2. فوائد من كتاب ورثة الأنبياء لعبد الملك بن محمد عبد الرحمن القاسم
همم عالية : رحم الله وكيع بن الجراح فقد كان يومه كله في طاعة؛ كان يصوم الدهر، وكان يبكر فيجلس لأصحاب الحديث إلى ارتفاع النهار ثم ينصرف فيقيل إلى وقت صـلاة الظـهر، ثم يخرج فيصلي الظهر ويقصد طريق المشرعة التي كان يصعد منها أصحاب الروايا فيريحون نواضحهم، فيعلمهم من القرآن ما يؤدون به الفرض إلى حدود العصر، ثم يرجع إلى مسجده، فيصلي العصر، ثم يجلس فيدرس القرآن ويذكر الله إلى آخر النهار، ثم يدخل إلى منزله فيقدم إليه إفطاره(تاريخ بغداد).
يا طالب العلم : إن للقلوب شهوة وإدباراً؛ فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها، ودعوها عند فترتها وإدبارها(الفوائد).
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لو أعيتني آية من كتاب الله فلم أجد أحدًا يفتحها علي إلا رجلاً ببرك الغماد لرحلت إليه. (السير) .
هذا ابن جرير ينشط لكتابة التاريخ ويقول لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم؟ قالوا: كم يجيء؟ فذكر نحواً من ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: هذا مما يفني الأعمار قبل تمامه. قال: إنا لله، ماتت الهمم (تذكرة الحفاظ).
قال ابن الجوزي محدثاً عن نفسه: كتبت بأصبعي ألفي مجلد، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألفاً (تذكرة الحفاظ).
قال ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ : ومن العلوم علوم لو علمها كثير من الناس لضرهم ذلك، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وليس إطلاع كثير من الناس بل أكثرهم على حكمة الله في كل شيء نافعاً لهم، بل قد يكون ضاراً قال تعالى: "لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" [المائدة: 101].
هذا الإمام الحاكم يصف الرحالين لطلب العلم فيقول: آثروا قطع المفاوز والقفاز على التنعم في الدمن والأوطان، وتنعموا بالبؤس في الأسفار مع مساكنة أهل العلم والأخبار، جعلوا المساجد بيوتهم، وجعلوا غذاءهم الكتابة، وسمرهم المعارضة، استرواحهم المذاكرة، وخلوقهم المداد، ونومهم السهاد، وتوسدهم الحصى. فالشدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء، ووجود الرخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس! فعقولهم بلذاذة السنة غامرة، وقلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة، تعلم السنن سرورهم، ومجالس العلم حبورهم، وأهل السنة قاطبة إخوانهم، وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم(معرفة علوم الحديث).
بين النبى صلى الله عليه وسلم فضل الخروج في طلب العلم فقال: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع» (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).
عن كثير بن قيس قال: كنت جالساً عند أبي الدرداء في مسجد دمشق. فأتاه رجل، فقال: يا أبا الدرداء! أتيتك من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا، ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، قال: فإن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقاً على الجنة»(رواه ابن ماجه) الحديث.
أحد العلماء: (منصور بن عمار) يصف حال الرحلة في طلب العلم وأهلها فيقول عنهم: هم يرحلون من بلد إلى بلد، خائضين في العلم كل واد، فلو رايتهم في ليلهم وقد انتصبوا لنسخ ما سمعوا، وتصحيح ما جمعوا، هاجرين الفرش الوطئ والمضجع الشهي، غشيهم النعاس فأنامهم، وتساقطت من أكفهم أقلامهم، فانتبهوا مذعورين، ودلكوا بأيديهم عيونهم، ثم عادوا إلى الكتابة حـرصاً عليها، لعلمت أنهم حراس الإسلام وخزان الملك العلام، فـإذا قضوا من بعض ما راموا أوطارهم انصرفوا قاصدين ديارهم، فلزموا المساجد وعمروا المشاهد.
قيل للإمام أحمد: أيرحل الرجل في طلب العلم؟ فقال: بلى والله شديداً، لقد كان علقمة بن قيس النخعي والأسود بن يزيد النخعي وهما من أهل الكوفة، كانا إذا بلغهما الحديث عن عمر رضي الله عنه لم يقنعا حتى يرحلا إلى المدينة فيسمعا الحديث منه.
رحل الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده لطلب العلم وعمره عشرون سنة، ورجع إلى بلده وعمره خمسة وستون عاماً، وكانت مدة رحلته خمسة وأربعين عاماً، وسمع فيها العلم وتلقاه عن ألف وسبعمائة شيخ، فلما رجع إلى بلده تزوج وهو ابن خمسة وستين عاماً، ورزق الأولاد، وحدث الناس وعلمهم(تذكرة الحفاظ).
قال رحمه الله محدثاً عن نفسه: كتبت عن ألف شيخ من العلماء وزيادة، وليس عندي حديث إلا أذكر إسناده (تاريخ بغداد).
رحل الإمام الحافظ محمد بن طاهر المقدسي في طلب العلم، وكان ما قال واصفاً حاله أثناء رحلته: بلت الدم في طلبي للحديث مرتين: مرة ببغداد ومرة بمكة؛ وذلك أني كنت أمشي حافياً في سفري لطلب العلم في شدة الحر وعلى الرمضاء المحرقة، فأثر ذلك في جسدي فبلت دماً، وما ركبت دابة قط في طلب الحديث إلا مرة واحدة، وكنت دائماً أحمل كتبي على ظهري في أثناء سفري، حتى استوطنت البلاد وما سألت في حال طلبي للعلم أحداً من الناس مالاً، وكنت أعيش على ما يأتيني الله به من رزق من غير سؤال(تذكرة الحفاظ) .
كان إسحاق بن منصور المروزي من تلاميذ الإمام أحمد، وقد كتب عن الإمام أحمد مجموعة من المسائل الفقهية ثم رجع إلى بلده نيسابور، ثم إنه بلغه أن الإمام أحمد قد رجع عن تلك المسائل وصار يفتي بغيرها، فوضع إسحاق صحفه وكتبه التي فيها تلك المسائل في جراب، وحملها على ظهره، وخرج راحلاً على قدميه من نيسابور إلى بغداد، حتى لقي الإمام أحمد وسأله عن تلك المسائل فأقر له أحمد بما أفتاه به أولاً، وأعجب الإمام أحمد به(تذكرة الحفاظ).
قال أحمد بن سنان الواسطي: بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خباز على طعام أخذه منه، عند خروجه من اليمن.وسرقت ثيابه وهو باليمن، فجلس في بيته ورد عليه الباب، وفقده أصحابه، فجاءوا إليه فسألوه فأخبرهم، فعرضوا عليه ذهباً فلم يقبله، ولم يأخذ منهم إلا ديناراً واحداً، ليكتب لهم به ـ أي أخذ الدينار على أن يكون أجرة لما ينسخه لهم من الكتب ـ فكتب لهم بالأجر، رحمه الله تعالى(البداية والنهاية).
قام بقي بن مخلد برحلتين إلى الشام والحجاز؛ الأولى استغرقت أربعة عشر عاماً والثانية استمرت عشرين عاماً، وكلها كانت على الأقدام ماشياً كما صرح هو بذلك حيث قال: كل من رحلت إليه فماشياً على قدمي(تذكرة الحفاظ).
سئل الشعبي : من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاغتمام، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمام، وبكور كبكور الغراب(السير).
إنما يقطع السفر بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق، ونام الليل كله، فمتى يصل إلى مقصده؟! (الفوائد) .
سافر محمود بن عمر الزمخشري لطلب العلم، فلما كان ببعض أسفاره في بلاد خوارزم، أصابه برد شديد وثلج كثير في الطريق، فسقطت إحدى رجليه من شدة البرد، وكان الزمخشري بعد ذلك معه محضر فيه شهادة خلق كثير، أن رجله سقطت من البرد، لئلا يظن أحد أنها قطعت في حد من الحدود الشرعية(وفيات الأعيان) .
قال تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" (سورة العنكبوت، الآية: 69). قال الفضيل: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به(تفسير النسفي).
سئل أبو القاسم الطبراني عن سبب كثرة حفظه وكتابته للأحاديث فقال: كنت أنام على البواري (أي الحصر التي في المساجد) ثلاثين سنة(تذكرة الحفاظ).
الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما حضرته الوفاة قال لجاريته: ويحك! هل أصبحنا؟ قالت: لا، ثم تركها ساعة، ثم قال: انظري، فقالت: نعم، فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النار، ثم قال: مرحباً بالموت، مرحباً بزائرٍ جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل، ولظمأ الهواجر في الحر الشديد ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر(جامع بيان العلم وفضله).
الإمام البخاري رحمه الله يستيقظ في الليل من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره ، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى، حتى كان يتعدد ذلك منه في الليلة الواحدة قريباً من عشرين مرة(البداية والنهاية).
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» (رواه البخاري ومسلم).
ذكر أبو بكر محمد بن اللباد أن محمد بن عبدوس صلى الصبح بوضوء العتمة ثلاثين سنة، خمس عشرة سنة من دراسة، وخمس عشرة سنة من عبادة(ترتيب المدارك).
قال ابن الجوزي في كتابه «صيد الخاطر» مخـبراً عن حاله في أيام طلبه للعلم: ولقد كنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو أحلى عندي من العسل لأجل ما أطلب وأرجو , كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى ببغداد فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء (لقسوتها وصلابتها) فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث فينقطع نفسي من العدو لئلا أسبق، وكنت أصبح وليس لي مأكل وأمسي وليس لي مأكل، ما أذلني الله لمخلوق قط، ولو شرحت أحوالي لطال الشرح.
قال أبو المعالي الجويني مخبراً عن حاله وقت طلبه للعلم: أنا لا أنـام ولا أحـدد أوقاتاً خاصة للأكل، وإنما أنام إذا غلبتني عيناي على النوم ليلاً كان أو نهاراً، وآكل الطعام إذا اشتهيت الطعام في أي وقت كان.
عن علي رضي الله عنه قال: العلم خير من المال، المال تحرسه والعلم يحرسك، والمال تفنيه النفقة والعلم يزكو مع الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة(جامع بيان العلم وفضله).
مثل المحب للعلم مثل العاشق، فإن العشق يهتم بمحبوبه ويهيم به، وكذلك المحب للعلم، فكما أن العاشق يبيع أملاكه وينفقها على معشوقه فيفتقر، وكذلك محب العلم، فإنه يستغرق في طلبه العمر، فيذهب ماله ولا يتفرغ للكسب(الآداب الشرعية).
سئل عبد الله بن المبارك رحمه الله: من الناس؟ قال: العلماء، قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قيل: فمن السفلة؟ قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين(الإحياء).
قال الإمام ابن الجوزي في كتابه «لفتة الكبد في نصيحة الولد»، متحدثاً لولده عن نشأته ومبتدأ حاله: واعلم يا بني، أن أبي كان موسراً وخلف ألوفاً من المال، فلما بلغت دفعوا لي عشرين ديناراً ودارين، وقالوا لي: هذه التركة كلها، فأخذت الدنانير واشتريت بها كتباً من كتب العلم، وبعت الدارين وأنفقت ثمنها في طلب العلم، ولم يبق لي شيء من المال. وما ذل أبوك في طلب العلم قط، ولا خرج يطوف في البلدان من الوعاظ، ولا بعث رقعةً إلى أحدٍ يطلب منه شيئاً قط، وأموره تجري على السداد: "وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ".
قال ابن الجوزي: تأملت عجباً، وهو أن كل شيء نفيس خطير، يطول طريقه ويكثر التعب في تحصيله، فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي أكل الهريسة ولا أقدر؛ لأن وقت بيعها هو وقت سماع الدرس.
قال الحسن البصري : يوزن مداد العلماء بدم الشهداء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء(الإحياء).
عن مسعر بن كدام قال: أتيت أبا حنيفة في مسجده فرأيته يصلي الغداة، ثم يجلس يعلم الناس العلم إلى الظهر، ثم يصلي ويجلس للناس طول نهاره إلى العشاء، فقلت في نفسي: متى يتفرغ هذا للعبادة، لأتعاهدنه الليلة، فتعاهدته، فلما كان الليل انتصب في المسجد قائماً إلى الصباح فصلى الفجر ثم جلس للناس إلى العشاء الآخرة، ثم فعل في الليلة الآتية كفعلة في الماضية، ثم تعاهدته ففعل ذلك أياماً كثيرة، فقلت: لألزمنه حتى أموت. فيقال: إن مسعرًا مات في مسجد أبي حنيفة وهو ساجد(تاريخ بغداد).
قال الحسن مبيناً أثر العلم على من حمله: قد كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه، وفي لسانه وبصره وبره(الزهد لأحمد).
قال تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" (سورة العنكبوت، الآية: 69). قال الفضيل: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به(تفسير النسفي).
سئل أبو القاسم الطبراني عن سبب كثرة حفظه وكتابته للأحاديث فقال: كنت أنام على البواري (أي الحصر التي في المساجد) ثلاثين سنة(تذكرة الحفاظ).
الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما حضرته الوفاة قال لجاريته: ويحك! هل أصبحنا؟ قالت: لا، ثم تركها ساعة، ثم قال: انظري، فقالت: نعم، فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النار، ثم قال: مرحباً بالموت، مرحباً بزائرٍ جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل، ولظمأ الهواجر في الحر الشديد ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر(جامع بيان العلم وفضله).
الإمام البخاري رحمه الله يستيقظ في الليل من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره ، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى، حتى كان يتعدد ذلك منه في الليلة الواحدة قريباً من عشرين مرة(البداية والنهاية).
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» (رواه البخاري ومسلم).
ذكر أبو بكر محمد بن اللباد أن محمد بن عبدوس صلى الصبح بوضوء العتمة ثلاثين سنة، خمس عشرة سنة من دراسة، وخمس عشرة سنة من عبادة(ترتيب المدارك).
قال ابن الجوزي في كتابه «صيد الخاطر» مخـبراً عن حاله في أيام طلبه للعلم: ولقد كنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو أحلى عندي من العسل لأجل ما أطلب وأرجو , كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى ببغداد فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء (لقسوتها وصلابتها) فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث فينقطع نفسي من العدو لئلا أسبق، وكنت أصبح وليس لي مأكل وأمسي وليس لي مأكل، ما أذلني الله لمخلوق قط، ولو شرحت أحوالي لطال الشرح.
قال أبو المعالي الجويني مخبراً عن حاله وقت طلبه للعلم: أنا لا أنـام ولا أحـدد أوقاتاً خاصة للأكل، وإنما أنام إذا غلبتني عيناي على النوم ليلاً كان أو نهاراً، وآكل الطعام إذا اشتهيت الطعام في أي وقت كان.
عن علي رضي الله عنه قال: العلم خير من المال، المال تحرسه والعلم يحرسك، والمال تفنيه النفقة والعلم يزكو مع الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة(جامع بيان العلم وفضله).
مثل المحب للعلم مثل العاشق، فإن العشق يهتم بمحبوبه ويهيم به، وكذلك المحب للعلم، فكما أن العاشق يبيع أملاكه وينفقها على معشوقه فيفتقر، وكذلك محب العلم، فإنه يستغرق في طلبه العمر، فيذهب ماله ولا يتفرغ للكسب(الآداب الشرعية).
سئل عبد الله بن المبارك رحمه الله: من الناس؟ قال: العلماء، قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قيل: فمن السفلة؟ قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين(الإحياء).
قال الإمام ابن الجوزي في كتابه «لفتة الكبد في نصيحة الولد»، متحدثاً لولده عن نشأته ومبتدأ حاله: واعلم يا بني، أن أبي كان موسراً وخلف ألوفاً من المال، فلما بلغت دفعوا لي عشرين ديناراً ودارين، وقالوا لي: هذه التركة كلها، فأخذت الدنانير واشتريت بها كتباً من كتب العلم، وبعت الدارين وأنفقت ثمنها في طلب العلم، ولم يبق لي شيء من المال. وما ذل أبوك في طلب العلم قط، ولا خرج يطوف في البلدان من الوعاظ، ولا بعث رقعةً إلى أحدٍ يطلب منه شيئاً قط، وأموره تجري على السداد: "وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ".
قال ابن الجوزي: تأملت عجباً، وهو أن كل شيء نفيس خطير، يطول طريقه ويكثر التعب في تحصيله، فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي أكل الهريسة ولا أقدر؛ لأن وقت بيعها هو وقت سماع الدرس.
قال الحسن البصري : يوزن مداد العلماء بدم الشهداء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء(الإحياء).
عن مسعر بن كدام قال: أتيت أبا حنيفة في مسجده فرأيته يصلي الغداة، ثم يجلس يعلم الناس العلم إلى الظهر، ثم يصلي ويجلس للناس طول نهاره إلى العشاء، فقلت في نفسي: متى يتفرغ هذا للعبادة، لأتعاهدنه الليلة، فتعاهدته، فلما كان الليل انتصب في المسجد قائماً إلى الصباح فصلى الفجر ثم جلس للناس إلى العشاء الآخرة، ثم فعل في الليلة الآتية كفعلة في الماضية، ثم تعاهدته ففعل ذلك أياماً كثيرة، فقلت: لألزمنه حتى أموت. فيقال: إن مسعرًا مات في مسجد أبي حنيفة وهو ساجد(تاريخ بغداد).
قال الحسن مبيناً أثر العلم على من حمله: قد كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه، وفي لسانه وبصره وبره(الزهد لأحمد).
عن أبي عصمة بن عصام البيهقي قال: بت ليلة عند أحمد بن حنبل، فجاء بالماء فوضعه، فلما أصبح نظر في الماء فإذا هو كما كان فقال: سبحان الله، رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل(صفة الصفوة).
قال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة(السير).
لما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه أعجبه، لما رأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية(الجواب الكافي).
قال الإمام أحمد: ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به، حتى مر بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً، فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت(السير).
عن أبي سلمة الخزاعي قال: كان مالك إذا أراد أن يخرج يحدث توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (تهذيب الأسماء واللغات).
عن معن بن عيسى قال: كان مالك إذا أراد أن يجلس للحديث اغتسل، وتبخر، وتطيب، فإن رفع أحد صوته في مجلسه قال: قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" فمن رفع صوته عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم (تهذيب الأسماء واللغات).
قال سعيد بن جبير: ربما أتيت ابن عباس، فكتبت في صحيفتي حتى أملأها، وكتبت في نعلي حتى أملأها، وكتبت في كفي، وربما أتيته فلم أكتب حديثاً حتى أرجع، لا يسأله أحدٌ عن شيء(السير).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كل عاص لله فهو جاهل، وكل خائف منه فهو عالم مطيع لله، وإنما يكون جاهلاً لنقص خوفه من الله، إذ لو تم خوفه من الله لم يعصه(الإيمان).
كتب رجل إلى ابن عمر أن اكتب إلي بالعلم كله: فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم، فافعل(السير).
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لميمون بن مهران: إياك والنظر في النجوم؛ فإنها تدعو إلى الكهانة، وإياك والقدر، فإنه يدعو إلى الزندقة، وإياك وشتم أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فيكبك الله في النار على وجهك(روضة العقلاء).
قال وهيب بن الورد: عجباً للعالم كيف تجيبه دواعي قلبه إلى ارتياح الضحك، وقد علم أن له في القيامة روعات ووقفات وفزعات(حلية الأولياء).
قال الإمام الشافعي: من أحب أن يفتح الله له قلبه أو ينوره فعليه بترك الكلام فيما لا يعنيه، وترك الذنوب واجتناب المعاصي، ويكون له فيما بينه وبين الله خبيةٌ من عمل، فإنه إذا فعل ذلك فتح الله عليه من العلم ما يشغله عن غيره، وإن في الموت لأكثر الشغل (مناقب الشافعي للبيهقي).
قال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس(التذكرة).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والله سبحانه جعل مما يعاقب به الناس على الذنوب سلب الهدى والعلم النافع، كقوله: "وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ"، وقال: "وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ" وقال: "وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ" وقال: "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا" وقال: "فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ"(مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية).
عن يزيد بن أبي حبيب رضي الله عنه قال: من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع، وإن وجد من يكفيه فإن في الاستماع سلامة وزيادة في العلم، والمستمع شريك المتكلم في الكلام، إلا من عصم الله، ترمق وتزيد وزيادة ونقصان (الصمت) .
ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه «مدارج السالكين» في منزلة الخشوع: ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيراً: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا في شيء، وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت : أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي قدس الله روحه. فهو يرسم صوراً عملية من التواضع، وإلا فهو من أئمة السلف ومن عائلة علم ودين نفع الله بها الإسلام والمسلمين، ولا تزال مؤلفات عائلة ابن تيمية في الأمة، تصدر عنها وترجع إليها؛ لما فيها من علم والتزام بمنهج السلف الصالح القائم على الكتاب والسنة.
روي عن بشر بن الحارث أنه قيل له: ألا تحدث؟ قال: أنا اشتهي أن أحدث، وإذا اشتهيت شيئاً تركته(السير).
عن أبي داود السجستاني قال: لم يكن أحمد بن حنبل يخوض في شيء يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم تكلم.
لما عزم الإمام مالك على تصنيف «الموطأ» قيل له: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد عمل العلماء الموطآت؟! فقال: ما كان لله بقي.
من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته، وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره، وكلما زيد في عمره نقص من حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم , وعلامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه، وكلما زيد في علمه زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه. وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام(الفوائد).
قال ابن الجوزي مفصلاً الأمر : ما أعرف للعالم قط لذة ولا عزًا ولا شرفاً ولا راحة ولا سلامة أفضل من العزلة؛ فإنه ينال بها سلامة بدنه ودينه وجاهه عند الله عز وجل وعند الخلق؛ لأن الخلق يهون عليهم من يخالطهم، ولا يعظم عندهم قدر المخالط لهم، ولهذا عظم قدر الخلفاء لاحتجابهم وإذا رأى العوام أحد العلماء مترخصاً في أمر مباح هان عندهم. فالواجب عليه صيانة علمه وإقامة قدر العلم عندهم.
متى رزق العالم الغني عن الناس والخلوة، فإن كان له فهم يجلب التصانيف فقد تكاملت لذته، وإن رزق فهماً يرتقي إلى معاملة الحق ومناجاته فقد تعجل دخول الجنة قبل الممات نسأل الله عز وجل همة عالية تسمو إلى الكمال، وتوفيقاً لصالح الأعمال، فالسالكون طريق الحق أفراد (صيد الخاطر).
قال ابن مسعود: لا تعلموا العلم لثلاث: لتماروا به السفهاء، أو لتجادلوا به الفقهاء، أو لتصرفوا وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله؛ فإنه يبقى ويذوب ما سواه (جامع العلوم والحكم).
قال الشافعي: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم -يعني كتبه- على أن لا ينسب إلي منه شيء(السير).
روي عن أبي حنيفة أنه قال: ضحكت مرة وأنا من النادمين على ذلك، وذك أني ناظرت عمرو بن عبيد القدري، فلما أحسست بالظفر ضحكت، فقال لي: تتكلم في العلم وتضحك، فلا أكلمك أبداً. وأنا من النادمين على ذلك، إذ لو لم يكن ضحكي لرددته إلى قولي، فكان في ذلك صلاح العلم(تنبيه الغافلين).
قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه (رواه البخاري).
سئل يحيى بن معين: أيفتي الرجل إذا كان حافظاً لمائة ألف حديث؟ قال: لا، قلت: ومن مائتي ألف حديث؟ قال: لا، قلت: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قلت: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو، أي إذا كان حافظاً خمسمائة ألف حديث يفقهها وأحكامها فهذا هو العالم حقاً الذي ينبغي أن يعتد بقوله ويعمل بفتواه.
روى ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد عن عبد الرحمن البغوي قال: مر علي أحمد بن حنبل جائياً من الكوفة ومعه كيس فيه كتب فقلت له: إلى متى وأنت تطلب العلم؟ إذا كتب الرجل ثلاثين ألف حديث ألا يكفيه ذلك؟ فسكت عني، فقلت: ستين ألف؟ فسكت عني، فقلت: مائة ألف حديث؟ فقال أحمد: إذا كتـب مـائة ألف حـديث فحينئذ يكون قد عرف شيئاً من العلم .
قال الإمام أبو هلال العسكري : إذا كنت أخي ترغب في سمو القدر ونباهة الذكر، وارتفاع المنزلة بين الخلق، وتلتمس عزاً لا تثلمه الأيام والليالي، وإذا كنت تلتمس هيبة من غير سلطان، وغنى من غير مال، ومنعة بغير سلاح، وعلاء من غير عشيرة، وأعواناً بغير أجر، وجنداً بلا ديوان وفرض «أي راتب» فعليك بالعلم، فاطلبه في مظانه تأتيك المنافع عفواً، وتلق ما يعتمد منها صفواً، واجتهد في تحصيله ليالي قلائل، ثم تذوق حلاوة الكرامة مدة عمرك.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه «مفتاح دار السعادة» وهو يحدث عن سلطان العلم وهيبته وعزته في النفوس والقلوب فيقول : سلطان العلم أعظم من سلطان اليد، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجة تنقاد لها القلوب، وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن، فالحجة تأسر القلب وتقوده، بل سلطان الجاه إذا لم يكن معه علم يساس به فهو بمنزلة سلطان السباع والأسود ونحوها، قدرة بلا علم ولا رحمة، بخلاف سلطان الحجة فإنه قدرة بعلم ورحمه وحكمة وسلطان العلم نراه واقعاً ملموساً في حياتنا لا يحتاج إلى بسط وإيضاح، فمن يذهب للعلماء للسلام عليهم أكثر بكثير ممن يذهب إلى الوزراء والحكام وغيرهم من أهل الدنيا!!
قال ابن جريج: كان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح عشرين سنة! وقال إسماعيل بن أمية: كان عطاء يطيل الصمت، فإذا تكلم خيل إلينا أنه مؤيد. وكان أسود، أعور، أفطس، أشل، أعرج، ثم عمي! ففي جسمه ستة عيوب، ولكنه كان ركناً من أركان العلم والدين والصلاح والقدوة، وكان ثقة فقيهاً، حج نيفا على سبعين حجة(تذكرة الحفاظ).
قال الزبير بن أبي بكر: كتب إلي أبي وهو بالعراق يقول لي: عليك بالعلم؛ فإنه إن افتقرت كان لك مالاً، وإن استغنيت كان لك جمالاً.
جمع معاذ بن جبل رضي الله عنه فضائل العلم فقال: تعلموا العلم، فإن تعلمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، ألا إن العلم سبيل منازل أهل الجنة، وهو المؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء، والمعين على الضراء، والزين عند الأخلاء، والسلام على الأعداء، يرفع الله له أقواماً فيجعلهم في الخير قادة أئمة، تقتفى آثارهم، ويقتدى بأفعالهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسهم، ويصلي عليهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوام الأرض وسباع البر والبحر والأنعام، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصباح الأبصار من الظلمة، وقوة الأبدان من الضعف، ويبلغ بالعبد منازل الأخيار والأبرار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، والتفكر فيه يعدل بالصيام، ومذاكرته تعدل بالقيام، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام والعمل تابعه، ويلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء(تنبيه الغافلين).
قال أبو الأسود : ليس شيء أعز من العلم ، الملوك حكام على الناس ، والعلماء حكام على الملوك(الإحياء).
قال الإمام أحمد بن حنبل: الناس يحتاجون إلى العلم مثل الخبز والماء؛ لأن العلم يحتاج إليه في كل ساعة، والخبز والماء في كل يوم مرة أو مرتين(شذرات الذهب).
قال ابن القيم في مدح الفقهاء والعلماء : فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعـد الحـلال مـن الحرام، فهم في الأرض بمنـزلة النجوم في السماء، بهم يهتدى في الظلماء، حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ" قال ابن عباس رضي الله عنهما في إحدى الروايتين عنه، وجابر بن عبد الله، والحسن البصري وأبو العالية، وعطاء والضحاك، ومجاهد في إحدى الروايتين عنه: أولو الأمر هم العلماء. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: هم الأمراء. وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس. والتحقيق: أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء (إعلام الموقعين لابن القيم).
قال سهل التستري: الناس كلهم موتى إلا العلماء، والعلماء كلهم سكارى إلا العاملون بالعلم، والعاملون مغرورون إلا المخلصون، والمخلصون على خطر.
قال الإمام الآجري: فما ظنكم - رحمـكم الله - بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيروا، فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس، لابد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟ هكذا العلماء في الناس، لا يعلم كثير من الناس كيف أداء الفرائض ولا كيف اجتناب المحارم، ولا كيف يعبد الله في جميع ما يعبد به خلقه إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحير الناس، ودرس العلم بموتهم، وظهر الجهل(أخلاق العلماء).
قال أبو الوفاء ابن عقيل وهو يصف ما لأهل العلم عند الله تعالى : حاشا المبدئ الخالق لهم على تلك الأشكال والعلوم، أن يرضى لهم بتلك الأيام اليسيرة، لا والله لا رضي لهم إلا بضيافة تجمعهم على مائدة تليق بكرمه سبحانه، نعيم بلا ثبور، وبقاء بلا موت، واجتماع بلا فرقة، ولذات بغير نغصة.
عن محمد بن سلام الجمحي قال: قيل للخليفة المنصور: هل بقي من لذات الدنيا شيء لم تحصله؟ فقال: بقيت خصلة أن أقعد على سرير المدرس وحولي طلاب الحديث فيقول المستملي: حدثنا، فأقول: حدثنا فلان عن فلان..... عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال محمد بن سلام : فلما كان الصباح غدا الوزراء وأبناؤهم، ومعهم المحابر والدفـاتر، ودخـلوا على المنصور ليكتبوا عنه الحديث ويحققوا له ما تمناه، فلما رآهم المنصور قال: لستم بأصحاب الحديث الذين أريدهم إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الرحالون في البلدان(تاريخ الخلفاء).
قال المزني: كان الشافعي رحمه الله إذا رأى شيخاً (أي كبير السن) سأله عن الحديث والفقه، فإن كان عنده شيء من العلم سكت عنه وإلا قال له: لا جزاك الله خيراً عن نفسك ولا عن الإسلام، قد ضيعت نفسك وضيعت الإسلام (مفتاح دار السعادة).
إن العلماء لهم سهام من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، يجري لهم الخير حتى بعد موتهم لما نشروه من العلم وما بينوه للناس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا مات الإنسان (وفي رواية ابن آدم) انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم.
قال كميل النخعي: خرجت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الجبانة (أي الخلاء) فقال لي: يا كميل! الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وسائر الناس همج رعاع؛ أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح. العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.
توعد الله عز وجل من أعرض عن العلم الواجب عليه وعن تعلمه بوعيد شديد فقال تعالى: "وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ" . قال ابن القيم رحمه الله والمعنى أن من نسي ربه أنساه الله ذاته ونفسه، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده، فصار معطلاً مهملاً بمنـزلة الأنـعام السائبة، بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه. ونسيان الإنسان لربه بمعنى إعراضه عن دينه وتركه لتعلم شرعه وأوامره.
قال ابن القيم رحمه الله : العلم حياة ونور، والجهل موت وظلمة، والإنسان إنما يتميز عن غيره من الحيوانات بفضيلة العلم والبيان، وإلا فغيره من الدواب والسباع أكثر أكلاً منه وأقوى بطشاً، وإنما ميز على الحيوانات بعلمه، فإذا عدم العلم بقي معه القدر المشترك بينه وبين سائر الدواب وهي الحيوانية المحضة فلا يبقى فيه فضل عليهم. والمقصود أن الإنسان إذا لم يكن له علم بما يصلحه في معاشه ومعاده كان الحيوان البهيم خيراً منه لسلامته في المعاد مما يهلكه دون الإنسان الجاهل.