنُه، وضاع وقته، وتشتت شمله، وطاش عقلُه، وانعقد لسانُه عن الذكر، لكثرة هُمومه وغمُومه، وصار مُقيَّدَ الجوارح عن الطاعة من قلبهِ في كل وادٍ شُعْبَة، ومن عُمرهِ لكلِ شغل حصَّة.
ما شغل العبد عن الرب فهو مشئومن ومن فاته رضا مولاه فهو محروم، كل العافية في الذكر والطاعة، وكل البلاء في الغفلة والمخالفة، وكل الشفاء في الإنابة والتوبة، وانظر لو أن طبيبًا نصرانيًا نهاك عن شرب الماء البارد لأجل مرض في جسدك لأطعته في ترك ما نهاك عنه، وأنت تعلم أن الطبيب قد يصدُق وقد يكذب، وقد يصيبُ وقد يُخطئ وقد ينصحُ وقد يغشُ، فما بالك لا تترك ما نهاك عنه أنصحُ الناصحين وأصدق القائلين وأولى الواعدين لأجل مرضِ القلب الذي إذا لم تشفَ منه فأنت من أهلك الهالكين.
نظر عمر بن عبدالعزيز إلى رجل عنده مُتغيرُّ اللون، فقال له: ما الذي بك؟ فقال: إني ذُقْتُ حلاوة الدنيا فصغُر في عيني زهرتها وملاعبُها، واستوى عندي حجارتُها وذهبُها، ورأيتُ كأن الناس يُساقون إلى الجنة، وأنا أساقُ إلى النار، فأسهرتُ لذلك ليلي، واظمأتُ نهاري، وكلُ ذلك صغيرٌ حقيرٌ في جنبِ عفو الله، وثوابه عز وجل وجنْب عقابه.
قال إبراهيم التيمي: مثلتُ نفسي في النار آكل من زقُومِها، وأشْربُ من صديدها وأعالجُ سلاسلها وأغلالها. فقلتُ لنفسي: أيُّ شيءٍ تُريدين، قالت: أريدُ أن أردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قال: فقلت: أنت في الأمنيَّةِ فاعملي.
كان الحسنُ يقول في وصف الخائفين: قد براهُم الخوفُ فَهم أمثالُ القداح ينظر إليهم الناظر، فيقول: مَرْضَي وما بهم مَرَضٌ، ويقولُ: قد خُولِطُوا وقد خَالَطَ القومَ من ذِكر الآخرةِ أمرٌ عظيم.
قال بعض العلماء –رحمهم الله-: أمهاتُ المعاملة: التوبة، والعبودية، والزهد، والاستقامة، تمامُ هذه الأربع بأربعة: إقلال الطعام، وإقلال الكلام إلا بذكر الله وما ولاه، وإقلال النوم؛ لأن الأعمال تَنْقَطعُ به، والعُزلة عن الناس إلا لما لابُدَّ منه؛ فإنه أصوَن لدينه وعرضه.