فوائد من كتاب الرقة والبكاء 2
حكمــــــة
عن مسمع بن عاصم ، قال : انطلقت أنا وعبد العزيز بن سلمان ، إلى ناشرة بن سعيد الحنفي وكان قد بكى حتى أظلمت عيناه فاستأذنا عليه ، فأذن لنا ، فدخلنا عليه ، فسلم عليه عبد العزيز فقال له ناشرة : « أبو محمد ؟ » قال : نعم قال : ما جاء بك ؟ قال : « جئنا لتبكي ونبكي معك على ما تقدم من سالف الذنوب » قال : فشهق شهقة خر مغشيا عليه وجلس عبد العزيز يبكي عند رأسه . وتنادى أهله ، فجعلوا يبكون حوله وهو صريع بينهم . فلما رأيت البكاء قد كثر ، انسللت فخرجت.
حكمــــــة
عن عبيد الله بن موسى ، قال : كنا عند حسن بن صالح يوما ، فذكر شيئا ، فرق ، فبكى رجل ، فارتفع صوته ، وعلا بكاؤه فقال رجل من القوم : نعم والله يا أخي فابك هكذا على نفسك فما خير من لا يرحم نفسه ؟ قال عبيد الله : فكنت أسمع الحسن بعد ذلك كثيرا يردد هذه الكلمة : « ما خير من لا يرحم نفسه » قال : فظننت أنه أعجب بها حين سمعها يومئذ.
حكمــــــة
عن زهير السلولي ، قال : كان رجل من بلعنبر قد لهج بالبكاء ، فكان لا تراه إلا باكيا قال : فعاتبه رجل من إخوانه يوما فقال : لم تبكي رحمك الله هذا البكاء الطويل ؟ فبكى ثم قال : بكيت على الذنوب لعظم جرمي وحق لكل من يعصي البكاء فلو كان البكاء يرد همي لأسعدت الدموع معا دماء ثم بكى حتى غشي عليه ، فقام الرجل عنه وتركه.
حكمــــــة
كان أبو سليمان يبكي عامة دهره وكان كثيرا ما يردد هذا الكلام : « بكوا الذنوب قبل محل بكائها وفرغوا القلوب إلا من شغل حسابها ، فبحرى إن كنتم كذلك أن تدركوا فوات ما قد فات لشؤم التفريط ، بالإنابة والمراجعة والإخلاص للرب الكريم . وكان يبكي ويقول : وجدناه أكرم مولى لشر عبيد » قال : ثم يبكي ويبكي.
حكمــــــة
عن بهيم العجلي قال : « ركب معنا البحر فتى من بني مرة من أهل البدو ، فجعل يبكي الليل والنهار . فعاتبه أهل المركب على ذلك وقالوا : ارفق بنفسك قليلا فقال : إن أقل ما ينبغي أن يكون لنفسي عندي أن أبكيها ، فأبكي عليها أيام الدنيا ، لعلمي بما يمر عليها في ذلك اليوم غدا قال : فما بقي في المركب أحد إلا بكى ».
حكمــــــة
قال كلاب بن جري : « رأيت شابا ببيت المقدس قد عمش من طول البكاء ، فقلت له : يا فتى كم تكون العين سليمة على هذا ؟ فبكى ثم قال : كما شاء ربي فلتكن ، وإن شاء سيدي فلتذهب ، فليست بأكرم علي من بدني إنما أبكي رجاء الفرح والسرور في الآخرة ؛ وإن تكن الأخرى فهو والله شقاء الآخرة ، وحزن الأبد ، والأمر الذي كنت أخافه وأحذره على نفسي ، وأني أحتسب على الله غفلتي عن نفسي ، وتقصيري في حظي . ثم غشي عليه ».
حكمــــــة
قال رجل من بني تميم : أن حسن بن صالح ، كان يصلي إلى السحر ثم يجلس فيبكي في مكانه ، ويجلس علي فيبكي في حجرته . قال : وكانت أمهم تبكي بالليل والنهار قال : فماتت ، ثم مات علي ثم مات حسن . قال : فرأيت حسنا في منامي فقلت : ما فعلت الوالدة ؟ قال : « بدلت بطول ذلك البكاء سرور الأبد » قلت : فعلي ؟ قال : « وعلي على خير » . قال : قلت : فأنت ؟ قال : فمضى وهو يقول : « وهل نتكل إلا على عفوه ؟ ».
حكمــــــة
كان يزيد الرقاشي يبكي حتى يسقط ، ثم يفيق ، فيبكي حتى يسقط ، ثم يفيق ، فيبكي حتى يسقط ، فيحمل مغشيا عليه إلى أهله وكان يقول في كلامه : « إخوتاه ابكوا قبل يوم البكاء ونوحوا قبل يوم النياحة وتوبوا قبل انقطاع التوبة ، إنما سمي نوحا صلى الله عليه وسلم أنه كان نواحا ، فنوحوا معشر الكهول والشباب على أنفسكم » قال : وكان يتكلم والدموع جارية على لحيته وخديه.
حكمــــــة
" كان سعيد بن السائب الطائفي لا تكاد تجف له دمعة إنما دموعه جارية دهره إن صلى فهو يبكي وإن طاف فهو يبكي ، وإن جلس يقرأ في المصحف فهو يبكي ، وإن لقيته في طريق فهو يبكي » قال سفيان : فحدثوني أن رجلا عاتبه على ذلك ، فبكى ثم قال : إنما ينبغي أن تعذلني وتعاتبني على التقصير والتفريط ، فإنهما قد استوليا علي . قال الرجل : فلما سمعت ذلك منه انصرفت وتركته ".
حكمــــــة
قالوا ليزيد بن أبان الرقاشي : ما تسأم من كثرة البكاء ؟ فبكى ثم قال : « وهل يشبع المرضع من الغذاء ؟ والله لوددت أني أبكي بعد الدموع الدماء ، وبعد الدماء الصديد ، أيام الدنيا ، فإنه بلغنا أن أهل النار يبكون الدماء إذا نفدت الدموع ، حتى لو أرسلت فيها السفن لجرت فما حق امرئ لا يبكي على نفسه في الدنيا وينوح عليها ؟ » قال : وكان يقول : « ابك يا يزيد على نفسك قبل حين البكاء ، إنما سمي نوحا صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان ينوح على نفسه . يا يزيد من يصلي لك بعدك ؟ ومن يصوم يا يزيد ؟ ومن يضرع لك إلى ربك بعدك ؟ ومن يدعو ؟ » فكان يعدد على هذا ونحوه ، ويبكي ويقول : « يا إخوتاه ابكوا أو بكوا أنفسكم ، فإن لم تجدوا بكاء فارحموا كل بكاء ».
حكمــــــة
كان يزيد الرقاشي إن دخل بيته بكى وإن شهد جنازة بكى ، وإن جلس إليه إخوانه بكى وأبكاهم . فقال له ابنه يوما : يا أبه كم تبكي ؟ والله لو كانت النار خلقت لك ما زدت على هذا البكاء فقال : ثكلتك أمك يا بني وهل خلقت النار إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن أما تقرأ يا بني: ( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) أما تقرأ يا بني : ( يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ) ؟ فجعل يقرأ عليه حتى انتهى إلى : ( يطوفون بينها وبين حميم آن ) قال : فجعل يجول في الدار ويصرخ ويبكي ، حتى غشي عليه فقالت للفتى أمه : يا بني ما أردت إلى هذا من أبيك ؟ فقال : والله إنما أردت أن أهون عليه ، لم أرد أن أزيده حتى يقتل نفسه.
حكمــــــة
عن سفيان قال : كان أمية رجل من أهل الشام يقدم فيصلي هناك مما يلي باب بني سهم ، فينتحب ويبكي حتى يعلو صوته ، وحتى تسيل دموعه . قال : فأرسل إليه الأمير أنك تفسد على المصلين صلاتهم بكثرة بكائك ، وارتفاع صوتك ، فلو أمسكت قليلا . فبكى ثم قال : « إن حزن يوم التيه أورثني دموعا غزارا ، فأنا أستريح إلى ذريها أحيانا » وكان أمية يقول : « ومن أسعد بالطاعة من مطيع ؟ ألا وكل الخير في الطاعة . ألا وإن المطيع لله ملك في الدنيا والآخرة » قال : وكان يدخل الطواف ، فيأخذ في النحيب والبكاء ، وربما سقط مغشيا عليه.
حكمــــــة
« بكى مسعر فبكت أمه ، فقال لها مسعر : ما أبكاك يا أمه ؟ قالت : يا بني رأيتك تبكي فبكيت . قال : يا أمه لمثل ما نهجم عليه غدا فليظل البكاء قالت : وما ذاك يا بني ؟ قال : القيامة وما فيها قال : ثم غلبه البكاء ، فقام قال : وكان مسعر يقول : لولا أمي ما فارقت المسجد إلا لما لا بد منه قال : وكان إن دخل بكى ، وإن خرج بكى ، وإن صلى بكى ، وإن جلس بكى ».
حكمــــــة
قال سرار أبو عبيدة : قالت لي امرأة عطاء السليمي : عاتب عطاء في كثرة البكاء ، فعاتبته ، فقال لي : « يا سرار كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلي ؟ إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه ، تمثلت لي نفسي بهم ، فكيف بنفس تغل يدها إلى عنقها ، وتسحب إلى النار ، ألا تصيح وتبكي ؟ وكيف لنفس تعذب ألا تبكي ويحك يا سرار ما أقل غناء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله » قال : فسكت عنه.
حكمــــــة
عن أفلح مولى محمد بن علي قال : خرجت مع محمد بن علي حاجا ؛ فلما دخل المسجد نظر إلى البيت ، فبكى حتى علا صوته . فقلت : بأبي أنت وأمي الناس ينظرون إليك ، فلو رفقت بصوتك قليلا قال : « ويحك يا أفلح ولم لا أبكي ؟ لعل الله أن ينظر إلي منه برحمة ؛ فأفوز بها غدا عنده » قال : ثم طاف البيت ، ثم جاء حتى ركع عند المقام ، فرفع رأسه من سجوده ، فإذا موضع سجوده مبتل من دموع عينيه.
حكمــــــة
يذكر أن عبد الملك بن مروان ، نظر إلى رجل ساجد ، قد أطال السجود ، فلما رفع رأسه نظر إلى موضع سجوده مبتلا بالدموع فأرصد له رجلا فقال : إذا قضى صلاته فأتني به أختبر عقله . فلما قضى صلاته ، أتاه ، فقال له عبد الملك : رأيت منك منظرا الجنة تدرك بدونه . فصرخ الرجل صرخة أفزع عبد الملك وخر مغشيا عليه ثم أفاق بعد طويل وهو يمسح العرق عن وجهه ويقول : تبا لعاصيك ما احتمل من الآثام لديك قال : فجعل عبد الملك يبكي ، والرجل مول لا يلتفت حتى خرج.
حكمــــــة
عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه قال : كنا ذات يوم عند ابن ذر وهو يتكلم ، فذكر رواجف القيامة وزلازلها وأهوالها ، وشدة الأمر يومئذ هناك . قال : واستبكى ابن ذر ، وبكى الناس يومئذ بكاء شديدا . قال : فوثب رجل من بني عجل يقال : له وراد ، فجعل يبكي ويصرخ ويضطرب ، حتى هدأ . قال : ثم حمل من بين القوم صريعا قال : فجعل ابن ذر يومئذ يبكي ويقول : ليس كلنا قد أتاه الأمان من الله يا وراد غيرك ليس كلنا قد أيقن بالنجاة من النار غيرك . وتالله أيها الناس ما أخو بني عجل بأولى بالخوف من الله منا ومنكم ، وما منا أحد إلا على مثل حاله بين خوف ورجاء . وإنا فيما ندبنا الله إليه من طاعته لمشتركون جميعا ، فما الذي قصر بنا وأسرع به ؟ وكلم قلبه حتى أبكاه فأخرجه إلى ما رأيتم من مخافة الله ؟ وكلنا قد سمع الموعظة ، وفهم التذكرة ، فلم يكن من أحد منا سواه لذلك حركه ، ولم تنبض من أحد منا في ذلك خارجة والله إن هذا يا أخا بني عجل إلا من صفاء قلبك ، وتراكم الذنوب على قلوبنا ، وما أرانا نؤتى إلا من أنفسنا « قال : ثم بكى ابن ذر ، وقرأ هذه الآية : ( إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) » ، قال عمر قال أبي : كنت أرى ورادا العجلي يأتي المسجد مقنع الرأس ، فيعتزل ناحية ، فلا يزال مصليا وداعيا وباكيا كم شاء الله من النهار . ثم يخرج ، ثم يعود فيصلي الظهر فهو كذلك بين صلاة ودعاء وبكاء حتى يصلي العشاء . ثم يخرج لا يكلم أحدا ، ولا يجلس إلى أحد فسألت عنه رجلا من حيه ، ووصفته له ، قلت : شاب من صفته ، من هيئته قال : بخ يا أبا عمر تدري عمن تسأل ؟ ذاك وراد العجلي الذي عاهد الله أن لا يضحك حتى ينظر إلى وجه رب العالمين قال أبي : فكنت إذا رأيته بعد هبته
حكمــــــة
عن سكين بن مكين ، رجل من بني عجل قال : كانت بيننا وبينه قرابة يعني ورادا فسألت أختا له كانت أصغر منه قال : قلت : كيف كان ليله ؟ قالت : بكاء عامة الليل وتضرع قلت : فما كان طعمه ؟ قالت : قرص في أول الليل ، وقرص في آخره عند السحر قلت : فتحفظين من دعائه شيئا ؟ قالت : نعم كان إذا كان أو قريب من طلوع الفجر سجد ثم بكى ثم قال : « مولاي عبدك يحب الاتصال بطاعتك ، فأعنه عليها بتوفيقك أيها المنان مولاي عبدك يحب اجتناب سخطك ، فأعنه على ذلك بمنك عليه أيها المنان . مولاي عبدك عظيم الرجاء لخيرك ، فلا تقطع رجاءه يوم يفرح بخيرك الفائزون » قالت : فلا يزال على هذا ونحوه حتى يصبح قالت : وكان قد كل من الاجتهاد ، وتغير لونه جدا.
حكمــــــة
" لما مات وراد العجلي ، فحملوه إلى حفرته ، نزلوا ليدلوه في حفرته ، فإذا القبر مفروش بالريحان فأخذ بعض القوم الذين نزلوا القبر من ذلك الريحان شيئا ، فمكث سبعين يوما طريا لا يتغير ، يغدو الناس ويروحون ينظرون إليه » قال : وكثر الناس في ذلك ، حتى خاف الأمير أن يفتن الناس ، فأرسل إلى الرجل ، فأخذ ذلك الريحان ، وفرق الناس . ففقده الأمير من منزله لا يدري كيف ذهب ".
حكمــــــة
عن مخول قال : جاءني بهيم يوما فقال لي : تعلم لي رجلا من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني ؟ قلت : نعم فذهبت إلى رجل من الحي له صلاح ودين ، فجمعت بينهما وتواطآ على المرافقة . ثم انطلق بهيم إلى أهله ، فلما كان بعد ، أتاني الرجل فقال : يا هذا ، أحب أن تزوي عني صاحبك وتطلب رفيقا غيري . فقلت : ويحك فلم ؟ فوالله ما أعلم في الكوفة له نظيرا في حسن الخلق والاحتمال ، ولقد ركبت معه البحر فلم أر إلا خيرا . قال : ويحك حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر فهذا ينغص علينا العيش سفرنا كله . قال : قلت : ويحك إنما يكون البكاء أحيانا عند التذكر ، يرق القلب فيبكي الرجل ، أو ما تبكي أحيانا ؟ قال : بلى ، ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم جدا من كثرة بكائه . قال : قلت : اصحبه ، فلعلك أن تنتفع به ، قال : أستخير الله . فلما كان اليوم الذي أراد أن يخرجا فيه ، جيء بالإبل ، ووطئ لهما ، فجلس بهيم في ظل حائط ، فوضع يده تحت لحيته ، وجعلت دموعه تسيل على خديه ، ثم على لحيته ، ثم على صدره ، حتى والله رأيت دموعه على الأرض . قال : فقال لي صاحبي : يا مخول ، قد ابتدأ صاحبك ، ليس هذا لي برفيق . قال : قلت : ارفق ، لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم فرق . وسمعها بهيم فقال : والله يا أخي ما هو ذاك وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة . قال : وعلا صوته بالنحيب . قال لي صاحبي : والله ما هي بأول عدواتك لي أو بغضك إياي ، أنا ما لي ولبهيم ؟ إنما كان ينبغي أن ترافق بين بهيم وبين ذواد بن علبة ، وداود الطائي ، وسلام أبي الأحوص ، حتى يبكي بعضهم إلى بعض ، حتى يشتفوا أو يموتوا جميعا . قال : فلم أزل أرفق به ، وقلت : ويحك لعلها خير سفرة سافرتها . قال : وكان طويل الحج ، رجلا صالحا ، إلا أنه كان رجلا تاجرا موسرا مقبلا على شأنه ، لم يكن صاحب حزن ولا بكاء . قال : فقال لي : قد وقعت مرتي هذه ، ولعلها أن تكون خيرا . قال : وكل هذا الكلام لا يعلم به بهيم ، ولو علم بشيء منه ما صحبه . قال : فخرجا جميعا ، حتى حجا ورجعا ، ما يرى كل واحد منهما أن له أخا غير صاحبه . فلما جئت أسلم على جاري قال : جزاك الله يا أخي عني خيرا ، ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر ؛ كان والله يتفضل علي في النفقة وهو معدم وأنا موسر ، ويتفضل علي في الخدمة وأنا شاب قوي ، وهو شيخ ضعيف ، ويطبخ لي ، وأنا مفطر وهو صائم قال : قلت : فكيف كان أمرك معه في الذي كنت تكرهه من طول بكائه ؟ قال : ألفت والله ذلك البكاء ، وسر قلبي ، حتى كنت أساعده عليه حتى تأذى بنا أهل الرفقة . قال : ثم والله ألفوا ذلك ، فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا ، وجعل بعضهم يقول لبعض : ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا والمصير واحد ؟ قال : فجعلوا والله يبكون ونبكي . قال : ثم خرجت من عنده ، فأتيت بهيما فسلمت عليه ، فقلت : كيف رأيت صاحبك ؟ قال : كخير صاحب كثير الذكر طويل التلاوة للقرآن سريع الدمعة ، محتمل لهفوات الرفيق ؛ فجزاك الله عني خيرا.
حكمــــــة
خالد بن الصقر السدوسي قال : كان أبي خاصا لسفيان الثوري قال أبي : فاستأذنت على سفيان في نحر الظهر ، فأذنت لي امرأة ، فدخلت عليه وهو يقول : ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ثم يقول : بلى يا رب بلى يا رب وينتحب ، وينظر إلى سقف البيت ودموعه تسيل . فمكثت جالسا كم شاء الله ، ثم أقبل إلي ، فجلس معي ، فقال : مذ كم أنت ههنا ؟ ما شعرت بمكانك.
حكمــــــة
خرج عطاء بن يسار ، وسليمان بن يسار حاجين من المدينة ، ومعهم أصحاب لهم ، حتى إذا كانوا بالأبواء نزلوا منزلا ، فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم ، وبقي عطاء بن يسار قائما في المنزل يصلي . فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة ، فلما رآها ظن أن لها حاجة فأوجز في صلاته ثم قال : ألك حاجة ؟ قالت : نعم . قال : ما هي ؟ قالت : قم فأصب مني فإني قد ودقت ولا بعل لي . فقال : إليك عني لا تحرقيني ونفسك بالنار . ونظر إلى امرأة جميلة فجعلت تراوده عن نفسه ، وتأبى إلا ما تريد قال : فجعل عطاء يبكي ويقول : ويحك إليك عني إليك عني قال : واشتد بكاؤه . فلما نظرت المرأة إليه ، وما داخله من البكاء والجزع ، بكت المرأة لبكائه . فجعل يبكي ، والمرأة بين يديه تبكي . فبينما هو كذلك ، إذ جاء سليمان من حاجته . فلما نظر إلى عطاء يبكي ، والمرأة بين يديه تبكي ، جلس يبكي في ناحية البيت لبكائهما لا يدري ما أبكاهما وجعل أصحابهما يأتون رجلا رجلا ، كلما أتى رجل فرآهم يبكون ، جلس يبكي لبكائهم لا يسألونهم عن أمرهم ، حتى كثر البكاء وعلا الصوت . فلما رأت الأعرابية ذلك ، قامت فخرجت . قال : وقام القوم فدخلوا . فلبث سليمان بعد ذلك وهو لا يسأل أخاه عن قصة المرأة إجلالا له وهيبة . قال : وكان أسن منه . قال : ثم إنهما قدما مصرا لبعض حاجتهما ، فلبثا بها ما شاء الله . فبينا عطاء ذات ليلة نائم ، إذ استيقظ وهو يبكي فقال له سليمان : ما يبكيك أي أخي ؟ قال : فاشتد بكاؤه قال : ما يبكيك يا أخي ؟ قال : رؤيا رأيتها الليلة . قال : وما هي ؟ قال : لا تخبر بها أحدا ما دمت حيا . قال : وذاك . قال : « رأيت يوسف النبي صلى الله عليه وسلم ، فجئت أنظر إليه فيمن ينظر . فلما رأيت حسنه بكيت فنظر إلي في الناس فقال : ما يبكيك أيها الرجل ؟ قلت : بأبي أنت وأمي ، ذكرتك وامرأة العزيز ، وما ابتليت به من أمرها ، وما لقيت من السجن ، وفرقة الشيخ يعقوب صلى الله عليه وسلم ، فبكيت من ذلك ، وجعلت أتعجب منه . فقال صلى الله عليه وسلم : فهلا تعجبت من صاحب المرأة بالأبواء ؟ فعرفت الذي أراد ، فبكيت ، واستيقظت باكيا » قال سليمان : أي أخي وما كان حال تلك المرأة ؟ قال : فقص عليه عطاء القصة فما أخبر سليمان بها أحدا حتى مات عطاء ؛ وحدث بها بعده امرأة من أهله . قال : وما شاع هذا الحديث بالمدينة إلا بعد موت سليمان بن يسار.
حكمــــــة
عن إبراهيم بن صبح البراد قال : دخلنا على المغيرة أبي محمد وكان إذا تكلم بكى وأبكى فقال : « يا إخوتاه ابكو وبكوا هذه الأعين والقلوب ، فإن الحزين غدا مسرور ، والباكي ضاحك ، والخائف آمن ، وطويل السغب في الدنيا طويل الشبع في الآخرة ، وطويل الظمأ طويل الري عند الله . ألا فتخيروا واختاروا ، واتقوا أن تغبنوا فتهلكوا » قال : ويبكي ، ويبكي الناس.
حكمــــــة
عن مالك بن ضيغم قال : حدثني الحكم بن نوح قال : بكى أبوك ليلة من أول الليل إلى آخره لم يسجد فيها سجدة ، ولم يركع فيها ركعة ، ونحن معه في البحر . فلما أصبحنا قلت : يا أبا مالك لقد طالت ليلتك لا مصليا ولا داعيا ؟ فبكى ثم قال : « لو يعلم الخلائق ماذا يستقبلون غدا ما لذوا بعيش أبدا إني والله لما رأيت الليل وهوله ، وشدة سواده ذكرت به الموقف ، وشدة الأمر هناك ، وكل امرئ يومئذ تهمه نفسه ، لا يغني والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا . قال : ثم شهق ، فلم يزل يضطرب ما شاء الله ثم هدأ . قال الحكم : فحمل علي أصحابنا في المركب وقالوا : أنت تعلم أنه لا يحتمل الذكر ، فما تهيجه » قال : فكنت بعد لا أكاد أذكر له شيئا لا يسألني عنه.
حكمــــــة
عن عبد العزيز بن سلمان العابد قال : انطلقت أنا وعبد الواحد بن زيد ، إلى مالك بن دينار ، فوجدناه قد قام من مجلسه ودخل منزله ، وأغلق عليه باب الحجرة . فجلسنا ننتظره ليخرج ، أو نسمع له حركة فنستأذن عليه . فجعل يترنم بشيء لا نفهمه . ثم بكى حتى جعلنا نأوي له من شدة بكائه . ثم جعل يشهق ويتنفس حتى غشي عليه . فقال لي عبد الواحد : « انطلق ، فهذا رجل مشغول بنفسه ».