فوائد من كتاب ذم الدنيا 2
حكمــــــة
قال بعض الحكماء: يا معشر أبناء الدنيا لكم في الظاهر اسم الغنى ولأهل التقلل نفس هذا المعنى حرمتم التفكه بما حوته أيديكم لفادح التعب وعوضتم منه خوف نزول الفجائع به وارتقاب وصول الآفات إليه خدعتم ومالك المقادير عن حظكم دأبت الدنيا أن تسوغكم حلاوتها وما استدر لكم من ضرعها حتى وكلتم بطلب سواه لتمتعكم مما حصل منها لكم وتصدكم عن التمتع به بأشغالكم بمستأنف تحمدون فيه أنفسكم مما يعز مطلبه عليكم وتبذلون فيه راحتكم فإن وصلتم إليه لحق بالأول من المدخر وأنشأت لكم وطرا في غرة كذلك أنتم وهي ما صحبتموها بالرغبة منكم فيها.
حكمــــــة
كانت آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين وسيتركها الباقون كما تركها الماضون ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غاديا أو رائحا إلى الله وتضعونه في صدع من الأرض ثم في بطن صدع غير ممهد ولا موسد قد خلع الأسلاب وفارق الأحباب وأسكن التراب وواجه الحساب فقيرا إلى ما قدم أمامه غنيا عما ترك بعده أما والله إني لأقول لكم هذا وما أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي قال: ثم قال بطرف ثوبه على عينه فبكى ثم نزل فما خرج حتى أخرج إلى حفرته.
حكمــــــة
عن ثابت قال: لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم قال إبليس لشياطينه: لقد حدث أمر فانظروا ما هو فانطلقوا ثم جاءوه فقالوا: ما ندري قال إبليس: أنا آتيكم بالخبر فذهب فقال: بعث محمد عليه السلام قال: فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فيجيئون بصحفهم ليس فيها شيء فقال: ما لكم؟ أما تصيبون منهم شيئا؟ قالوا: ما صحبنا قوما قط مثل هؤلاء نصيب منهم ثم يقومون إلى صلاتهم فيمحى ذلك قال إبليس: رويدا لهم عسى أن تفتح لهم الدنيا هنالك تصيبهم حاجتكم منهم.
حكمــــــة
قال عون بن عبد الله بن عتبة: ويحي كيف تشتد حاجتي إلى الدنيا وليست بداري؟ أم كيف أجمع لها وفي غيرها قراري وخلدي؟ أم كيف تعظم رغبتي فيها والقليل منها يكفيني؟ أم كيف آمن فيها ولا يدوم فيها حالي؟ أم كيف يشتد حرصي عليها ولا ينفعني ما تركت منها بعدي؟ أم كيف أوثرها وقد ضرت من آثرها قبلي أم كيف لا أبادر بعملي من قبل أن تنصرم مدتي؟ أم كيف لا أعرض نفسي لما لا يقوى هوائي؟ أم كيف يشتد عجبي بها وهي مزايلتي ومنقطعة عني؟.
حكمــــــة
لقي ذو القرنين ملكا من الملائكة فقال: علمني علما أزداد به إيمانا ويقينا قال: إنك لا تطيق ذلك قال: لعل الله يطوقني قال: لا تغتم لغد واعمل في اليوم لغد وإن أتاك الله من الدنيا سلطانا أو مالا فلا تفرح به وإن صرف عنك فلا تأس عليه وكن حسن الظن بالله عز و جل وضع يدك على قلبك فما أحببت أن تصنع بنفسك فاصنعه بأخيك ولا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب ورد الغضب بالكظم وسكنه بالتؤدة وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك وكن سهلا لينا للقريب والبعيد ولا تكن جبارا عنيدا.
حكمــــــة
عن عبد الله قال: أنبأنا بعض أهل البصرة أن مطرف بن الشخير ماتت امرأته أو بعض أهله فقال أناس من إخوانه: انطلقوا بنا إلى أخيكم مطرف حتى لا يخلو به الشيطان فيدرك بعض حاجته منه فأتوه فخرج عليهم دهينا في هيئة حسنة فقالوا: خشينا شيئا فنرجو أن يكون الله قد عصمك منه وأخبروه بالذي قالوا: فقال مطرف: لو كانت لي الدنيا كلها فسئلتها بشربة يوم القيامة لافتديت بها
حكمــــــة
قيل لبعض الحكماء: صف لنا قدر الدنيا ومدة البقاء؟ فقال: الدنيا وقتك الذي يرجع إليك فيه طرفك لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه وما لم يأت فلا علم لك به الدهر يوم مقبل تنعاه ليلته وتطويه ساعته وأحداثه تتصل في الإنسان بالتغيير والنقصان والدهر موكل بتشتيت الجماعات وانخرام الشمل وتنقل الدول والأمل طويل والعمر قصير وإلى الله تصير الأمور.
حكمــــــة
قال عبد العزيز أبو مرحوم: دخلنا مع الحسن على مريض نعوده فلما جلس عنده قال: كيف تجدك؟ قال: أجدني أشتهي الطعام فلا أقدر أن أسيغه وأشتهي الشراب فلا أقدر على أن أتجرعه قال: فبكى الحسن وقال: على الأسقام والأمراض أسست هذه الدار فهبك تصح من الأسقام وتبرأ من الأمراض هل تقدر على أن تنجو من الموت؟ قال: فارتج البيت بالبكاء.
حكمــــــة
عن فضيل بن عياض قال: سمعته يقول: قال عيسى بن مريم: إنكم لن تدركوا ما تريدون إلا بترككم ما تشتهون ولا تنالون ما تأملون إلا بصبركم على ما تلهون ويل لصاحب الدنيا كيف يموت ويتركها ويأمنها وتخونه ويثق بها وتخدعه ويل للمغترين بالدنيا كيف أزفهم ما يكرهون وفارقهم ما يشتهون وجاءهم ما يوعدون ويل لمن الدنيا همه والخطايا عمله كيف يفتضح غدا.
حكمــــــة
عن فضيل بن عياض قال: إن رجلا من الحواريين قام إلى عيسى فقال: يا روح الله حدثني عن النفر الزهاد الذين لقيهم يونس بن متى لعل ذلك ينبه أبناء الدنيا من رقدة الغفلة ويخرجهم من ظلمة الجهل فرب كلمة قد أحيت سامعها بعد الموت ورفعته بعد الضعة ونعشته بعد الصرعة وأعنته بعد الفقر وجبرته بعد الكسر ويقظته بعد الوسنة فنقبت عن قلبه ففجرت فيه ينابيع الحياة فسالت فيه أودية الحكمة وأنبتت فيه غراس الرحمة إذا وافق ذلك القضاء من الله.
حكمــــــة
عن علي بن عبد الله بن عباس قال: دخلت على عبد الملك بن مروان في يوم شديد البرد وإذا هو في جبة باطنها قوهي معصفر وظاهرها خز أغبر وحوله أربعة كولين قال: فرأى البرد في تقفقفي فقال: ما أظن يومنا هذا إلا باردا قلت: أصح الله أمير المؤمنين ما يظن أهل الشام أنه أتى عليهم يوم أبرد منه قال: فذكر الدنيا فذمها ونال منها وقال: هذا معاوية عاش أربعين سنة عشرين أميرا وعشرين خليفة هذه جثوته عليها ثمامة نابتة لله درختمه - يعني عمر بن الخطاب - ما كان أعلمه بالدنيا.
حكمــــــة
عن مسعر بن كدام قال: قدم ملك من الملوك على رجل يقضي فقتله فقال: ما أراه كان يقضي إلا وعنده كتب فبعث إلى امرأته أو إلى أخته هل كانت له كتب؟ قالت: لا إلا أنه كان معه كتاب صغير لا يفارقه فالتمسوه في مقتله فوجدوا كتابا فيه أربع كلمات: عجبت لمن يعرف أن الموت حق كيف يفرح وعجبت لمن يعلم أن النار حق فكيف يضحك وعجبت لمن يرى تغيير الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها وعجبت لمن يعلم أن القدر حق كيف ينصب؟؟.
حكمــــــة
كان ملك من الملوك لا يأخذ أحدا من أهل الإيمان إلا بصلبه فأتى رجل من أهل الإيمان بالله فأمر بصلبه فقيل له أوص قال: بأي شيء أوصي أدخلت في الدنيا ولم أستأمنها وعشت فيها جاهلا وأخرجت وأنا كاره قال: وكانوا في ذلك الزمان لا يخرج أحد إلا معه كيس مدور مما تتخذه الفرس فيه ذهب أو فضة فلما قتل ابتدروا ذلك الكيس وهم يرون أن فيه ذهبا أو فضة فأصابوا كتابا فيه ثلاث كلمات: إذا كان القدر حقا فالحرص باطل وإذا كان الغدر في الناس طباعا فالثقة بكل أحد عجز وإذا كان الموت بكل أحد راصدا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق.
حكمــــــة
خطب عمر بن عبد العزيز فقال: أيها الناس إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به إنكم لحمقى وإن كم تكذبون به إنكم لهلكى إنما خلقتم للأبد ولكنكم من دار إلى دار تنقلون عباد الله إنكم في دار لكم فيها من طعامكم غصص ومن شرابكم شرق لا تصفو لكم نعمة تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها فاعلموا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه ثم غلبة البكاء فنزل.
حكمــــــة
قال عمر بن عبد العزيز في خطبة له: لا تغرنكم الدنيا والمهلة فيها فعن قليل عنها تنقلون وإلى غيرها ترتحلون فالله عباد الله في أنفسكم فبادروا بها الفوت قبل حلول الموت فلا يطولن بكم الأمد فتقسوا قلوبكم فتكونوا كقوم دعوا إلى حظهم فقصروا عنه بعد المهلة فندموا على ما قصروا عند الآخرة قال: ثم نحب وهو على المنبر.
حكمــــــة
عن رجل من عبد القيس قال: دخلت حرفة ابنة النعمان بن المنذر على معاوية بن أبي سفيان فقال لها: أخبريني عن حالكم كيف كانت؟ قالت: أطيل أم أقصر؟ قال: لا بل أقصري قالت: أمسينا مساء وليس في العرب أحد إلا وهو يرغب إلينا وهو لا يرهب منا فأصبحنا صباحا وليس في العرب إلا ونحن نرغب إليه ونرهب منه ثم قالت: (بينا نسوس الناس في كل بلدة... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف) (فأف لدنيا لا يدوم نعيمها... تقلب تارات بنا وتصرف)
حكمــــــة
خطب عمر بن عبد العزيز فقال: إن الدنيا ليست بدار قراركم دار كتب الله عليها الفناء وكتب على أهلها منها الظعن فكم عامر مونق عما قليل يخرب وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما يحضركم من النقلة وتزودوا فإن خير الزاد التقوى إنما كفيء ظلال قلص فذهب بينما ابن آدم في الدنيا ينافس وبها قرير عين قانع إذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه آثاره ودنياه وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر إنما تسر قليلا وتحزن حزنا طويلا.
حكمــــــة
كتب رجل عالم إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن الدنيا ليست بدار مقامة وإنما أهبط آدم من الجنة إليها عقوبة بحسب من لا يدري ما ثواب الله أنها ثواب وبحسب من لا يدري ما عقاب الله أنها عقاب وليست كذلك ولكنها دار تسلم أهلها إلى النقمة مثلها مثل الحية مسها لين وفيها الموت فكن فيها كالمريض الذي يكره نفسه على الدواء رجاء العافية وتدع ما تشتهي من الطعام رجاء العافية.
حكمــــــة
عن سعيد بن جبير قال: الغرور بالله أن يصر العبد في معصية الله ويتمنى على الله في ذلك المغفرة والغرة في الحياة الدنيا أن يغترها وتشغله عن الآخرة فيمهد لها ويعمل لها كقول العبد إذا أفضى إلى الآخرة: يا ليتني قدمت لحياتي وأما متاع الغرور فهو ما يلهيك عن طلب الآخرة فهو متاع الغرور وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور ولكنه متاع وبلاغ إلى ما هو خير منه.
حكمــــــة
كان سليمان بن عبد الملك يخطبنا كل جمعة ويقول في خطبته: ألا إن أهل الدنيا فيها على وجل لم تمض بهم نية ولم تطمئن بهم دار حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وكذلك لا يدوم نعيمها ولا يؤمن فجائفها يبقى شرار أهلها ثم يقرأ: { أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } [الشعراء: 205 207]
حكمــــــة
قال روح بن حاتم: بينما أنا واقف على باب بعض ولاة البصرة إذ أقبل خالد بن صفوان يسير على بغلة له فقال لي: يا ابن أخي ماهجرت ولا أظهرت على باب أحد من الولاة إلا وأنا أراك عليه أكل هذا حبا في الدنيا وحرصا عليها؟ قال: فأجللت أن أجيبه ثم قلت: إنما هذا مثل العمر ولعله أراد الجواب مني فقلت: يا عم بحسبك برؤيتك إياي عليها طلبا منك لها فضحك ثم قال: لئن قلت ذاك يا ابن أخي لقد ذهب رونق الوجه ودماء القلب وحسام الصلب وسنا البصر ومد الصوت وماء الشباب واقترب عهد العلل والله ما أتت علينا ساعة من أعمارنا إلا ونحن نؤثر الدنيا على ما سواها ثم ما تزداد لنا إلا تخليا وعنا إلا توليا ثم ضرب بغلته فذهب.
حكمــــــة
كتبت أم إبراهيم الصائغ إلى إبراهيم وقد كان يومئذ مجاورا بمكة تسأله القدوم عليها فكتب إليها بكتاب فيه: إن مرو التي تعجبك ملاقاتي تعجبك ملاقاتي إياك فيها ليست بدار دوام ولكن مرو منزل أسفار وإنما سبيل المقام فيها بين الأمهات والأولاد يسير حتى تصيروا منها إلى دارين: إحداهما فرقة لا تواصل فيها والأخرى صلة لا فرقة فيها فإن كنت في شك من ذلك فأين الملوك الذين نزلوها وأين الجموع الذين كانوا فيها وأين الأمم الذين تشاحت عليها وأين البناءون الذين ضربوا في تحصينها إن تدعوهم لا يسمعون بدلوا بالحياة موتا كأن لم يعمروها ولم يسكنوها فهل ينفع مع هذا الهم حبيب حبيبا وخليل خليلا إنه ليس أحد لأحد إلا ما كان له في الآخرة فأما أهل الدنيا فمتحولون منها عن قريب والسلام.
حكمــــــة
عن الحسن قال: خرج عمر في يوم حار واضعا رداءه على رأسه قال: فمر به غلام على حمار فقال: يا غلام احملني معك قال: فوثب الغلام عن الحمار فقال: اركب يا أمير المؤمنين فقال: لا أركب وأركب خلفك تريد أن تحملني على المكان الخشن وتركب على المكان الوطئ ولكن اركب أنت وأكون أنا خلفك قال: فدخل المدينة وهو خلفه والناس ينظرون إليه.
حكمــــــة
قال وهيب: لو أن علماءنا عفا الله عنا وعنهم نصحوا الله في عباده فقالوا: يا عباد الله اسمعوا ما نخبركم عن نبيكم صلى الله عليه و سلم وصالح سلفكم من الزهد في الدنيا فاعلموا به ولا تنظروا إلى أعمالنا هذه الفاسدة كانوا قد نصحوا لله في عباده ولكنهم يأبون إلا أن يجروا عباد الله إلى فتنهم وما هم فيه.