فوائد من كتاب الرقة والبكاء 2
عن عبيد الله بن عمر قال : أتيت صاحبا لي يقال له عمران بن مسلم ، « فأراني موضعين مبتلين في مسجده ، أحدهما بحذاء الآخر . فقلت : ما هذا ؟ قال : هذا والله من دموع ضيغم البارحة بين المغرب والعشاء وهو راكع ».
كان منصور بن صفية يبكي في وقت كل صلاة ، فكانوا يرون أنه يذكر الموت والقيامة عند الصلوات. عن الحسن قال : « إذا أذن المؤذن لم تبعد دابة بر ولا بحر إلا أصغت واستمعت قال : ثم بكى الحسن بكاء شديدا ».
كان أبو زكريا النهشلي إذا سمع النداء ، تغير لونه وأرسل عينيه فبكى وسئل عن ذلك ، فقال : أشبهه بالصريخ يوم العرض . قال : ثم غشي عليه.
كان علي بن حسين « إذا توضأ اصفر ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء ؟ فيقول : تدرون بين يدي من أريد أن أقوم ؟ ».
قال شيخ من أهل واسط يكنى أبا سعيد وكان جارا لمنصور بن زاذان قال : رأيت منصورا توضأ فلما فرغ دمعت عيناه ، ثم جعل يبكي حتى ارتفع صوته فقلت : رحمك الله ما شأنك ؟ قال : « وأي شيء أعظم من شأني ؟ إني أريد أن أقوم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم ».
كان عطاء السليمي إذا فرغ من طهوره ارتعد وانتفض ، وبكى بكاء شديدا . فقيل له في ذلك ، فقال : « إني أريد أن أتقدم على أمر عظيم ، إني أريد أن أقوم بين يدي الله »
عن عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت قال : رأيت محمد بن كعب يقص ، فبكى رجل ، فقطع قصصه وقال : « من الباكي ؟ قالوا : مولى بني فلان قال : فكأنه كره ذلك ».
كان محمد بن كعب القرظي يقص ودموعه تجري على خديه ، « فإن سمع باكيا زجره وقال : ما هذا ». عن حماد بن زيد قال : بكى أيوب مرة ، فأخذ بأنفه وقال : « إن هذه الزكمة ربما عرضت » وبكى مرة أخرى ، فاستكنى بكاءه ، فقال : « إن الشيخ إذا كبر مج ».
عن كهمس بن الحسن ، « أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتجاذب فلكزه لكزة » أو قال : « لكمه ». كان ابن المبارك « إذا رق ، فخاف أن يظهر ، ذلك منه ، قام ، وربما أخذ في حديث آخر ».
حدث الحسن يوما أو وعظ فنحب رجل في مجلسه ، فقال الحسن : « إن كان لله فقد شهرت نفسك ، وإن كان لغير الله هلكت ».
عن هريم بن سفيان قال : « كان منصور يحدثنا ، فيمسح الدموع مرارا قبل أن يقوم ». "بكى حذيفة في صلاته ، فلما فرغ التفت ، فإذا رجل خلفه فقال : « لا تعلمن بهذا أحدا "
جاء ثابت إلى محمد بن واسع يعوده فسلم يحيى البكاء على ثابت فقال : « من أنت ؟ » فقال رجل : هذا أبو مسلم ، هذا يحيى قال : « من أبو مسلم ؟ » قالوا : يحيى البكاء قال : « إن شر أيامكم يوم عرفتم بالبكاء ، ونسبتم إليه ».
عن محمد بن واسع قال : « لقد أدركت رجالا ، كان الرجل يكون رأسه ورأس امرأته على وساد واحد ، قد بل ما تحت خده من دموعه ، لا تشعر به امرأته . ولقد أدركت رجالا ، كان أحدهم يقوم في الصف فتسيل دموعه على خديه ، لا يشعر به الذي إلى جنبه ».
كان حسان بن أبي سنان يحضر مسجد مالك بن دينار ، فإذا تكلم مالك « بكى حسان حتى يبل ما بين يديه ، لا يسمع له صوت ».
عن مسمع بن عاصم ، قال : انطلقت أنا وعبد العزيز بن سلمان ، إلى ناشرة بن سعيد الحنفي وكان قد بكى حتى أظلمت عيناه فاستأذنا عليه ، فأذن لنا ، فدخلنا عليه ، فسلم عليه عبد العزيز فقال له ناشرة : « أبو محمد ؟ » قال : نعم قال : ما جاء بك ؟ قال : « جئنا لتبكي ونبكي معك على ما تقدم من سالف الذنوب » قال : فشهق شهقة خر مغشيا عليه وجلس عبد العزيز يبكي عند رأسه . وتنادى أهله ، فجعلوا يبكون حوله وهو صريع بينهم . فلما رأيت البكاء قد كثر ، انسللت فخرجت.
ضحك زياد ذات يوم حتى علا صوته ، ثم قال : أستغفر الله . وبكى بكاء شديدا فقال له جلساؤه بعد ذلك المجلس : ما رأينا أصلح الله الأمير بكاء في إثر ضحك أسرع من بكائك بالأمس قال « إني والله ذكرت ذنبا أذنبته ، كنت به حينئذ مسرورا ، فذكرته ، فبكيت خوفا من عاقبته ثم بكى أيضا ».
عن محمد بن الحارث بن عبد ربه القيسي ، وكان قرابة لرياح القيسي قال : كنت أدخل عليه المسجد وهو يبكي ، وأدخل عليه بيته وهو يبكي ، وآتيه في الجبان وهو يبكي فقلت له يوما : أنت دهرك في مأتم ؟ قال : فبكى ، ثم قال : « يحق لأهل المصائب والذنوب أن يكونوا هكذا »
نظر حذيفة المرعشي إلى رجل وهو يبكي فقال : « ما يبكيك يا فتى ؟ » قال : ذكرت ذنوبا سلفت فبكيت . قال : فبكى حذيفة ثم قال : « نعم يا أخي فلمثل الذنوب فليبك » ثم أخذ بيده ، فتنحيا ، فجعلا يبكيان.
عن عبيد الله بن موسى ، قال : كنا عند حسن بن صالح يوما ، فذكر شيئا ، فرق ، فبكى رجل ، فارتفع صوته ، وعلا بكاؤه فقال رجل من القوم : نعم والله يا أخي فابك هكذا على نفسك فما خير من لا يرحم نفسه ؟ قال عبيد الله : فكنت أسمع الحسن بعد ذلك كثيرا يردد هذه الكلمة : « ما خير من لا يرحم نفسه » قال : فظننت أنه أعجب بها حين سمعها يومئذ.
كان الضحاك بن مزاحم إذا أمسى بكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : « لا أدري ما صعد اليوم من عملي ». كان رجل له ذنوب ، فكان له عند كل ذنب منها بكية قال : فقال له غلامه : إن كان هذا دأبك فإني سأقودك أعمى ».
عن زهير السلولي ، قال : كان رجل من بلعنبر قد لهج بالبكاء ، فكان لا تراه إلا باكيا قال : فعاتبه رجل من إخوانه يوما فقال : لم تبكي رحمك الله هذا البكاء الطويل ؟ فبكى ثم قال : بكيت على الذنوب لعظم جرمي وحق لكل من يعصي البكاء فلو كان البكاء يرد همي لأسعدت الدموع معا دماء ثم بكى حتى غشي عليه ، فقام الرجل عنه وتركه.
عن محمد بن مسلم مولى بني ليث قال : « ذكرنا يوما العفو ، ومعنا حوشب بن مسلم وكان من البكائين عند الذكر فبكى حتى لطى بالأرض ثم رفع رأسه فقال : يا إخوتاه بعد كم ؟ ».
قال رجل ببعض بلاد الشام في بعض السواحل : « لو بكى العابدون على الشفقة حتى لم يبق في أجسادهم جارحة إلا أدت ما فيها من الدم والودك دموعا جارية ، وبقيت الأبدان يبسا خالية ، تردد فيها الأرواح إشفاقا ووجلا من يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت ، لكانوا محقوقين بذلك ثم غشي عليه ».
كان أبو سليمان يبكي عامة دهره وكان كثيرا ما يردد هذا الكلام : « بكوا الذنوب قبل محل بكائها وفرغوا القلوب إلا من شغل حسابها ، فبحرى إن كنتم كذلك أن تدركوا فوات ما قد فات لشؤم التفريط ، بالإنابة والمراجعة والإخلاص للرب الكريم . وكان يبكي ويقول : وجدناه أكرم مولى لشر عبيد » قال : ثم يبكي ويبكي.
عن بهيم العجلي قال : « ركب معنا البحر فتى من بني مرة من أهل البدو ، فجعل يبكي الليل والنهار . فعاتبه أهل المركب على ذلك وقالوا : ارفق بنفسك قليلا فقال : إن أقل ما ينبغي أن يكون لنفسي عندي أن أبكيها ، فأبكي عليها أيام الدنيا ، لعلمي بما يمر عليها في ذلك اليوم غدا قال : فما بقي في المركب أحد إلا بكى ».
كان أبو جعفر القارئ يقول في جوف الليل وهو يبكي : ابك لذنبك طول الدهر مجتهدا إ ن البكاء معول الأحزان لا تنس ذنبك في النهار وطوله إن الذنوب تحيط بالإنسان ويبكي بكاء شديدا ويردد ذلك.
قال بحر أبو يحيى : سمعت عابدا ، في بعض السواحل ذات ليلة يبكي ، وإخوانه عنده ، فبكوا ، فقال : « ابكوا بأبي أنتم بكاء من علم أنه غير ناج إلا بطول الحزن والبكاء قال : ثم بكى وقال : من فيض الدمع للدنيا فإنا نسفح الدمع لاقتراف الذنوب قال : فبكى القوم والله بكاء شديدا »
قال يزيد الرقاشي : « إذا أنت لم تبك على ذنبك ، فمن يبكي لك عليه بعدك ؟ » قال : ثم يبكي صالح ويقول : يا إخوتاه ابكو على الذنوب ، فإنها ترين القلوب حتى تنطمس ، فلا يصل إليها من خير الموعظة شيء.
عن قتادة قال : « كان زياد بن مطر العدوي قد بكى حتى عمي وبكى ابنه العلاء بن زياد بعده حتى عشي بصره قال : وكان إذا أراد أن يتكلم أو يقرأ ، جهش بالبكاء ».
عن عمر بن ذر ، قال : « قلت لأسيد الضبي : قد أفسد البكاء عينيك قال : فمه قلت : لو قصرت قليلا . قال : ولم ؟ أأتاني أمان من الله من دخول النار ؟ قال : ثم غشي عليه ».
« كان العلاء بن عبد الكريم قد بكى حتى فسدت عينه من كثرة ما يبكي ». « بكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه ، فكانت مفتوحة ، وهو لا يكاد يبصر بها ».
عن شهاب بن عباد قال : « رأيت بهيما أبا بكر العجلي ، وكان قد بكى حتى سقطت أشفاره ، وكان رطب العينين جدا فقلت لابن أخ له : ما شأنه يمس عينيه كثيرا ؟ قال : قد فسدت من كثرة ما يبكي ، فهي تحكه وتضرب عليه ».
بكى منصور حتى جردت عيناه . وكان يقوم الليل ويصوم النهار ، فكانت أمه ترى بكاءه وما يصنع بنفسه ، فتقول له : يا بني لو كنت قتلت قتيلا لما زدت على هذا.
كانت عينا مالك بن مغول رطبة جدا وكان يقال في ذلك الزمان : إنه طويل البكاء قال : وربما رأيته يحدث والدموع على لحيته جارية ».
قال كلاب بن جري : « رأيت شابا ببيت المقدس قد عمش من طول البكاء ، فقلت له : يا فتى كم تكون العين سليمة على هذا ؟ فبكى ثم قال : كما شاء ربي فلتكن ، وإن شاء سيدي فلتذهب ، فليست بأكرم علي من بدني إنما أبكي رجاء الفرح والسرور في الآخرة ؛ وإن تكن الأخرى فهو والله شقاء الآخرة ، وحزن الأبد ، والأمر الذي كنت أخافه وأحذره على نفسي ، وأني أحتسب على الله غفلتي عن نفسي ، وتقصيري في حظي . ثم غشي عليه ».
يذكر أن فتى من الأزد بكى حتى أطلع بصره فعوتب في ذلك فقال : ألم يرث البكاء أناس صدق فقادهم البكا خير المعاد ؟ ألم يقل الإله : إلي عبدي فكل الخير عندي في المعاد ؟ والله لأبكين دائم الدنيا ، فإذا جاءت الآخرة فعند الله أحتسب مصيبتي في تقصيري.
بكى بديل العقيلي حتى قرحت مآقيه ، فكان يعاتب في ذلك ، فيقول : إنما أبكي خوفا من طول العطش يوم القيامة. بكى يزيد الرقاشي أربعين عاما حتى تساقطت أشفاره ، وأظلمت عيناه ، وتغيرت مجاري دموعه.
كان هشام بن أبي عبد الله قد أظلم عليه بصره من طول البكاء ، فكنت تراه ينظر إليك فلا يعرفك إلا أن تكلمه. « بكت عبيدة بنت أبي كلاب أربعين سنة ، حتى ذهب بصرها ».
بكى أسيد الضبي حتى عمي ، وكان إذا عوتب على البكاء ، بكى وقال : الآن حين لا أهدأ ؟ وكيف أهدأ وأنا أموت غدا ؟ والله لأبكين ، ثم لأبكين ، ثم لأبكين فإن أدركت بالبكاء خيرا فبمن الله علي وفضله ، وإن تكن الأخرى ، فما بكائي في جنب ما ألقى ؟ قال : وكان ربما بكى حتى يتأذى به جيرانه من كثرة بكائه.
قال أنس لثابت : « ما أشبه عينيك بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبكى حتى عمش ». « كان سعيد بن جبير يبكي حتى عمش ».
« بكى ثابت حتى ذهب بصره أو كاد يذهب . فقيل له : نعالجك على أن لا تبكي . قال : ما خير فيهما إذا لم تبكيا ؟ ».
« اشتكى ثابت البناني عينه ، فقال له الطبيب : اضمن لي خصلة تبرأ عينك ، قال : » وما هي ؟ " قال : لا تبك . قال : » وما خير في عين لا تبكي ".
« كان في وجه عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء ». قال أبو رجاء العطاردي : « كان هذا المكان من ابن عباس مثل الشراك البالي من الدموع ».
« كان عمر بن عبد العزيز قد بكى حتى أثرت الدموع بوجهه ». قال أبي : « أتيت الحسن سنة ، فما أخطأني يوم آتيه إلا وأنا أرى دموعه تجري على لحيته ».
عن موسى بن صالح القريعي من أهل البصرة قال : « رأيت مجاري الدموع في خد عتبة الغلام منسلخة ، ورأيت عليه إزارا وكما ».
عن عقيبة بن فضالة ، قال : « كانت الدموع قد أثرت بخدي الفضل بن عيسى الرقاشي أثرا بينا ، فكان كالشيء المخدوش ، نديا دهره ».
قال مالك بن دينار : « يا إخوتاه والله لو ملكت البكاء لبكيت أيام الدنيا » قال : وكان قد بكى حتى اسود طريق الدموع في خده.
كان الربيع بن خثيم يبكي حتى تبل لحيته من دموعه ، ثم يقول : أدركنا أقواما كنا في جنوبهم لصوصا . قال مسلم بن خالد أخبرني من رأى عمر بن عبد العزيز « يطوف بالبيت ودموعه سائلة على لحيته ».
قال مضر : « كان شاب في عبد القيس يبكي الليل والنهار ، لا يكاد يفتر فقيل له : لو قصرت قليلا قال : ولم أقصر ؟ وقد ندبت إلى الجد والاجتهاد ؟ والله لا أقصر عن الاجتهاد في نجائها أبدا فكان يبكي الليل والنهار ».
قال رجل من بني تميم : أن حسن بن صالح ، كان يصلي إلى السحر ثم يجلس فيبكي في مكانه ، ويجلس علي فيبكي في حجرته . قال : وكانت أمهم تبكي بالليل والنهار قال : فماتت ، ثم مات علي ثم مات حسن . قال : فرأيت حسنا في منامي فقلت : ما فعلت الوالدة ؟ قال : « بدلت بطول ذلك البكاء سرور الأبد » قلت : فعلي ؟ قال : « وعلي على خير » . قال : قلت : فأنت ؟ قال : فمضى وهو يقول : « وهل نتكل إلا على عفوه ؟ ».
قيل لعطاء السليمي : ما تشتهي ؟ قال : « أشتهي أن أبكي حتى لا أقدر على أن أبكي قال : فكان يبكي الليل والنهار ، وكانت دموعه الدهر سائلة على وجهه ».
« دخل رجلان على عطاء السليمي ، فوجداه يبكي ، فقال أحدهما لصاحبه : أما هذا فسيبكي ثلاثة أيام ولياليهن قال : فخرجا وتركاه ».
كان يحيى بن مسلم البكاء قد اعتم بعمامة وأدارها على حلقه ، وجعل لها طرفين . فكان يبكي وينتحب حتى يبل هذا الطرف ، ثم يبكي وينتحب حتى يبل هذا الطرف الآخر ثم يحلها من رأسه ويبكي وينتحب حتى يبل العمامة بأسرها ، ثم يبكي وينتحب حتى يبل أردانه.
قال أبو سهل محمد بن عمرو الأنصاري : كنا مع محمد بن واسع في جنازة ، فجعلت أنظر إلى دموعه على لحيته ، وهو جالس لا يتكلم بشيء ، فذكرت ذلك ليحيى بن مسلم البكاء ، فبكى وقال : « إن في دون ما كنتم فيه لما يبكي القبور ».
كان محمد بن واسع نازلا في العلو ، وكان قوم يسكنون في داره في السفل . قال : فحدثني بعضهم قال : « كان يبكي عامة الليل ، لا يكاد يفتر » قال : « ثم يصبح ، فإنما يكشر في وجوه أصحابه ».
« بكى عتبة الغلام في مجلس عبد الواحد بن زيد تسع سنين ، لا يفتر بكاء من حين يبدأ عبد الواحد في الموعظة إلى أن يقوم ، لا يكاد أن يسكت عتبة ، فقيل لعبد الواحد : إنا لا نفهم كلامك من بكاء عتبة ، قال : فأصنع ماذا ؟ يبكي عتبة على نفسه وأنهاه أنا ؟ لبئس واعظ قوم أنا ».
عن سليم النحيف قال : رمقت عتبة ذات ليلة بساحل البحر ، فما زاد ليلته تلك حتى أصبح على هذه الكلمات وهو قائم ، وهو يقول : « إن تعذبني فإني لك محب ، وإن ترحمني فإني لك محب . فلم يزل يرددها ويبكي حتى طلع الفجر ».
عن ابن الفضيل بن عياض قال : « كان الفضيل قد ألف البكاء ، حتى ربما بكى في نومه حتى يسمعه أهل الدار ». عن الربيع بن صبيح قال : ما دخلت على الحسن إلا أصبته مستلقيا يبكي.
عن يونس بن عبيد قال : « كنا ندخل على الحسن ، فيبكي حتى نرحمه ». عن ابن المبارك قال : « كان ابن أبي رواد يتكلم ودموعه تسيل على خده ، وكان وهيب يتكلم والدموع تقطر من عينيه ».
كان يزيد الرقاشي يبكي حتى يسقط ، ثم يفيق ، فيبكي حتى يسقط ، ثم يفيق ، فيبكي حتى يسقط ، فيحمل مغشيا عليه إلى أهله وكان يقول في كلامه : « إخوتاه ابكوا قبل يوم البكاء ونوحوا قبل يوم النياحة وتوبوا قبل انقطاع التوبة ، إنما سمي نوحا صلى الله عليه وسلم أنه كان نواحا ، فنوحوا معشر الكهول والشباب على أنفسكم » قال : وكان يتكلم والدموع جارية على لحيته وخديه.
« كان الحسن إذا تكلم شفى النفوس من إسبال الدموع قال : وما قعدت إليه يوما قط إلا بكيت حتى اشتفيت ».
قال عبد الواحد بن زيد : « لو رأيت الحسن إذا أقبل لبكيت لرؤيته من قبل أن يتكلم ومن ذا الذي كان يرى الحسن فلا يبكي ومن كان يقدر يملك نفسه عن البكاء عند رؤيته ؟ ثم بكى عبد الواحد بكاء شديدا ».
عن مالك بن مغول قال : « كان رجل يبكي الليل والنهار ، فقالت له أمه : لو كنت قتلت نفسا ثم أتيت أهله لعفوا عنك لما يرون من كثرة بكائك ، قال : فبكى ثم قال : يا أمه إني والله إنما قتلت نفسي فبكت أمه عند ذلك »
" كان سعيد بن السائب الطائفي لا تكاد تجف له دمعة إنما دموعه جارية دهره إن صلى فهو يبكي وإن طاف فهو يبكي ، وإن جلس يقرأ في المصحف فهو يبكي ، وإن لقيته في طريق فهو يبكي » قال سفيان : فحدثوني أن رجلا عاتبه على ذلك ، فبكى ثم قال : إنما ينبغي أن تعذلني وتعاتبني على التقصير والتفريط ، فإنهما قد استوليا علي . قال الرجل : فلما سمعت ذلك منه انصرفت وتركته ".
عن سهيل بن عبد الله القطعي ، قال : « صلى بنا مالك بن دينار العصر ، فلما سلم عض على إصبعه ، فلم تزل عيناه تدمعان حتى غابت الشمس ».
عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال : قلت ليزيد بن مرثد : ما لي لا أرى عينك تجف ؟ قال : وما مسألتك عنه ؟ قلت : عسى الله أن ينفع به . قال : يا أخي « إن الله قد توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار . والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حريا أن لا تجف لي عين ».
قالوا ليزيد بن أبان الرقاشي : ما تسأم من كثرة البكاء ؟ فبكى ثم قال : « وهل يشبع المرضع من الغذاء ؟ والله لوددت أني أبكي بعد الدموع الدماء ، وبعد الدماء الصديد ، أيام الدنيا ، فإنه بلغنا أن أهل النار يبكون الدماء إذا نفدت الدموع ، حتى لو أرسلت فيها السفن لجرت فما حق امرئ لا يبكي على نفسه في الدنيا وينوح عليها ؟ » قال : وكان يقول : « ابك يا يزيد على نفسك قبل حين البكاء ، إنما سمي نوحا صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان ينوح على نفسه . يا يزيد من يصلي لك بعدك ؟ ومن يصوم يا يزيد ؟ ومن يضرع لك إلى ربك بعدك ؟ ومن يدعو ؟ » فكان يعدد على هذا ونحوه ، ويبكي ويقول : « يا إخوتاه ابكوا أو بكوا أنفسكم ، فإن لم تجدوا بكاء فارحموا كل بكاء ».
كان يزيد الرقاشي إن دخل بيته بكى وإن شهد جنازة بكى ، وإن جلس إليه إخوانه بكى وأبكاهم . فقال له ابنه يوما : يا أبه كم تبكي ؟ والله لو كانت النار خلقت لك ما زدت على هذا البكاء فقال : ثكلتك أمك يا بني وهل خلقت النار إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن أما تقرأ يا بني: ( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) أما تقرأ يا بني : ( يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ) ؟ فجعل يقرأ عليه حتى انتهى إلى : ( يطوفون بينها وبين حميم آن ) قال : فجعل يجول في الدار ويصرخ ويبكي ، حتى غشي عليه فقالت للفتى أمه : يا بني ما أردت إلى هذا من أبيك ؟ فقال : والله إنما أردت أن أهون عليه ، لم أرد أن أزيده حتى يقتل نفسه.
كان أبي يبكي ويقول لأصحابه : « ابكوا اليوم قبل الداهية الكبرى ابكوا اليوم قبل أن تبكوا غدا ابكوا اليوم قبل يوم لا يغني فيه البكاء ابكوا على التفريط أيام الدنيا قال : ثم يبكي حتى يرفع صريعا من مجلسه ».
عن سفيان قال : كان أمية رجل من أهل الشام يقدم فيصلي هناك مما يلي باب بني سهم ، فينتحب ويبكي حتى يعلو صوته ، وحتى تسيل دموعه . قال : فأرسل إليه الأمير أنك تفسد على المصلين صلاتهم بكثرة بكائك ، وارتفاع صوتك ، فلو أمسكت قليلا . فبكى ثم قال : « إن حزن يوم التيه أورثني دموعا غزارا ، فأنا أستريح إلى ذريها أحيانا » وكان أمية يقول : « ومن أسعد بالطاعة من مطيع ؟ ألا وكل الخير في الطاعة . ألا وإن المطيع لله ملك في الدنيا والآخرة » قال : وكان يدخل الطواف ، فيأخذ في النحيب والبكاء ، وربما سقط مغشيا عليه.
« بكى مسعر فبكت أمه ، فقال لها مسعر : ما أبكاك يا أمه ؟ قالت : يا بني رأيتك تبكي فبكيت . قال : يا أمه لمثل ما نهجم عليه غدا فليظل البكاء قالت : وما ذاك يا بني ؟ قال : القيامة وما فيها قال : ثم غلبه البكاء ، فقام قال : وكان مسعر يقول : لولا أمي ما فارقت المسجد إلا لما لا بد منه قال : وكان إن دخل بكى ، وإن خرج بكى ، وإن صلى بكى ، وإن جلس بكى ».
قال رجل يكنى أبا حمزة : كنت أمشي مع رياح القيسي فمر بصبي يبكي ، فوقف عليه يسأله : ما يبكيك يا بني ؟ وجعل الصبي لا يحسن يجيبه ، ولا يرد عليه شيئا ، فبكى ، ثم التفت إلي فقال : يا أبا حمزة ما لأهل النار راحة ولا معول إلا البكاء . وجعل يبكي.
عن محمد بن يزيد بن خنيس قال : « ما رأيت أحدا قط أسرع دمعة من سعيد بن السائب . إنما كان يجزئه أن يحرك ، فترى دموعه كالقطر ».
قال سرار أبو عبيدة : قالت لي امرأة عطاء السليمي : عاتب عطاء في كثرة البكاء ، فعاتبته ، فقال لي : « يا سرار كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلي ؟ إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه ، تمثلت لي نفسي بهم ، فكيف بنفس تغل يدها إلى عنقها ، وتسحب إلى النار ، ألا تصيح وتبكي ؟ وكيف لنفس تعذب ألا تبكي ويحك يا سرار ما أقل غناء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله » قال : فسكت عنه.
عن سرار العنزي قال : « ما رأيت عطاء السليمي قط إلا وعيناه تفيضان وما كنت أشبه عطاء إذا رأيته إلا بالمرأة الثكلى ، وكأن عطاء لم يكن من أهل الدنيا ».
عن صالح المري قال : قلت لعطاء السليمي : ما تشتهي ؟ فبكى ثم قال : « أشتهي والله يا أبا بشر أن أكون رمادا لا تجتمع منه سفة أبدا في الدنيا ولا في الآخرة » قال صالح : فأبكاني والله ، وعلمت أنه إنما أراد النجاة من عسر يوم الحساب.
عن وهب بن منبه ، أن عابدا لقي عابدا وهو يبكي ، وقد بكى حتى جردت عيناه ، فقال : ما يبكيك ؟ قال : وما لي لا أبكي ؟ أبكي والله على أن لا أكون لم أزل أبكي.
عن نعيم بن مورع التميمي قال : حدثت عن ميسرة القيسي ، أنه كان يبكي حتى يغمى عليه ، فيقال له : لو رفقت بنفسك ؟ فيقول : إنما أتيت من الرفق بها ، والله لا أرفق بها أبدا والقيامة أمامها ، حتى أعلم ما لها عند ربها من خير وشر قال : وكان قد عمش من طول البكاء.
قال بحر أبو يحيى وكان عابدا : « رأيت عابدا بعبادان يبكي عامة الليل والنهار . قال : فقلت له : يا أخي كم تبكي ؟ قال : فازداد بكاء ثم قال لي : فما أصنع إذا لم أبك ؟ قال : وغشي عليه ».
بكى يزيد الرقاشي أربعين عاما لا يكاد ترقأ له دمعه فكان إذا قيل له ذلك قال : « إنما الأسف على أن لا أكون تقدمت في البكاء ».
عن مالك بن دينار قال : « لو ملكت البكاء لبكيت أيام الدنيا . ولولا أن يقول الناس مجنون لوضعت التراب على رأسي ، ثم نحت على نفسي في الطرق والأحياء ، حتى تأتيني منيتي ثم بكى ».
عن أفلح مولى محمد بن علي قال : خرجت مع محمد بن علي حاجا ؛ فلما دخل المسجد نظر إلى البيت ، فبكى حتى علا صوته . فقلت : بأبي أنت وأمي الناس ينظرون إليك ، فلو رفقت بصوتك قليلا قال : « ويحك يا أفلح ولم لا أبكي ؟ لعل الله أن ينظر إلي منه برحمة ؛ فأفوز بها غدا عنده » قال : ثم طاف البيت ، ثم جاء حتى ركع عند المقام ، فرفع رأسه من سجوده ، فإذا موضع سجوده مبتل من دموع عينيه.
يذكر أن عبد الملك بن مروان ، نظر إلى رجل ساجد ، قد أطال السجود ، فلما رفع رأسه نظر إلى موضع سجوده مبتلا بالدموع فأرصد له رجلا فقال : إذا قضى صلاته فأتني به أختبر عقله . فلما قضى صلاته ، أتاه ، فقال له عبد الملك : رأيت منك منظرا الجنة تدرك بدونه . فصرخ الرجل صرخة أفزع عبد الملك وخر مغشيا عليه ثم أفاق بعد طويل وهو يمسح العرق عن وجهه ويقول : تبا لعاصيك ما احتمل من الآثام لديك قال : فجعل عبد الملك يبكي ، والرجل مول لا يلتفت حتى خرج.
عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه قال : كنا ذات يوم عند ابن ذر وهو يتكلم ، فذكر رواجف القيامة وزلازلها وأهوالها ، وشدة الأمر يومئذ هناك . قال : واستبكى ابن ذر ، وبكى الناس يومئذ بكاء شديدا . قال : فوثب رجل من بني عجل يقال : له وراد ، فجعل يبكي ويصرخ ويضطرب ، حتى هدأ . قال : ثم حمل من بين القوم صريعا قال : فجعل ابن ذر يومئذ يبكي ويقول : ليس كلنا قد أتاه الأمان من الله يا وراد غيرك ليس كلنا قد أيقن بالنجاة من النار غيرك . وتالله أيها الناس ما أخو بني عجل بأولى بالخوف من الله منا ومنكم ، وما منا أحد إلا على مثل حاله بين خوف ورجاء . وإنا فيما ندبنا الله إليه من طاعته لمشتركون جميعا ، فما الذي قصر بنا وأسرع به ؟ وكلم قلبه حتى أبكاه فأخرجه إلى ما رأيتم من مخافة الله ؟ وكلنا قد سمع الموعظة ، وفهم التذكرة ، فلم يكن من أحد منا سواه لذلك حركه ، ولم تنبض من أحد منا في ذلك خارجة والله إن هذا يا أخا بني عجل إلا من صفاء قلبك ، وتراكم الذنوب على قلوبنا ، وما أرانا نؤتى إلا من أنفسنا « قال : ثم بكى ابن ذر ، وقرأ هذه الآية : ( إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) » ، قال عمر قال أبي : كنت أرى ورادا العجلي يأتي المسجد مقنع الرأس ، فيعتزل ناحية ، فلا يزال مصليا وداعيا وباكيا كم شاء الله من النهار . ثم يخرج ، ثم يعود فيصلي الظهر فهو كذلك بين صلاة ودعاء وبكاء حتى يصلي العشاء . ثم يخرج لا يكلم أحدا ، ولا يجلس إلى أحد فسألت عنه رجلا من حيه ، ووصفته له ، قلت : شاب من صفته ، من هيئته قال : بخ يا أبا عمر تدري عمن تسأل ؟ ذاك وراد العجلي الذي عاهد الله أن لا يضحك حتى ينظر إلى وجه رب العالمين قال أبي : فكنت إذا رأيته بعد هبته
عن سكين بن مكين ، رجل من بني عجل قال : كانت بيننا وبينه قرابة يعني ورادا فسألت أختا له كانت أصغر منه قال : قلت : كيف كان ليله ؟ قالت : بكاء عامة الليل وتضرع قلت : فما كان طعمه ؟ قالت : قرص في أول الليل ، وقرص في آخره عند السحر قلت : فتحفظين من دعائه شيئا ؟ قالت : نعم كان إذا كان أو قريب من طلوع الفجر سجد ثم بكى ثم قال : « مولاي عبدك يحب الاتصال بطاعتك ، فأعنه عليها بتوفيقك أيها المنان مولاي عبدك يحب اجتناب سخطك ، فأعنه على ذلك بمنك عليه أيها المنان . مولاي عبدك عظيم الرجاء لخيرك ، فلا تقطع رجاءه يوم يفرح بخيرك الفائزون » قالت : فلا يزال على هذا ونحوه حتى يصبح قالت : وكان قد كل من الاجتهاد ، وتغير لونه جدا.
" لما مات وراد العجلي ، فحملوه إلى حفرته ، نزلوا ليدلوه في حفرته ، فإذا القبر مفروش بالريحان فأخذ بعض القوم الذين نزلوا القبر من ذلك الريحان شيئا ، فمكث سبعين يوما طريا لا يتغير ، يغدو الناس ويروحون ينظرون إليه » قال : وكثر الناس في ذلك ، حتى خاف الأمير أن يفتن الناس ، فأرسل إلى الرجل ، فأخذ ذلك الريحان ، وفرق الناس . ففقده الأمير من منزله لا يدري كيف ذهب ".
عن مخول قال : جاءني بهيم يوما فقال لي : تعلم لي رجلا من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني ؟ قلت : نعم فذهبت إلى رجل من الحي له صلاح ودين ، فجمعت بينهما وتواطآ على المرافقة . ثم انطلق بهيم إلى أهله ، فلما كان بعد ، أتاني الرجل فقال : يا هذا ، أحب أن تزوي عني صاحبك وتطلب رفيقا غيري . فقلت : ويحك فلم ؟ فوالله ما أعلم في الكوفة له نظيرا في حسن الخلق والاحتمال ، ولقد ركبت معه البحر فلم أر إلا خيرا . قال : ويحك حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر فهذا ينغص علينا العيش سفرنا كله . قال : قلت : ويحك إنما يكون البكاء أحيانا عند التذكر ، يرق القلب فيبكي الرجل ، أو ما تبكي أحيانا ؟ قال : بلى ، ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم جدا من كثرة بكائه . قال : قلت : اصحبه ، فلعلك أن تنتفع به ، قال : أستخير الله . فلما كان اليوم الذي أراد أن يخرجا فيه ، جيء بالإبل ، ووطئ لهما ، فجلس بهيم في ظل حائط ، فوضع يده تحت لحيته ، وجعلت دموعه تسيل على خديه ، ثم على لحيته ، ثم على صدره ، حتى والله رأيت دموعه على الأرض . قال : فقال لي صاحبي : يا مخول ، قد ابتدأ صاحبك ، ليس هذا لي برفيق . قال : قلت : ارفق ، لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم فرق . وسمعها بهيم فقال : والله يا أخي ما هو ذاك وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة . قال : وعلا صوته بالنحيب . قال لي صاحبي : والله ما هي بأول عدواتك لي أو بغضك إياي ، أنا ما لي ولبهيم ؟ إنما كان ينبغي أن ترافق بين بهيم وبين ذواد بن علبة ، وداود الطائي ، وسلام أبي الأحوص ، حتى يبكي بعضهم إلى بعض ، حتى يشتفوا أو يموتوا جميعا . قال : فلم أزل أرفق به ، وقلت : ويحك لعلها خير سفرة سافرتها . قال : وكان طويل الحج ، رجلا صالحا ، إلا أنه كان رجلا تاجرا موسرا مقبلا على شأنه ، لم يكن صاحب حزن ولا بكاء . قال : فقال لي : قد وقعت مرتي هذه ، ولعلها أن تكون خيرا . قال : وكل هذا الكلام لا يعلم به بهيم ، ولو علم بشيء منه ما صحبه . قال : فخرجا جميعا ، حتى حجا ورجعا ، ما يرى كل واحد منهما أن له أخا غير صاحبه . فلما جئت أسلم على جاري قال : جزاك الله يا أخي عني خيرا ، ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر ؛ كان والله يتفضل علي في النفقة وهو معدم وأنا موسر ، ويتفضل علي في الخدمة وأنا شاب قوي ، وهو شيخ ضعيف ، ويطبخ لي ، وأنا مفطر وهو صائم قال : قلت : فكيف كان أمرك معه في الذي كنت تكرهه من طول بكائه ؟ قال : ألفت والله ذلك البكاء ، وسر قلبي ، حتى كنت أساعده عليه حتى تأذى بنا أهل الرفقة . قال : ثم والله ألفوا ذلك ، فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا ، وجعل بعضهم يقول لبعض : ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا والمصير واحد ؟ قال : فجعلوا والله يبكون ونبكي . قال : ثم خرجت من عنده ، فأتيت بهيما فسلمت عليه ، فقلت : كيف رأيت صاحبك ؟ قال : كخير صاحب كثير الذكر طويل التلاوة للقرآن سريع الدمعة ، محتمل لهفوات الرفيق ؛ فجزاك الله عني خيرا.
خالد بن الصقر السدوسي قال : كان أبي خاصا لسفيان الثوري قال أبي : فاستأذنت على سفيان في نحر الظهر ، فأذنت لي امرأة ، فدخلت عليه وهو يقول : ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ثم يقول : بلى يا رب بلى يا رب وينتحب ، وينظر إلى سقف البيت ودموعه تسيل . فمكثت جالسا كم شاء الله ، ثم أقبل إلي ، فجلس معي ، فقال : مذ كم أنت ههنا ؟ ما شعرت بمكانك.
خرج عطاء بن يسار ، وسليمان بن يسار حاجين من المدينة ، ومعهم أصحاب لهم ، حتى إذا كانوا بالأبواء نزلوا منزلا ، فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم ، وبقي عطاء بن يسار قائما في المنزل يصلي . فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة ، فلما رآها ظن أن لها حاجة فأوجز في صلاته ثم قال : ألك حاجة ؟ قالت : نعم . قال : ما هي ؟ قالت : قم فأصب مني فإني قد ودقت ولا بعل لي . فقال : إليك عني لا تحرقيني ونفسك بالنار . ونظر إلى امرأة جميلة فجعلت تراوده عن نفسه ، وتأبى إلا ما تريد قال : فجعل عطاء يبكي ويقول : ويحك إليك عني إليك عني قال : واشتد بكاؤه . فلما نظرت المرأة إليه ، وما داخله من البكاء والجزع ، بكت المرأة لبكائه . فجعل يبكي ، والمرأة بين يديه تبكي . فبينما هو كذلك ، إذ جاء سليمان من حاجته . فلما نظر إلى عطاء يبكي ، والمرأة بين يديه تبكي ، جلس يبكي في ناحية البيت لبكائهما لا يدري ما أبكاهما وجعل أصحابهما يأتون رجلا رجلا ، كلما أتى رجل فرآهم يبكون ، جلس يبكي لبكائهم لا يسألونهم عن أمرهم ، حتى كثر البكاء وعلا الصوت . فلما رأت الأعرابية ذلك ، قامت فخرجت . قال : وقام القوم فدخلوا . فلبث سليمان بعد ذلك وهو لا يسأل أخاه عن قصة المرأة إجلالا له وهيبة . قال : وكان أسن منه . قال : ثم إنهما قدما مصرا لبعض حاجتهما ، فلبثا بها ما شاء الله . فبينا عطاء ذات ليلة نائم ، إذ استيقظ وهو يبكي فقال له سليمان : ما يبكيك أي أخي ؟ قال : فاشتد بكاؤه قال : ما يبكيك يا أخي ؟ قال : رؤيا رأيتها الليلة . قال : وما هي ؟ قال : لا تخبر بها أحدا ما دمت حيا . قال : وذاك . قال : « رأيت يوسف النبي صلى الله عليه وسلم ، فجئت أنظر إليه فيمن ينظر . فلما رأيت حسنه بكيت فنظر إلي في الناس فقال : ما يبكيك أيها الرجل ؟ قلت : بأبي أنت وأمي ، ذكرتك وامرأة العزيز ، وما ابتليت به من أمرها ، وما لقيت من السجن ، وفرقة الشيخ يعقوب صلى الله عليه وسلم ، فبكيت من ذلك ، وجعلت أتعجب منه . فقال صلى الله عليه وسلم : فهلا تعجبت من صاحب المرأة بالأبواء ؟ فعرفت الذي أراد ، فبكيت ، واستيقظت باكيا » قال سليمان : أي أخي وما كان حال تلك المرأة ؟ قال : فقص عليه عطاء القصة فما أخبر سليمان بها أحدا حتى مات عطاء ؛ وحدث بها بعده امرأة من أهله . قال : وما شاع هذا الحديث بالمدينة إلا بعد موت سليمان بن يسار.
عن إبراهيم بن صبح البراد قال : دخلنا على المغيرة أبي محمد وكان إذا تكلم بكى وأبكى فقال : « يا إخوتاه ابكو وبكوا هذه الأعين والقلوب ، فإن الحزين غدا مسرور ، والباكي ضاحك ، والخائف آمن ، وطويل السغب في الدنيا طويل الشبع في الآخرة ، وطويل الظمأ طويل الري عند الله . ألا فتخيروا واختاروا ، واتقوا أن تغبنوا فتهلكوا » قال : ويبكي ، ويبكي الناس.
عن بكر بن مصاد قال : دخلنا على أبي محمد المغيرة الخزاز وهو في مسجد في بيته ، مستقبل القبلة ، ودموعه جارية على لحيته ، فسلمنا عليه وقلنا : ما يبكيك رحمك الله ؟ قال : « أمل طويل وليل قريب أتوقعه ، ما أدري على ماذا منه ، على مسرة أو معرة . ثم غشي عليه ».
عن ابن السماك قال : رأيت ابن ذر يبكي من أول الليل إلى آخره ، متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول : « إليك أنضيت المطي وإليك تجشمت قطع المفاوز حتى أنخت بفنائك رجاء كرامتك ، وجزيل ثوابك » قال : ويبكي حتى أصبح.
قال بهيم العجلي : « وعزتك إلهي ما بكى الباكون إليك فخيبتهم من فضلك ، بل ظن أوليائك بك أحسن الظنون ، ورجاؤهم لك أكثر الرجاء » قال : ثم يبكي حتى يبل لحيته بالدموع. « كان بهيم رجلا طوالا شديد الأدمة ، إذا رأيته رأيت رجلا حزينا ».
عن عبد الله بن محمد بن حميد بن الأسود قال : سمعت مضر أبا سعيد التادبي يقول : « ما تلذذت لذاذة قط ، ولا تنعمت نعيما أكثر عند من بكى حرقة ». قال الضحاك بن مخلد : « رأيت هشام بن حسان إذا ذكرت الجنة أو النبي عليه السلام ، بكى حتى تسيل دموعه . ورأيت ابن عون تدور الدموع في عينيه ولا تخرج ».
عن معلى الوراق قال : كنا عند مالك بن دينار وهو يتكلم ، فجاء أبوعبيدة الخواص ، فأخرج من كمه حبل ليف جديد ، في طرفه عروتان ، فجعل عروة في عنقه ، وعروة في عنق مالك ثم قال : يا مالك « عد أنا بين يدي الله ، ما عسى أن نقول ؟ فبكى القوم جميعا ».
كان موسى الخياط يبكي حتى يتقطع صوته وتسترخي . . فيسقط . وكان ينوح على نفسه في بكائه ويقول : « أبكي والله قبل طول البكاء ، أبكي والله قبل محل الشقاء ».
عن إبراهيم بن محمد جليس لموسى الخياط قال :كان موسى بن سعيد الخياط يبكي وينوح على نفسه ، ويقول في تعديده : سجوني وسدوني وفي لحدي فدلوني ألبست قباطيا أبليها وتبليني ويبكي . فلما رآني سكت.
عن مالك بن ضيغم قال : حدثني الحكم بن نوح قال : بكى أبوك ليلة من أول الليل إلى آخره لم يسجد فيها سجدة ، ولم يركع فيها ركعة ، ونحن معه في البحر . فلما أصبحنا قلت : يا أبا مالك لقد طالت ليلتك لا مصليا ولا داعيا ؟ فبكى ثم قال : « لو يعلم الخلائق ماذا يستقبلون غدا ما لذوا بعيش أبدا إني والله لما رأيت الليل وهوله ، وشدة سواده ذكرت به الموقف ، وشدة الأمر هناك ، وكل امرئ يومئذ تهمه نفسه ، لا يغني والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا . قال : ثم شهق ، فلم يزل يضطرب ما شاء الله ثم هدأ . قال الحكم : فحمل علي أصحابنا في المركب وقالوا : أنت تعلم أنه لا يحتمل الذكر ، فما تهيجه » قال : فكنت بعد لا أكاد أذكر له شيئا لا يسألني عنه.
عن سلمة بن سعيد قال : رئي للعلاء بن زياد أنه من أهل الجنة : فمكث ثلاثا لا ترقأ له دمعة ، ولا يكتحل بنوم ، ولا يذوق طعاما . فأتاه الحسن فقال : أي أخي أتقتل نفسك أن بشرت بالجنة ؟ فازداد بكاء على بكائه . فلم يفارقه الحسن حتى أمسى ؛ وكان صائما ، فطعم شيئا.
عن عبد الواحد بن زيد قال : أتى رجل العلاء بن زياد فقال : أتاني آت في منامي فقال : ائت العلاء بن زياد فقل له : كم تبكي فقد غفر لك . فبكى ، ثم قال : « الآن حين لا أهدأ ».
عن الحارث بن عبيد قال : « كان عبد الواحد بن زيد يجلس إلى جنبي عند مالك . فكنت لا أفهم كثيرا من موعظة مالك لبكاء عبد الواحد ».
عن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال : « كان مسمع يأتي أبي ، فيجلس إليه ، فلا يفترقان إلا عن مثل المصيبة ، من البكاء والحزن ».
عن عبد العزيز بن سلمان العابد قال : انطلقت أنا وعبد الواحد بن زيد ، إلى مالك بن دينار ، فوجدناه قد قام من مجلسه ودخل منزله ، وأغلق عليه باب الحجرة . فجلسنا ننتظره ليخرج ، أو نسمع له حركة فنستأذن عليه . فجعل يترنم بشيء لا نفهمه . ثم بكى حتى جعلنا نأوي له من شدة بكائه . ثم جعل يشهق ويتنفس حتى غشي عليه . فقال لي عبد الواحد : « انطلق ، فهذا رجل مشغول بنفسه ».
كان عتبة الغلام يبكي حتى تمتلئ راحته بدموع عينيه ثم يمسح بها وجهه ورقبته ويقول « إلهي وسيدي ، لا تخزني يوم يقوم الحساب . قال : وكان إذا سمع النداء بكى ».
عن الفضل بن دكين قال : « كان حسن بن صالح إذا نظر إلى جنازة أرسل عينيه بأربع قال : ودخلنا معه مرة نعود مريضا ، فنظرت إليه يبكي حتى جرت دموعه على لحيته ».
قال حسن بن صالح بعد طلوع الفجر في بيته : « وا أهوالاه فلو كان هولا واحدا لكفى ، ولكنها أهوال شتى » ثم زفر.