فوائد من كتاب إيقاظ أولي الهمم العالية
حكمــــــة
إن لله عبادًا أخمصوا له البُطون عن مطاعم الحرام وغضُّوا له الجُفون عن مناظر الآثام. وأهملُوا له العيون لما اختلط عليهم الظلام رجاءَ أن يُنير قُلُوبهم إذا تضمنتهم الأرضُ بين أطباقهم فهُم في الدنيا مُكتئِبون وإلى الآخرة مُتطلعون. فهم الذين لا راحةَ لهم في الدنيا وهم الذين تقرُّ أعينُهم بطلعةِ ملك الموت.
حكمــــــة
أيُها العبد، حاسب نفسك في خلوتك وتفكر في سرعة إنقراض مُدتك، واعمل بجد واجتهاد في زمان فراغك لوقت حاجتك وشدتك. وتدبَّر قبل الفعل ما يُملى في صحيفتك وانظر هل نفسك معك على الشيطان والهوى والدنيا أو عليك في مجاهدتك. لقد سَعِدَ من حاسبها وفاز من حاربها وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها وكلما قصرت أو ونَتْ عاتبها وكلما توقَّفَتْ جذبها.
حكمــــــة
من فوائد ذكر الموت أنه يورث الاستشعار بالانزعاج عن هذه الدار الفانية المملوءة بالأكدار والأنكاد والهموم والغموم. ويحثُك ذكر الموت على التوجُه في كل لحظةٍ إلى الآخرة بالاستعداد لها ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيقٍ وسعةٍ ونعمةٍ ومحْنةٍ. فإن كان في حال ضيقةٍ ومحنةٍ فذكر الموت سهَّلَ عليه بعض ما هو فيه إذ لا مُصيبة إلا والموت أعظم منها وهو ذائقه ولابُد.
حكمــــــة
الدنيا لا تذم لذاتها وكيف يذم ما منَّ الله به على عباده وما هو ضرورة في بقاء الآدمي وسبب في إعانته على تحصيل العلم والعبادة من مطعم ومشرب وملبس ومسجد يُصلى فيه، وإنما المذموم أخذ الشيء من غير حله أو تناوله على وجه السرف لا على مقدار الحاجة، ويُصرفُ النفس فيه بُمقتضى رُعوناتها لا بإذن الشرع فالعاقل يجعلها مطية للآخرة فينفقها في سبيل الله في المشاريع الدينية من طباعة مصاحف كتب دينية وعمارة مساجد وبذل للفقراء الذين لا موارد لهم.
حكمــــــة
قال أحد العلماء: وجدت الدنيا شيئين، فشيء منها هو لي فلن أعجله قبل أجله ولو طلبته بقوة السموات والأرض. وشيءٌ منها هو لغير فلم أنلهُ فيما مضى ولا أرجوه فيما بقي يُمنعُ الذي لي من غيري كما يمنع الذي لغيري مني، ففي أي هذين أفني عمري. ووجدت ما أعطيتُ من الدنيا شيئين، فشيءٌ يأتي أجله قبل أجلي فأغلبُ عليه، وشيء يأتي أجلي قبل أجله فأموتُ وأخلفُه لمن بعدي ففي أي هذين أعصي ربي عز وجل.
حكمــــــة
عن وهيب يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي وعظمتي ما من عبد آثر هواي على هواه إلا أقْلَلْتُ هُمومه وجمعتُ عليه ضيعته ونزعتُ الفقر من قلبه وجعلتُ الغنى بين عينيه واتجرت له من وراء كُل تاجرٍ. وعزتي وجلالي ما من عبد آثر هواهُ على هواي إلا كثرتُ همومه وفرقت عليه ضيعته ونزعتُ الغنى من قلبه، وجعلت الفقر بين عينيه ثم لم أبالي في أي أوديتها هلك.
حكمــــــة
قال بعض العلماء: إذا بلغك عن صديق لك ما تكره فإيَّاك أن تُبادره بالعداوة وقطع الولاية فتكون ممَّن أزال يقينهُ بشك؛ ولكن إلقه وقُل له بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تُسمِّيْ لهُ المبلِّغ، فإن أنكر ذلك فادفع بالتي هي أحسن واعفُ عنه ولا تزد على ذلك شيئًا. وإن اعترف بذلك فرأيت لهُ في ذلك وجهًا لعذر فاقبل منه، و إن لم تُرد ذلك، فقلْ لهُ: ماذا أردت بما بلغني عنك، فإن ذكر ما له وجهٌ من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجهًا لعذرٍ وضاق عليك المسلكُ فحينئذٍ أثبتها عليه. ثم أنت بعد ذلك بالخيار إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، و إن شئت عفوتَ عنه، والعفوُ أقربُ للتقوى وأبلغ في الكرم فإن نازعتك نفُسكَ بالمكافأة، فأفكر فيما سبق لديك من الإحسان فعاجل لهُ إحسانًا بهذه السيئة، ولا تبخس باقي إحسانَهُ السالف بهذه السيئة، فإنه ظلم.
حكمــــــة
قال الحسن البصري: لمَّا أهبط آدم أوحى الله إليه أربعٌ فيهن جماع الأمر لك ولولدك من بعدك. أما واحدة: فلي. وأما الثانية: فلك. وأما الثالثة: فبيني وبينك. وأمَّا الرابعة: فبينك وبين الناس. أمَّا التي لي فتعبدني ولا تشرك بي شيئًا. وأمَّا التي لك فعملك أجزيكهُ أفقر ما تكون إليه. وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة. وأما التي بينك وبينَ الناس فتُصاحِبُهُم بما تُحبُّ أن يُصاحبُوكَ به. أربعٌ من حصل عليها واجتمعت عنده اجتمع له خير الدنيا والآخرة: امرأة صالحة عفيفة، وصديقٌ موافق على طاعة الله، ومال من حلال واسع ينفقه في مراضي الله، وعمل صالح.
حكمــــــة
عن عطاء الحسن الخرساني أنه كان يقول: إني لا أوصيكم بدنياكم أنتم مُستوصون بها، وأنتم عليها حراص. وإنما أوصيكم بآخرتكم، فخذوا من دار الفناء لدار البقاء، واجعلوا الموت كشيء ذقتُموه، فوالله لتذوقُنَّه، واجعلوا الآخرة كشيء نزلتموه فوالله لتنزُلُنَّها، وهي دار الناس كلهم، ليس من الناس أحد يخرج لسفر إلا أخذ له أهبته، فمن أخذ لسفره الذي يُصلحُهُ اغتبط. ومن خرج إلى سفر لم يأخذ له أهبتهُ ندم، فإذا أضحى لم يجد ظلاً، وإذا ظمئ لم يجد ماء يتروى به، وإنما سفرُ الدنيا منقطع، وأكيس الناس من قام يتجهَّز لسفر لا ينقطعُ.
حكمــــــة
المعاصي تنقسم إلى قسمين: قسم ذنوب جوارح ظاهرة، مثل القذف، والغيبة، والظلم، والاغتصاب، والقتل، والزنا، واللواط، والسرقة ونحو ذلك. والقسم الثاني: وهي ذنوب القلوب، وهن المهلكات القاصمات، ومنها: الشرك، والشك، والنفاق، والكفر، والاغترار بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله. ومنها احتقار الذنوب والتهاون بها والتسويف بالتوبة والإنابة والإصرار على المعاصي والرياء والتيه والكبر والعجب والخيانة والغدر والحسد والغل والحقد والبغض. وسوء الظن والجفاء والقطيعة والعقوق والقسوة والشح والحرص والشره على ما لا ينبغي الحرص والشره عليه. ومنها: الطغيان بالمال والقوة والجاه واحتقار النعم والاحتقار بمصائب الدين، ومنها الاستهانة بعلم الله ونظره وسمعه وإطلاعه. ومنها: قلة الحياء من الله عز وجل وتقدس وقلة الحياء ممن على اليمين وعلى الشمال من الملائكة عند فعلك ما يكرهه الله ونحو ذلك من الذنوب التي لا يسلم منها إلا من عصمه الله.
حكمــــــة
قال ابن الجوزي: يا عجبًا كيف أنس بالدنيا مفارقها! وأمن النار واردها! كيف يغفُل من لا يُغفل عنه! كيف يفرحُ بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته وسنتُه تهدم عمُره! كيف يلهو من يقوده عُمُره إلى أجله وحياته إلى موته! إخواني: الدنيا في إدبار، وأهلُها منها في استكثار، والزارع فيها غير التقي لا يحصُدُ إلا الندم.
حكمــــــة
عن أبي بكر بن عياش قال: قال لي رجُلٌ مرَّة وأنا شابٌّ خلِّصْ رقبتك ما استطعت في الدنيا من رقِّ الآخرة. فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبدًا، قال أبو بكر: فما نسيتُها أبدًا. وكان يقومُ الليل في قباء صُوف وسراويل وعُكازة يضعُها في صدره فيتكيءُ عليها حين كبرُ فيُحْيي ليْلَتَهْ ويُذكِّرِهُ حَمْلُ العَصَى بالسَّفرِ إلى الآخرة.
حكمــــــة
عن أبي معشر قال: رأيتُ عونَ بن عبدالله في مجلس أبي حازم يبكي ويمسحُ وجههُ بدُموعه. فقيل له: لم تمسح وجْهَكَ بدمُوعِكَ؟ قال: بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانًا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار. وقال: قلبُ التائب بمنزلة الزُجَاجة يُؤثِّر فيها جميعُ مَا أصابها، فالموعظة إلى قلوبهم سريْعة وهُمْ إلى الرقة أقرب. فداوُوا القلوب بالتوبة فلرُبَّ تائب دعته توبتُهُ إلى الجنة حتى أوفدتْهُ عليها، وجالسوا التوابين، فإن رحمة الله إلى التوابين أقرب.
حكمــــــة
كان السلف أحرص ما يكونون على أوقاتهم؛ لأنهم يعرفون قيمة الوقت وأنه إذا فات لا يُستدرك فهو أعز شيء يُغار عليه أن ينقضي بدون عملٍ صالح. فالوقت ينقضي وينصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظم فواته واشتدَّت حسراتُه. فكيف حالُه إذا علم عند تحقق الفوات مقدار ما أضاع، وطلب الرجُوع فحيل بينه وبينه، وطلب تناول الفائت، وكيف يُردُ الأمسُ الفائت في اليوم الجديد.
حكمــــــة
قال شيخ الإسلام: القلبُ لا يصلح ولا يفلح ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحُبه والإنابة إليه، ولو حصل له كُل ما يلتذُ به من المخلوقات لم يطمئنَّ ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هُو معبودُهُ ومحبوبُه ومطلوبُه، وذلك يحصل له الفرح والسرور واللذةُ والنعمةُ والسُكونُ والطمأنينة. وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، ولا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائمَا مفتقرٌ إلى حقيقة إيَّاك نعبدُ وإيَّاك نستعين. فهو مفتقرٌ إليه من حيث هو المطلوب المحبوبُ المعبودُ ومن حيثُ هو المُستعانُ به المتوكلُ عليه. فهو إلهه لا إله لهُ غيرهُ وهو ربُّهُ لا ربَّ له سواهُ ولا تتمُ عبوديتُه إلا بهذين.
حكمــــــة
مر عبدالله بن جعفر على عبد في بُستان معه ثلاثةُ أقراص شعير، فأتاه كلب فرمى إليه بأول قُرص، ثم رمى بالثاني، ثم بالثالث، فسأله جعفرُ: ما هُو قُوتُ يومِكَ؟ فقال: هو ما رأيتَ، قال: ما حملك على هذا؟ قال: آثرتُ الكلب على نفسي؛ لأنه أتى من بعيد جائعًا. قال: وما تفعلُ في يومك؟ قال: أطويه بلا طعام، فاشترى البُستان واشترى العبد من سيده وأعتقه ووهبَهُ البُستان.
حكمــــــة
خرج عبدالله بن المبارك إلى الحج مع جماعة وبعد مسيرهم مرحلة خرج في الصباح من الخيمة، فوجد صبية آتت إلى مطرح القمامة وأخذت منها دجاجة مُلقاةً ميتة وذهبت بها فتبعها عبدالله فوجدها دخلت في خيمةٍ مُهلهلة أي خلقة وفيها ولدٌ صغير، فقال لها: لِمَ أخذت الدجاجة الميتة؟ فقالت: أنتُم رميتموها، فقال: ألا تعلمين أنه لا يحل أكلها؟ فقالت: إنها تحل لنا لشدة فقرنا، فذهب عبدالله بن المبارك إلى وكيله، وقال له: ما الذي معكَ؟ قال: ألف دينار، قال: أبق منها ما يُوصِلُنا إلى بلدنا وادفع للأنثى الباقي وسنحُجُّ في العام المقبل إن شاء الله.
حكمــــــة
مَرَّ أبو هريرة بسوق المدينة فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة، قال: ميراث رسول الله يُقْسَمُ وأنتمُ هاهُنا ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم فيه؟ قالوا: وأين هو يا أبا هريرة؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعًا ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعُوا، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نرى شيئًا يقسم. فقال لهم أبو هريرة: وما رأيت في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى رأينا قومًا يصلون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام. فقال لهم أبو هريرة: ويحكم فذاك ميراث محمد
حكمــــــة
عن ابن مسعود، قال: كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتتخذ سُّنة فإن غيرت يومًا، قيل: هذا منكر!! قال: ومتى ذلك؟ قال: إذا قَلَّتْ أُمناؤكم وكثُرتْ أمراؤكم وقَلَّتْ فُقَهاؤكم وكَثُرتْ قُرَّاؤكم وتُفُقِّهَ لغير الدين والتمست الدنيا بعمل الآخرة، قلتُ: هذا موجود الآن بكثرة، فتأمل ودقِّق النظر!!
حكمــــــة
صلى تميم الداري ليلةً حتى أصبح أو قارب الصبح وهو يقرؤ آيةً ويُرددها ويبكي:أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. وقام مرة بعدَ أن صلى العشاء في المسجد فمرَّ بهذه الآية وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ فما خرج منها حتى سمع أذان الصبح.
حكمــــــة
عن الأعمش عن خيثمة، قال: تقول الملائكة: يا رب عبدك المؤمن تزوي عنه الدنيا، وتعرضه للبلاء، قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن ثوابه، فإذا رأوا ثوابه، قالوا: يا رب لا يضره ما أصابه في الدنيا. قال: ويقولون عبدك الكافر تزوي عنه البلاء وتبسط له الدنيا، قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن عقابه، قال: فإذا رأوا عقابه، قالوا: يا رب لا ينفعه ما أصابه من الدنيا.
حكمــــــة
قال الشيخ تقي الدين: من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم من الشدة والضر ما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه ولا يرجون أحدًا غيره. فتتعلق قلوبهم به لا بغيره فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه والبراءة من الشرك ما هو أعظم من زوال المرض والخوف والجُدْب والضر. اهـ.
حكمــــــة
علامات الشَّقَاوَةِ أربعة: نسيان الذنوب الماضية وهي عند الله محفوظة، وذكر الحسنات الماضية ولا يدري أقبلتْ أم رُدَّت، ونظره إلى من فوقه في الدنيا، ونظره إلى من دُونه في الدين. وعلامات السعادة أربعة: ذكر الذنوب الماضية، ونسيان الحسنات الماضية، ونظره إلى من فوقه في الدين، ونظره إلى من دُونه في الدنيا.
حكمــــــة
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: إخواني الأيام لكم مطايا، فأين العُدة قبل المنايا؟ أين الأنفة من دار الأذايا؟ أين العزائم؟ أترضون الدنايا؟ إنَّ بلية الهوى لا تشبه البلايا وإن خطيئة الإصرار لا كالخطايا، وإن سريَّة الموت لا كالسرايا، وقضية الأيام لا كالقضايا، وملك الموت لا يقبل الهدايا. فيا مستورين ستطهر الخبايا، أيها المستوطن بيت غُروره، تأهب لإزعاجكْ، أيها المسرور بقصوره، تهيأ لإخراجْك. خُذْ عُدَّتك وقم في قضاء حاجتك قبل فراق أولادك، وأزواجك، ما الدنيا دار مقامك، بل محثًا لإدلاجك.
حكمــــــة
قال عمر بن ذر: لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم، ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم، قاموا إلى الله سبحانه وتعالى فرحين مُستبشرين بما قد وهبهم الله من السهر وطُول التَّهجُدِ، فاستقبلوا الليل بأبدانِهم وباشر ظلمتَهُ بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليلُ وما انقضت لذَّاتهُم مِن التلاوة ولا ملَّتْ أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولى بربحٍ وغبن. فاعملوا لأنفسكم في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الدنيا والآخرة.
حكمــــــة
يا من أعماله إذا تُؤمِّلتْ سقط، كم أثبت له عمل فلما عدم الإخلاص سقط، يا حاضر الذهن في الدنيا، فإذا جاء الدين خلطْ، يجعل همَّهُ في الحساب فإذا صلى اختلط. يا ساكتًا عن الصواب فإذا تكلم لغط، يا قريب الأجل وهو يجري من الزلل على نمَطْ. يا من لا يعظه وهنُ العظم ولا كلامُ الشَّمطْ، يا من لا يرعوى ولا ينتهي، بل على منهاج الخطيئة فقط، ويحك بادر هذا الزمان فالصحة غنيمة والعافية لقطْ. فكأنك بالموت قد سلَّ سيفهُ عليك واخترط، أين العزيز في الدنيا؟ أين الغني المغتبط؟ خيَّم بين القبور، وضرب فسطاطه في الوسط، وبات في اللحد كالأسير المرتبط. واستلبت ذخائره ففرغ الصندوق والسفط، وتمزق الجلد المستحسن وتمعط الشعر فكأنه ما رجله وكأنه ما امتشط ورضي وُرَّاثُه بما أصابُوه وجعلُوا نصبه السخط. وفرقوا ما كان يجمعه بكف البخل والقنط ووقع في قفر لا ماء فيه ولا حنط وكم حُدِّثَ أن سعد بن معاذ في القبر انضغط، وكم حُذِّر من المعاصي، وأخبر أن آدم بلقمة زل فهبط.
حكمــــــة
عن وهب بن منبه قال: قال الحواريون: يا عيسى، من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها فأماتوا ما خشوا أن يميتهم، وتركُوا ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتًا، وفرحُهم بما أصابوا منها حُزنًا، فما عارضهم منها رفضوه، أو من رفعتها بغير الحق وضعوه. خلقت الدنيا عندهم فلم يجددوها، وخربت بينهم فلم يعمروها، وماتت في صدورهم فليسوا يُحْيُوها. يهدمُونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها وكانوا برفضها فرحين، وباعوها وكانوا ببيعها رابحين. نظروا إلى أهلها صرعى قد حلت بهم المثلات، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره. لهم خبر عجيب، و عندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم عُلم الكتاب وبه علموا فليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا ولا أمانًا دون ما يرجون ولا خوفًا دُونَ ما يحذرون
حكمــــــة
أرسل عمر إلى الكوفة من يسأل عن سعد فكان الناس يثنون عليه خيرًا حتى سُئل عنه رجل من بني عبس، فقال: أما إذا أنشدتمونا عن سعد فإنه كان لا يخرج في السرية ولا يعدل بالرعية ولا يقسم بالسوية. فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا قام رياء وسمعة فأطل عره وعظم فقره وعرضه للفتن. فكان يُرى وهو شيخ كبير قد تدلَّى حاجباه من الكبر يتعرض للجواري يغمزُهُنَّ في الطرقات، ويقول: شيخ كبير مفتُون أصابتني دعوة سعْد.
حكمــــــة
عن محمد بن سعد يرفعه: أن حكيم بن حزام بكى يومًا، فقال هل ابنه: ما يُبكيك؟ قال: خصالٌ كلها أبكاني: أما أولها: فبطءُ إسلامي حتى سُبقتُ في مواطن كلها صالحة، ونجوتُ يوم بدر واحدٍ، فقلت: لا أخرج أبدًا من مكة ولا أوضعُ مع قُريش ما بقيت. فأقمت بمكة ويأبى الله عز وجل أن يشرح صدري للإسلام، وذلك أني أنظرُ إلى بقايا من قريش لهم أسنان متمسكين لما هم عليه من أمر الجاهلية فأقتدي بهم، ويا ليت أني لم أقتد بهم، فما أهلكنا إلا الإقتداء بآبانا وكُبرائنا.
حكمــــــة
قيل لبعض العلماء: ما خير المكاسب؟ قال: خير مكاسب الدنيا طلب الحلال لزوال الحاجة، والأخذ منه للقوة على العبادة وتقديم فضله الزائد ليوم القيامة. وأمَّا خير مكاسب الآخرة فعلمٌ معمول به نشرته، وعملٌ صالح قدمته، وسُّنةُ حسنةٌ أحييتهَا. قيل: وما شر المكاسب؟ قال: أمَّا شر مكاسب الدنيا فحرام جمعته، وفي المعاصي أنفقته، ولمن لا يطيع ربه خَلَّفْتَه. وأما شر مكاسب الآخرة: فحق أنكرته حسدًا، ومعصية قدمتها إصرارًا، وسُّنة سيئة أحييتها عُدوانًا.
حكمــــــة
قال بعض العلماء: ذكر الله تعالى في ابتداء الأقوال والأفعال أنسةٌ من الوحشة وهداية من الضلال. وحمدُه جل وعلا فرضٌ لازمٌا لكُلِّ أحد على كُلِّ حال؛ لأنه أهلٌ أن يُحمد إن ابتلى، وإن منع، وإن أنال. ففضلُه جل وعلا عمَّ النساء والرجال والكهُولَ والأطفال. ولطف في قدره وقضائه بأهل أرضه وسمائه، فلم يخْلُ من لُطْفِهِ سافلٌ ولا عال.
حكمــــــة
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: استمعْ يا رهين الآفات والمصائب، يا أسير الطارقات النوائب، إياك وإياك الآمال الكواذب، فالدنيا دارٌ وليست بصاحب أما أرتْكَ في فعلها العجائب. فيمن مشى في المشارق والمغارب، ثم أرتك فيك شيب الذوائبْ. أما علمتَ أنَّ سهامَ الموت صَوَائِبْ، لا يَرُدُّهَا مُحَارِبْ، ولا يفوتُها هاربْ، تدبُّ إلينا دبيب الحيَّات والعَقارِبْ، بينما أنْتَ تسمعُ صوتَ مزْهِر صار صَوْت نادِبْ. يا أسير حُبِّ الدنيا إن قتلتك من نطالب كأني بك قدْ بتَّ فرحًا مسرورًا، فأصبحت ترحًا مثبورًا، وتركتَ مالك لِغَيَركَ مَوْفُورًا. وخرج من يدك فصار للكُلِّ شُوْرَى، وعَايَنْتَ ما فَعْلَتَ في الكتاب مَسْطْورًا. وعَلِمْتَ أنك كنتَ في الهوى مَغْرُورًا، واستحالتْ صَبَا الصَّبَا فعادتْ دَبُورًا، وأسكنتَ لحدًا تصيرُ فيه مأسورًا، ونزلت جدثًا خربًا وتركتَ قصرًا معمورًا، ودخلت في خبر كان وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا. أين الوالدان وعما ولدوا؟ أين الجبارون؟ وأين ما قصدوا؟ أين أرباب المعاصي على ماذا وردوا؟ أمَا جَنوا ثمرات ما جنوا وحصدوا، أما قدموا على أعمالهم في مآلهم ووفدوا، أما خلوا في ظلمات القبور. بكوا والله على تفريطهم وانفردوا أما ذَلُّوا وقلوا بعد أن عتوا ومردوا أما طلبو ا زادًا يكفي في طريقهم ففقدوا. عاينوا والله كلَّ ما قدَّموا ووجدُوا، فمنهم أقوام شقوا، ومنهم أقوام سعدوا.
حكمــــــة
قال الإمام أحمد: لا ينبغي أن يجيب في كل ما يُستفتى فيه، وقال: لا ينبغي للرجل أن يُعرض نفسه للفُتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أحدها: أن تكون له نية، وهي أن يخلص لله تعالى، ولا يقصد رياسةً ولا نحوها، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور. الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة، وإلا لم يتمكن من فعل ما تصدَّى له من بيان الأحكام الشرعية. الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته، وإلا فقد عرَّض نفسه لخطر عظيم. الرابعة: الكفَّاية، وإلا أبغضهُ الناس؛ لأنه احتاج إلى الناس وإلى الأخذ مما في أيديهم، فيتضررون منه. الخامسة: معرفة الناس بأن يكون بصيرًا بمكرهم وخداعهم، ليكون حذرًا منهم لئلاً يوقعوه في المكروه.
حكمــــــة
اسمع يا مُضيعَ الزَّمَانَ فيما ينقصُ الإيمان، مُعْرضًا عن الأرباح ومُتعرضٌ للخسران، لقد سُرَّ بفعلكَ الشامتْ. يا من يفرحُ العيد لتحسين لباسه، ويُوقِنُ بالموت وما استعدَّ لباسه ويغتر بإخوانه وأقرانه وجُلَّاسِه، وكأنه قد أمن سُرْعَةَ اختلاسِهْ. يا غافلاً قد طُلِبْ، ويا مُخاصمًا قد غُلِبْ، ويا واثقًا قد سُلِبْ، إيَّاك والدنيا فما الدنيا بدائمة، لقد أبانت للنواظرِ عُيُوبْهَا، وكشفتْ للبصائر غيُوبها، وعدَّدَتْ على المسامع ذُنُوبها، وما مرَّتْ حتى أمرَّت مشرُوبها. فلذاتها مثلُ لمعانِ البرقْ ومُصيبتُها واسعةُ الخرقْ، سوَّتْ عواقبُها بين سُلطان الغرب والشرق، فما نجا منها ذو عدَدْ، ولا سلم فيها صاحبُ عُدَدْ، مزَّقَت الكُلَّ بكفِّ البُدَدْ ثم ولَّتْ فما الْوَت على أحدْ.
حكمــــــة
ما شغل العبد عن الرب فهو مشئومن ومن فاته رضا مولاه فهو محروم، كل العافية في الذكر والطاعة، وكل البلاء في الغفلة والمخالفة، وكل الشفاء في الإنابة والتوبة، وانظر لو أن طبيبًا نصرانيًا نهاك عن شرب الماء البارد لأجل مرض في جسدك لأطعته في ترك ما نهاك عنه، وأنت تعلم أن الطبيب قد يصدُق وقد يكذب، وقد يصيبُ وقد يُخطئ وقد ينصحُ وقد يغشُ، فما بالك لا تترك ما نهاك عنه أنصحُ الناصحين وأصدق القائلين وأولى الواعدين لأجل مرضِ القلب الذي إذا لم تشفَ منه فأنت من أهلك الهالكين.
حكمــــــة
نظر عمر بن عبدالعزيز إلى رجل عنده مُتغيرُّ اللون، فقال له: ما الذي بك؟ فقال: إني ذُقْتُ حلاوة الدنيا فصغُر في عيني زهرتها وملاعبُها، واستوى عندي حجارتُها وذهبُها، ورأيتُ كأن الناس يُساقون إلى الجنة، وأنا أساقُ إلى النار، فأسهرتُ لذلك ليلي، واظمأتُ نهاري، وكلُ ذلك صغيرٌ حقيرٌ في جنبِ عفو الله، وثوابه عز وجل وجنْب عقابه.