فوائد من كتاب ذم الدنيا 2
عن الحسن قال : يحشر الناس كلهم عراة ما خلا أهل الزهد . كتب إبراهيم بن أدهم إلى أخ له فجاء في كتابه : أرفض ياأخي حب الدنيا فإن حب الدنيا يعمي ويصم .
عن عبيد بن عمير قال : الدنيا أمد والآخرة أبد . قال الحسن البصري : ليس من حبك الدنيا طلبك ما يصلحك فيها ومن زهدك فيها ترك الحاجة يسدها عنك تركها من أحب الدنيا وسرته ذهب خوف الآخرة من قلبه .
قال بعض الحكماء : يا معشر أبناء الدنيا لكم في الظاهر اسم الغنى ولأهل التقلل نفس هذا المعنى حرمتم التفكه بما حوته أيديكم لفادح التعب وعوضتم منه خوف نزول الفجائع به وارتقاب وصول الآفات إليه خدعتم ومالك المقادير عن حظكم دأبت الدنيا أن تسوغكم حلاوتها وما استدر لكم من ضرعها حتى وكلتم بطلب سواه لتمتعكم مما حصل منها لكم وتصدكم عن التمتع به بأشغالكم بمستأنف تحمدون فيه أنفسكم مما يعز مطلبه عليكم وتبذلون فيه راحتكم فإن وصلتم إليه لحق بالأول من المدخر وأنشأت لكم وطرا في غرة كذلك أنتم وهي ما صحبتموها بالرغبة منكم فيها .
كانت آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين وسيتركها الباقون كما تركها الماضون ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غاديا أو رائحا إلى الله وتضعونه في صدع من الأرض ثم في بطن صدع غير ممهد ولا موسد قد خلع الأسلاب وفارق الأحباب وأسكن التراب وواجه الحساب فقيرا إلى ما قدم أمامه غنيا عما ترك بعده أما والله إني لأقول لكم هذا وما أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي قال : ثم قال بطرف ثوبه على عينه فبكى ثم نزل فما خرج حتى أخرج إلى حفرته .
عن ثابت قال : لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم قال إبليس لشياطينه : لقد حدث أمر فانظروا ما هو فانطلقوا ثم جاءوه فقالوا : ما ندري قال إبليس : أنا آتيكم بالخبر فذهب فقال : بعث محمد عليه السلام قال : فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فيجيئون بصحفهم ليس فيها شيء فقال : ما لكم ؟ أما تصيبون منهم شيئا ؟ قالوا : ما صحبنا قوما قط مثل هؤلاء نصيب منهم ثم يقومون إلى صلاتهم فيمحى ذلك قال إبليس : رويدا لهم عسى أن تفتح لهم الدنيا هنالك تصيبهم حاجتكم منهم .
قال عون بن عبد الله بن عتبة : ويحي كيف تشتد حاجتي إلى الدنيا وليست بداري ؟ أم كيف أجمع لها وفي غيرها قراري وخلدي ؟ أم كيف تعظم رغبتي فيها والقليل منها يكفيني ؟ أم كيف آمن فيها ولا يدوم فيها حالي ؟ أم كيف يشتد حرصي عليها ولا ينفعني ما تركت منها بعدي ؟ أم كيف أوثرها وقد ضرت من آثرها قبلي أم كيف لا أبادر بعملي من قبل أن تنصرم مدتي ؟ أم كيف لا أعرض نفسي لما لا يقوى هوائي ؟ أم كيف يشتد عجبي بها وهي مزايلتي ومنقطعة عني ؟ .
عن سفيان الثوري قال : كان من دعائهم : اللهم زهدنا في الدنيا ووسع علينا منها ولا تزوها عنا فترغبنا فيها . قال إبراهيم بن أدهم : الأجر كريم يغضب على الدنيا .
عن الحسن قال : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا أكياسا عملوا صالحا وأكلوا طيبا وقدموا فضلا ولم ينافسوا أهل الدنيا في دنياهم ولم ينافسوهم في عزها ولم يجزعوا لذلها أخذوا صفوها وتركوا كدرها والله ما تعاظم في أنفسهم حسنة عملوا ولا تصغر في أنفسهم سيئة .
قال إبراهيم التيمي : إن من كان قبلكم كانت الدنيا مقبلة عليهم وهم يفرون منها ولهم من العزم ما لهم وإنكم تطلبون الدنيا وهي مدبرة عنكم ولكم من الأحداث ما لكم فقيسوا أمركم وأمرهم .
قال شريح : تهون على الدنيا الملامة كن حريصا على استخلاصها من تلوثها . عن مسروق في قول السائل : أين الزاهدون في الدنيا والراغبون في الآخرة ؟ قال مسروق : ما كنت أفضل عليهما شيئا .
لقي ذو القرنين ملكا من الملائكة فقال : علمني علما أزداد به إيمانا ويقينا قال : إنك لا تطيق ذلك قال : لعل الله يطوقني قال : لا تغتم لغد واعمل في اليوم لغد وإن أتاك الله من الدنيا سلطانا أو مالا فلا تفرح به وإن صرف عنك فلا تأس عليه وكن حسن الظن بالله عز و جل وضع يدك على قلبك فما أحببت أن تصنع بنفسك فاصنعه بأخيك ولا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب ورد الغضب بالكظم وسكنه بالتؤدة وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك وكن سهلا لينا للقريب والبعيد ولا تكن جبارا عنيدا .
عن عاصم الأحول قال : بلغني أن ابن عمر سمع رجلا يقول : أين الزاهدون في الدنيا والراغبون في الآخرة ؟ فأراه قبر النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر وعمر وقال : عن هؤلاء تسأل .
قال عبد الله بن مسعود : لوددت أني من الدنيا فرد كالراكب الغادي الرائح . قال الحسن : ما من مسلم يرزق رزق يوم بيوم ولا يعلم أنه قد خير له إلا عاجز أو قال : غبي الرأي .
قال أبو الدرداء : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما أوى إليه . قال بعض الحكماء : كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره وشهره سنته وسنته عمره وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله وتقوده حياته إلى موته ؟ !
عن عبد الله قال : أنبأنا بعض أهل البصرة أن مطرف بن الشخير ماتت امرأته أو بعض أهله فقال أناس من إخوانه : انطلقوا بنا إلى أخيكم مطرف حتى لا يخلو به الشيطان فيدرك بعض حاجته منه فأتوه فخرج عليهم دهينا في هيئة حسنة فقالوا : خشينا شيئا فنرجو أن يكون الله قد عصمك منه وأخبروه بالذي قالوا : فقال مطرف : لو كانت لي الدنيا كلها فسئلتها بشربة يوم القيامة لافتديت بها
قيل لبعض الحكماء : صف لنا قدر الدنيا ومدة البقاء ؟ فقال : الدنيا وقتك الذي يرجع إليك فيه طرفك لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه وما لم يأت فلا علم لك به الدهر يوم مقبل تنعاه ليلته وتطويه ساعته وأحداثه تتصل في الإنسان بالتغيير والنقصان والدهر موكل بتشتيت الجماعات وانخرام الشمل وتنقل الدول والأمل طويل والعمر قصير وإلى الله تصير الأمور .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : من زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات .
قال رجل من عبد القيس : أين تذهبون ؟ بل أين يراد بكم وحادي الموت في أثر الأنفاس حثيث موضع وعلى اجتياح الأرواح من منزل الفناء إلى دار البقاء مجمع وفي خراب الأجساد المتفكهة بالنعيم مسرع .
قال عبد العزيز أبو مرحوم : دخلنا مع الحسن على مريض نعوده فلما جلس عنده قال : كيف تجدك ؟ قال : أجدني أشتهي الطعام فلا أقدر أن أسيغه وأشتهي الشراب فلا أقدر على أن أتجرعه قال : فبكى الحسن وقال : على الأسقام والأمراض أسست هذه الدار فهبك تصح من الأسقام وتبرأ من الأمراض هل تقدر على أن تنجو من الموت ؟ قال : فارتج البيت بالبكاء .
عن ضمرة بن ربيعة قال : رأيت شيخا بعسقلان وقد اجتمع عليه الناس وهو يقول : عجبت من الناس أنهم ينظرون إلى الموتى في كل يوم ينقلون وهم في الدنيا في غلفة يلعبون ثم غشي عليه .
عن الحسن البصري قال : مسكين ابن آدم رضي بدار حلالها حساب وحرامها عذاب إن أخذه من حله حوسب بنعيمه وإن أخذه من حرام عذب به ابن آدم يستقل ماله ولا يستقل عمله يفرح بمصيبته في دينه ويجزع من مصيبته في دنياه .
عن عبد الله بن أبي نوح قال : سمعت رجلا من العباد يقول : ما تكاملت المروءة في امرئ قط إلا لذي المعروف وهانت عليه الدنيا .
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز : سلام عليك أما بعد فكأنك بآخر من كتب عليه الموت وقد مات فأجابه عمر : سلام عليك أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل .
عن فضيل بن عياض قال : سمعته يقول : قال عيسى بن مريم : إنكم لن تدركوا ما تريدون إلا بترككم ما تشتهون ولا تنالون ما تأملون إلا بصبركم على ما تلهون ويل لصاحب الدنيا كيف يموت ويتركها ويأمنها وتخونه ويثق بها وتخدعه ويل للمغترين بالدنيا كيف أزفهم ما يكرهون وفارقهم ما يشتهون وجاءهم ما يوعدون ويل لمن الدنيا همه والخطايا عمله كيف يفتضح غدا .
عن سالم بن أبي الجعد : قال : عيسى بن مريم : اتقوا فضول الدنيا فإنها رجس عند الله . قال فضيل بن عياض لأبي تراب : الدخول في الدنيا هين لكن التخلص منها شديد .
قال بن عيينة : قال عيسى بن مريم : كانت الدنيا ولم أكن فيها وتكون ولا أكون فيها وإنما لي فيها أيامي التي أنا فيها فإن شقيت فيها فأنا شقي .
عن فضيل بن عياض قال : إن رجلا من الحواريين قام إلى عيسى فقال : يا روح الله حدثني عن النفر الزهاد الذين لقيهم يونس بن متى لعل ذلك ينبه أبناء الدنيا من رقدة الغفلة ويخرجهم من ظلمة الجهل فرب كلمة قد أحيت سامعها بعد الموت ورفعته بعد الضعة ونعشته بعد الصرعة وأعنته بعد الفقر وجبرته بعد الكسر ويقظته بعد الوسنة فنقبت عن قلبه ففجرت فيه ينابيع الحياة فسالت فيه أودية الحكمة وأنبتت فيه غراس الرحمة إذا وافق ذلك القضاء من الله .
عن علي بن عبد الله بن عباس قال : دخلت على عبد الملك بن مروان في يوم شديد البرد وإذا هو في جبة باطنها قوهي معصفر وظاهرها خز أغبر وحوله أربعة كولين قال : فرأى البرد في تقفقفي فقال : ما أظن يومنا هذا إلا باردا قلت : أصح الله أمير المؤمنين ما يظن أهل الشام أنه أتى عليهم يوم أبرد منه قال : فذكر الدنيا فذمها ونال منها وقال : هذا معاوية عاش أربعين سنة عشرين أميرا وعشرين خليفة هذه جثوته عليها ثمامة نابتة لله درختمه - يعني عمر بن الخطاب - ما كان أعلمه بالدنيا .
وقف عبد الملك بن مروان على قبر معاوية وعليه توتة تهتز وتزهر فقال : الحمد لله عشرين سنة أميرا وعشرين سنة خليفة ثم صرت إلى هذا هل الدهر والأيام إلا كما أرى رزية مال أو فراق حبيب .
عن محمد بن قدامة قال : قال عيسى بن مريم : من علامة الزاهدين في الدنيا تركهم كل خليط لا يريد ما يريدون .
عن مسعر بن كدام قال : قدم ملك من الملوك على رجل يقضي فقتله فقال : ما أراه كان يقضي إلا وعنده كتب فبعث إلى امرأته أو إلى أخته هل كانت له كتب ؟ قالت : لا إلا أنه كان معه كتاب صغير لا يفارقه فالتمسوه في مقتله فوجدوا كتابا فيه أربع كلمات : عجبت لمن يعرف أن الموت حق كيف يفرح وعجبت لمن يعلم أن النار حق فكيف يضحك وعجبت لمن يرى تغيير الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها وعجبت لمن يعلم أن القدر حق كيف ينصب ؟ ؟ .
كان ملك من الملوك لا يأخذ أحدا من أهل الإيمان إلا بصلبه فأتى رجل من أهل الإيمان بالله فأمر بصلبه فقيل له أوص قال : بأي شيء أوصي أدخلت في الدنيا ولم أستأمنها وعشت فيها جاهلا وأخرجت وأنا كاره قال : وكانوا في ذلك الزمان لا يخرج أحد إلا معه كيس مدور مما تتخذه الفرس فيه ذهب أو فضة فلما قتل ابتدروا ذلك الكيس وهم يرون أن فيه ذهبا أو فضة فأصابوا كتابا فيه ثلاث كلمات : إذا كان القدر حقا فالحرص باطل وإذا كان الغدر في الناس طباعا فالثقة بكل أحد عجز وإذا كان الموت بكل أحد راصدا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق .
عن أنس بن مالك قال : جاء ملك الموت إلى نوح فقال : يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها ؟ قال : كرجل دخل بيتا له بابان فقام وسط البيت هنية ثم خرج من الباب الآخر .
عن أبي البختري : أن عمر كتب إلى أبي موسى : أن لا تؤخر عمل اليوم لغد فتتوالى عليكم الأعمال فتضيع وإن للناس نفرة عن سلطانهم أعوذ بالله أن تدركني ضغائن محمولة ودنيا مؤثرة وأهواء متبعة .
عن أبي البختري و ميسرة قالا : إن عليا قسم ما في بيت المال حتى لم يبق فيه إلا أربعة آلاف فأمر بها فقسمت فقيل له في ذلك فقال : لا والله حتى تبعر فيه الغنم . عن قبيصة بن جابر قال : ما رأيت أزهد في الدنيا من علي بن أبي طالب .
عن عبد الله بن شوذب قال : كان يقال : إن الله وسم الدنيا بالوحشة وجعل أنس المطيعين به . قال داود الطائي : يا بن آدم فرحت ببلوغ أملك وإنما بلغته بانقضاء مدة أجلك ثم سوفت بعملك كأن منفعته لغيرك .
خطب عمر بن عبد العزيز فقال : أيها الناس إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به إنكم لحمقى وإن كم تكذبون به إنكم لهلكى إنما خلقتم للأبد ولكنكم من دار إلى دار تنقلون عباد الله إنكم في دار لكم فيها من طعامكم غصص ومن شرابكم شرق لا تصفو لكم نعمة تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها فاعلموا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه ثم غلبة البكاء فنزل .
قال عمر بن عبد العزيز في خطبة له : لا تغرنكم الدنيا والمهلة فيها فعن قليل عنها تنقلون وإلى غيرها ترتحلون فالله عباد الله في أنفسكم فبادروا بها الفوت قبل حلول الموت فلا يطولن بكم الأمد فتقسوا قلوبكم فتكونوا كقوم دعوا إلى حظهم فقصروا عنه بعد المهلة فندموا على ما قصروا عند الآخرة قال : ثم نحب وهو على المنبر .
قال الحجاج بن يوسف على المنبر : لسحق ردائي هذا أحب إلي مما مضى من الدنيا وما بقي منها أشبه بما مضى .
عن رجل من عبد القيس قال : دخلت حرفة ابنة النعمان بن المنذر على معاوية بن أبي سفيان فقال لها : أخبريني عن حالكم كيف كانت ؟ قالت : أطيل أم أقصر ؟ قال : لا بل أقصري قالت : أمسينا مساء وليس في العرب أحد إلا وهو يرغب إلينا وهو لا يرهب منا فأصبحنا صباحا وليس في العرب إلا ونحن نرغب إليه ونرهب منه ثم قالت : ( بينا نسوس الناس في كل بلدة ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف ) ( فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف )
قال بعض الحكماء : عجبت ممن يحزن على نقصان ماله ولا يحزن على فناء عمره وعجبت ممن الدنيا مولية عنه والآخرة مقبلة إليه يشتغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة .
خطب عمر بن عبد العزيز فقال : إن الدنيا ليست بدار قراركم دار كتب الله عليها الفناء وكتب على أهلها منها الظعن فكم عامر مونق عما قليل يخرب وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما يحضركم من النقلة وتزودوا فإن خير الزاد التقوى إنما كفيء ظلال قلص فذهب بينما ابن آدم في الدنيا ينافس وبها قرير عين قانع إذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه آثاره ودنياه وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر إنما تسر قليلا وتحزن حزنا طويلا .
كتب رجل عالم إلى عمر بن عبد العزيز : أما بعد : فإن الدنيا ليست بدار مقامة وإنما أهبط آدم من الجنة إليها عقوبة بحسب من لا يدري ما ثواب الله أنها ثواب وبحسب من لا يدري ما عقاب الله أنها عقاب وليست كذلك ولكنها دار تسلم أهلها إلى النقمة مثلها مثل الحية مسها لين وفيها الموت فكن فيها كالمريض الذي يكره نفسه على الدواء رجاء العافية وتدع ما تشتهي من الطعام رجاء العافية .
قال سعيد بن جبير : إنما الدنيا جمعة من جمع الآخرة . قال سفيان بن عيينة : من أخذ شيئا من الدنيا لمعصية الله فقد أخذ ثمنا قليلا .
قال فضيل بن عياض : خطب الناس هارون فاستند إلى البيت فقال : أيها الناس إن الدينا غرارة أهلكت من كان قبلكم من الأمم السالفة ألا وهي مهلكة من بقي ألا فلا تغرنكم الدنيا قال : أبكاني قوله وأعجبت من فعله .
كتب بعض الحكماء إلى أخ له : أما بعد : فإن الدنيا حلم والآخرة يقظة والمتوسط بينهما الموت ونحن في أضغاث والسلام .
عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال : أشكو إلى الله عيبي ما لا أترك ونعتي ما لا آتي وإنما ينكي بالدين الدنيا . قال بشر بن الحارث : من سأل الله الدنيا فإنما يسأله طول الوقوف .
عن سعيد بن جبير قال : الغرور بالله أن يصر العبد في معصية الله ويتمنى على الله في ذلك المغفرة والغرة في الحياة الدنيا أن يغترها وتشغله عن الآخرة فيمهد لها ويعمل لها كقول العبد إذا أفضى إلى الآخرة : يا ليتني قدمت لحياتي وأما متاع الغرور فهو ما يلهيك عن طلب الآخرة فهو متاع الغرور وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور ولكنه متاع وبلاغ إلى ما هو خير منه .
قال إبراهيم التيمي : الدنيا مشغلة اللهم لا تشغلني بها ولا تعطني منها شيئا . قال أبو حازم ما في الدنيا شيء يسرك إلا وقد التزق به شيء يسوءك .
قال أبو طيبة الجرجاني قال : قلت لكرز بن وبرة : من ذا الذي يبغضه البر والفاجر ؟ قال : العبد يكون من أهل الآخرة ثم يرجع إلى الدنيا .
عن عمارة بن غزية قال : سمعت رجلا سأل ربيعة فقال : يا أبا عثمان ما رأس الزهادة ؟ قال : جمع الأشياء بحقها ووضعها في حقها .
عن ابن شوذب قال : قيل لكثير بن زياد أوصنا قال : بيعوا دنياكم بآخرتكم تربحونها والله جميعا ولا تبيعوا آخرتكم بدنياكم فتخسرونهما والله جميعا .
قال محمد بن علي : كان لي أخ كان في عيني عظيما وكان الذي عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه . عن بعض الحكماء قال : من زهد في الدنيا ملكها ومن رغب في الدنيا حرمها .
كان سليمان بن عبد الملك يخطبنا كل جمعة ويقول في خطبته : ألا إن أهل الدنيا فيها على وجل لم تمض بهم نية ولم تطمئن بهم دار حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وكذلك لا يدوم نعيمها ولا يؤمن فجائفها يبقى شرار أهلها ثم يقرأ : { أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } [ الشعراء : 205 207 ]
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله عدي بن أرطأة : أما بعد : فإن الدنيا عدوة أولياء الله وعدوة أعداء الله أما أولياء الله فختمهم وأما أعداء الله فغمتهم.
كان ابن الحنفية يقول : إني واصف لك أخا لي كان أعظم الناس في عيني وكان الذي عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه كان خارجا من سلطان بطنه فلا يضع فيها ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد وكان خارجا من سلطان الجهالة فلا يقدم على الأمر إلا بنية .
عن داود بن يحيى بن يمان عن أبيه قال : مر موسى برجل قد مات تحت رأسه لبنة ورأسه ولحيته في التراب فقال : رب عبدك هذا ضاع فقال : يا موسى إني إذا أقبلت على عبد بوجهي زويت عنه الدنيا بحذافيرها.
عن الحسن قال : لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث : أنه لم يشبع مما جمع ولم يدرك ما أمل ولم يحسن الزاد لما قدم عليه . قيل لبعض العباد : قد نلت الغناء ؟ قال : إنما نال الغناء من أعتق من رق الدنيا .
قال عامر بن عبد قيس : الدنيا والدة الموت وناقضة للمبرم ومن تجعله للعطية وكل من فيها يجري على ما لا يريد وكل مستقر فيها غير راض بها وذلك شهيد على أنها ليست بدار قرار .
كان ابن السماك يقول : من أذاقته الدنيا حلاوتها لميله إليها جرعته الآخرة مرارتها بتجافيه عنها . عن أبي سليمان الداراني قال : لا يصبر عن شهوات الدنيت إلا من كان في قلبه ما يشغله من الآخرة .
قال روح بن حاتم : بينما أنا واقف على باب بعض ولاة البصرة إذ أقبل خالد بن صفوان يسير على بغلة له فقال لي : يا ابن أخي ماهجرت ولا أظهرت على باب أحد من الولاة إلا وأنا أراك عليه أكل هذا حبا في الدنيا وحرصا عليها ؟ قال : فأجللت أن أجيبه ثم قلت : إنما هذا مثل العمر ولعله أراد الجواب مني فقلت : يا عم بحسبك برؤيتك إياي عليها طلبا منك لها فضحك ثم قال : لئن قلت ذاك يا ابن أخي لقد ذهب رونق الوجه ودماء القلب وحسام الصلب وسنا البصر ومد الصوت وماء الشباب واقترب عهد العلل والله ما أتت علينا ساعة من أعمارنا إلا ونحن نؤثر الدنيا على ما سواها ثم ما تزداد لنا إلا تخليا وعنا إلا توليا ثم ضرب بغلته فذهب .
كتبت أم إبراهيم الصائغ إلى إبراهيم وقد كان يومئذ مجاورا بمكة تسأله القدوم عليها فكتب إليها بكتاب فيه : إن مرو التي تعجبك ملاقاتي تعجبك ملاقاتي إياك فيها ليست بدار دوام ولكن مرو منزل أسفار وإنما سبيل المقام فيها بين الأمهات والأولاد يسير حتى تصيروا منها إلى دارين : إحداهما فرقة لا تواصل فيها والأخرى صلة لا فرقة فيها فإن كنت في شك من ذلك فأين الملوك الذين نزلوها وأين الجموع الذين كانوا فيها وأين الأمم الذين تشاحت عليها وأين البناءون الذين ضربوا في تحصينها إن تدعوهم لا يسمعون بدلوا بالحياة موتا كأن لم يعمروها ولم يسكنوها فهل ينفع مع هذا الهم حبيب حبيبا وخليل خليلا إنه ليس أحد لأحد إلا ما كان له في الآخرة فأما أهل الدنيا فمتحولون منها عن قريب والسلام .
عن دويد بن نافع قال : قال عيسى بن مريم : تعملون لدنيا صغيرة وتتركون الآخرة الكبيرة وعلى كلكم يمر الموت.
عن يوسف بن أسباط قال : قال لي زرعة : من كان صغير الدنيا أعظم في عينه من كبير الآخرة وكيف يرجو أن نصنع له في دنياه وآخرته .
عن الحسن قال : خرج عمر في يوم حار واضعا رداءه على رأسه قال : فمر به غلام على حمار فقال : يا غلام احملني معك قال : فوثب الغلام عن الحمار فقال : اركب يا أمير المؤمنين فقال : لا أركب وأركب خلفك تريد أن تحملني على المكان الخشن وتركب على المكان الوطئ ولكن اركب أنت وأكون أنا خلفك قال : فدخل المدينة وهو خلفه والناس ينظرون إليه .
قال الفضيل بن عياض : جعل الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا .
عن إبراهيم بن الأشعث قال : سألت فضيل بن عياض ما الزهد في الدنيا ؟ قال : القنوع هو الزهد وهو الغنى . قال عون بن عبد الله : إن الدنيا والآخرة في قلب ابن آدم ككفتي الميزان بقدر ما ترجح إحداهما تخف الأخرى .
قال أبو معاوية الأسود يقول : من كانت الدنيا أكبر همه طال غدا في القيامة غمه . قال مسلمة بن عبد الملك : إن أقل الناس هما في الآخرة أقلهم هما في الدنيا .
قال مالك بن دينار : اصطلحنا على حب الدنيا فلا يأمر بعضنا بعضا ولا ينهي بعضنا بعضا ولا يدعنا الله على هذا فليت شعري أي عذاب الله ينزل ؟ .
قال بعض العلماء : الزهد في الدنيا ألا يقيم الرجل على راحة تستريح إليها نفسه . عن عثمان بن عمارة قال : كان يقال : الورع يبلغ بالعبد إلى الزهد في الدنيا والزهد يبلغ به حب الله عز و جل .
قال عبد الله بن عبد العزيز العمري عند موته : بنعمة ربي أحدث أني لم أصبح أملك على الناس إلا سبعة دراهم من كل شعر فنلته بيدي وبنعمة ربي أحدث لو أن الدنيا أصبحت تحت قدمي لا يمنعني من أخذها إلا أن أزيل قدمي عنها ما أزلتها.
عن محمد بن عبد الله الحذاء قال : سمعت العمري يقول : إنما الدنيا والآخرة إناءان أيهما أكفأت كان الغسل فيه . قال أبو الحازم : يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة .
قال صالح بن عبد الكريم : مثل القلب مثل الإناء إذا أملأته ثم زدت فيه شيئا فاض وكذلك القلب إذا امتلأ من حب الدنيا لم تدخله المواعظ .
كان محمد بن كعب يقول : الدنيا دار فناء ومنزل بلغة رغبت عنها السعداء وانتزعت من أيدي الأشقياء فأشقى الناس بها أرغب الناس فيها وأزهد الناس فيها أسعد الناس بها هي المعذبة لمن أطاعها المهلكة لمن اتبعها الخائنة لمن انقاد علمها جهل وغناها فقر وزيادتها نقصان وأيامها دول .
عن معاوية بن عبد الكريم قال : ذكروا عند الحسن الزهد فقال الحسن : لستم في شيء الزاهد الذي إذا رأى أحدا قال : هو أفضل مني .
قال وهيب : لو أن علماءنا عفا الله عنا وعنهم نصحوا الله في عباده فقالوا : يا عباد الله اسمعوا ما نخبركم عن نبيكم صلى الله عليه و سلم وصالح سلفكم من الزهد في الدنيا فاعلموا به ولا تنظروا إلى أعمالنا هذه الفاسدة كانوا قد نصحوا لله في عباده ولكنهم يأبون إلا أن يجروا عباد الله إلى فتنهم وما هم فيه .
قال الفضيل بن عياض : لا يعطى أحد من الدنيا شيئا إلا انتقص من آخرته مثله ويقال : باء بمثليه من الهم ولا يعطي أحد من الدنيا شيئا إلا قلبها بمثليه من الشغل فإن شئت فاستكثر منها وإن شئت فأقلل والله ما تأخذ إلا من كيسك .
قال فضيل بن عياض : قيل يا موسى : أيحزن عبدي المؤمن أن أزوي عنه الدنيا وهو أقرب له مني ويفرح أن أبسط له الدنيا وهو أبعد له مني .
عن ابن عمر قال : لا يصيب عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله عز و جل وإن كان عليه كريما .
قال الفضيل : ما رأيت أحدا عظم الدنيا فقرت عينه فيها ولا انتفع بها وما حقرها أحد إلا تمتع بها . قال الفضيل : عامة الزهد في الناس يعني إذا لم تحب ثناء الناس ولم تبال بمذمتهم .
عن سلام بن مسكين قال : سمعت الحسن يقول : أهينوا الدنيا فوالله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن هانها . عن الحسن قال : إذا أراد الله بعبد خيرا أعطاه من الدنيا عطية ثم يمسك فإذا أنفد عاد عليه وإذا هان عليه عبد بسطها له بسطا .
قال بهيم : إنما أخاف أن تدفق الدنيا دفقة فتغرقني . كان بعض العلماء يدعو : أيا ممسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه أمسك عني الدنيا .
قيل لمحمد بن الحنفية : من أعظم الدنيا قدرا ؟ قال : من لم ير الدنيا كلها لنفسه خطرا إنه ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها .
عن محمد بن عمر بن الكميت قال : مكتوب في حكمة عيسى عليه السلام : من علامة المريدين للزهد في الدنيا تركهم كل خليط لا يريد ما يريدون .