فوائد من كتاب الرقة والبكاء 2
حكمــــــة
عن مسمع بن عاصم، قال: انطلقت أنا وعبد العزيز بن سلمان، إلى ناشرة بن سعيد الحنفي وكان قد بكى حتى أظلمت عيناه فاستأذنا عليه، فأذن لنا، فدخلنا عليه، فسلم عليه عبد العزيز فقال له ناشرة: « أبو محمد؟ » قال: نعم قال: ما جاء بك؟ قال: « جئنا لتبكي ونبكي معك على ما تقدم من سالف الذنوب » قال: فشهق شهقة خر مغشيا عليه وجلس عبد العزيز يبكي عند رأسه. وتنادى أهله، فجعلوا يبكون حوله وهو صريع بينهم. فلما رأيت البكاء قد كثر، انسللت فخرجت.
حكمــــــة
عن عبيد الله بن موسى، قال: كنا عند حسن بن صالح يوما، فذكر شيئا، فرق، فبكى رجل، فارتفع صوته، وعلا بكاؤه فقال رجل من القوم: نعم والله يا أخي فابك هكذا على نفسك فما خير من لا يرحم نفسه؟ قال عبيد الله: فكنت أسمع الحسن بعد ذلك كثيرا يردد هذه الكلمة: « ما خير من لا يرحم نفسه » قال: فظننت أنه أعجب بها حين سمعها يومئذ.
حكمــــــة
عن زهير السلولي، قال: كان رجل من بلعنبر قد لهج بالبكاء، فكان لا تراه إلا باكيا قال: فعاتبه رجل من إخوانه يوما فقال: لم تبكي رحمك الله هذا البكاء الطويل؟ فبكى ثم قال: بكيت على الذنوب لعظم جرمي وحق لكل من يعصي البكاء فلو كان البكاء يرد همي لأسعدت الدموع معا دماء ثم بكى حتى غشي عليه، فقام الرجل عنه وتركه.
حكمــــــة
عن بهيم العجلي قال: « ركب معنا البحر فتى من بني مرة من أهل البدو، فجعل يبكي الليل والنهار. فعاتبه أهل المركب على ذلك وقالوا: ارفق بنفسك قليلا فقال: إن أقل ما ينبغي أن يكون لنفسي عندي أن أبكيها، فأبكي عليها أيام الدنيا، لعلمي بما يمر عليها في ذلك اليوم غدا قال: فما بقي في المركب أحد إلا بكى ».
حكمــــــة
قال كلاب بن جري: « رأيت شابا ببيت المقدس قد عمش من طول البكاء، فقلت له: يا فتى كم تكون العين سليمة على هذا؟ فبكى ثم قال: كما شاء ربي فلتكن، وإن شاء سيدي فلتذهب، فليست بأكرم علي من بدني إنما أبكي رجاء الفرح والسرور في الآخرة ؛ وإن تكن الأخرى فهو والله شقاء الآخرة، وحزن الأبد، والأمر الذي كنت أخافه وأحذره على نفسي، وأني أحتسب على الله غفلتي عن نفسي، وتقصيري في حظي. ثم غشي عليه ».
حكمــــــة
قال رجل من بني تميم: أن حسن بن صالح، كان يصلي إلى السحر ثم يجلس فيبكي في مكانه، ويجلس علي فيبكي في حجرته. قال: وكانت أمهم تبكي بالليل والنهار قال: فماتت، ثم مات علي ثم مات حسن. قال: فرأيت حسنا في منامي فقلت: ما فعلت الوالدة؟ قال: « بدلت بطول ذلك البكاء سرور الأبد » قلت: فعلي؟ قال: « وعلي على خير ». قال: قلت: فأنت؟ قال: فمضى وهو يقول: « وهل نتكل إلا على عفوه؟ ».
حكمــــــة
كان يزيد الرقاشي يبكي حتى يسقط، ثم يفيق، فيبكي حتى يسقط، ثم يفيق، فيبكي حتى يسقط، فيحمل مغشيا عليه إلى أهله وكان يقول في كلامه: « إخوتاه ابكوا قبل يوم البكاء ونوحوا قبل يوم النياحة وتوبوا قبل انقطاع التوبة، إنما سمي نوحا صلى الله عليه وسلم أنه كان نواحا، فنوحوا معشر الكهول والشباب على أنفسكم » قال: وكان يتكلم والدموع جارية على لحيته وخديه.
حكمــــــة
" كان سعيد بن السائب الطائفي لا تكاد تجف له دمعة إنما دموعه جارية دهره إن صلى فهو يبكي وإن طاف فهو يبكي، وإن جلس يقرأ في المصحف فهو يبكي، وإن لقيته في طريق فهو يبكي » قال سفيان: فحدثوني أن رجلا عاتبه على ذلك، فبكى ثم قال: إنما ينبغي أن تعذلني وتعاتبني على التقصير والتفريط، فإنهما قد استوليا علي. قال الرجل: فلما سمعت ذلك منه انصرفت وتركته ".
حكمــــــة
قالوا ليزيد بن أبان الرقاشي: ما تسأم من كثرة البكاء؟ فبكى ثم قال: « وهل يشبع المرضع من الغذاء؟ والله لوددت أني أبكي بعد الدموع الدماء، وبعد الدماء الصديد، أيام الدنيا، فإنه بلغنا أن أهل النار يبكون الدماء إذا نفدت الدموع، حتى لو أرسلت فيها السفن لجرت فما حق امرئ لا يبكي على نفسه في الدنيا وينوح عليها؟ » قال: وكان يقول: « ابك يا يزيد على نفسك قبل حين البكاء، إنما سمي نوحا صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان ينوح على نفسه. يا يزيد من يصلي لك بعدك؟ ومن يصوم يا يزيد؟ ومن يضرع لك إلى ربك بعدك؟ ومن يدعو؟ » فكان يعدد على هذا ونحوه، ويبكي ويقول: « يا إخوتاه ابكوا أو بكوا أنفسكم، فإن لم تجدوا بكاء فارحموا كل بكاء ».
حكمــــــة
كان يزيد الرقاشي إن دخل بيته بكى وإن شهد جنازة بكى، وإن جلس إليه إخوانه بكى وأبكاهم. فقال له ابنه يوما: يا أبه كم تبكي؟ والله لو كانت النار خلقت لك ما زدت على هذا البكاء فقال: ثكلتك أمك يا بني وهل خلقت النار إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن أما تقرأ يا بني: (سنفرغ لكم أيها الثقلان) أما تقرأ يا بني: (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران)؟ فجعل يقرأ عليه حتى انتهى إلى: (يطوفون بينها وبين حميم آن) قال: فجعل يجول في الدار ويصرخ ويبكي، حتى غشي عليه فقالت للفتى أمه: يا بني ما أردت إلى هذا من أبيك؟ فقال: والله إنما أردت أن أهون عليه، لم أرد أن أزيده حتى يقتل نفسه.
حكمــــــة
عن سفيان قال: كان أمية رجل من أهل الشام يقدم فيصلي هناك مما يلي باب بني سهم، فينتحب ويبكي حتى يعلو صوته، وحتى تسيل دموعه. قال: فأرسل إليه الأمير أنك تفسد على المصلين صلاتهم بكثرة بكائك، وارتفاع صوتك، فلو أمسكت قليلا. فبكى ثم قال: « إن حزن يوم التيه أورثني دموعا غزارا، فأنا أستريح إلى ذريها أحيانا » وكان أمية يقول: « ومن أسعد بالطاعة من مطيع؟ ألا وكل الخير في الطاعة. ألا وإن المطيع لله ملك في الدنيا والآخرة » قال: وكان يدخل الطواف، فيأخذ في النحيب والبكاء، وربما سقط مغشيا عليه.
حكمــــــة
« بكى مسعر فبكت أمه، فقال لها مسعر: ما أبكاك يا أمه؟ قالت: يا بني رأيتك تبكي فبكيت. قال: يا أمه لمثل ما نهجم عليه غدا فليظل البكاء قالت: وما ذاك يا بني؟ قال: القيامة وما فيها قال: ثم غلبه البكاء، فقام قال: وكان مسعر يقول: لولا أمي ما فارقت المسجد إلا لما لا بد منه قال: وكان إن دخل بكى، وإن خرج بكى، وإن صلى بكى، وإن جلس بكى ».
حكمــــــة
قال سرار أبو عبيدة: قالت لي امرأة عطاء السليمي: عاتب عطاء في كثرة البكاء، فعاتبته، فقال لي: « يا سرار كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلي؟ إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه، تمثلت لي نفسي بهم، فكيف بنفس تغل يدها إلى عنقها، وتسحب إلى النار، ألا تصيح وتبكي؟ وكيف لنفس تعذب ألا تبكي ويحك يا سرار ما أقل غناء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله » قال: فسكت عنه.
حكمــــــة
عن أفلح مولى محمد بن علي قال: خرجت مع محمد بن علي حاجا ؛ فلما دخل المسجد نظر إلى البيت، فبكى حتى علا صوته. فقلت: بأبي أنت وأمي الناس ينظرون إليك، فلو رفقت بصوتك قليلا قال: « ويحك يا أفلح ولم لا أبكي؟ لعل الله أن ينظر إلي منه برحمة ؛ فأفوز بها غدا عنده » قال: ثم طاف البيت، ثم جاء حتى ركع عند المقام، فرفع رأسه من سجوده، فإذا موضع سجوده مبتل من دموع عينيه.
حكمــــــة
يذكر أن عبد الملك بن مروان، نظر إلى رجل ساجد، قد أطال السجود، فلما رفع رأسه نظر إلى موضع سجوده مبتلا بالدموع فأرصد له رجلا فقال: إذا قضى صلاته فأتني به أختبر عقله. فلما قضى صلاته، أتاه، فقال له عبد الملك: رأيت منك منظرا الجنة تدرك بدونه. فصرخ الرجل صرخة أفزع عبد الملك وخر مغشيا عليه ثم أفاق بعد طويل وهو يمسح العرق عن وجهه ويقول: تبا لعاصيك ما احتمل من الآثام لديك قال: فجعل عبد الملك يبكي، والرجل مول لا يلتفت حتى خرج.
حكمــــــة
عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه قال: كنا ذات يوم عند ابن ذر وهو يتكلم، فذكر رواجف القيامة وزلازلها وأهوالها، وشدة الأمر يومئذ هناك. قال: واستبكى ابن ذر، وبكى الناس يومئذ بكاء شديدا. قال: فوثب رجل من بني عجل يقال: له وراد، فجعل يبكي ويصرخ ويضطرب، حتى هدأ. قال: ثم حمل من بين القوم صريعا قال: فجعل ابن ذر يومئذ يبكي ويقول: ليس كلنا قد أتاه الأمان من الله يا وراد غيرك ليس كلنا قد أيقن بالنجاة من النار غيرك. وتالله أيها الناس ما أخو بني عجل بأولى بالخوف من الله منا ومنكم، وما منا أحد إلا على مثل حاله بين خوف ورجاء. وإنا فيما ندبنا الله إليه من طاعته لمشتركون جميعا، فما الذي قصر بنا وأسرع به؟ وكلم قلبه حتى أبكاه فأخرجه إلى ما رأيتم من مخافة الله؟ وكلنا قد سمع الموعظة، وفهم التذكرة، فلم يكن من أحد منا سواه لذلك حركه، ولم تنبض من أحد منا في ذلك خارجة والله إن هذا يا أخا بني عجل إلا من صفاء قلبك، وتراكم الذنوب على قلوبنا، وما أرانا نؤتى إلا من أنفسنا « قال: ثم بكى ابن ذر، وقرأ هذه الآية: (إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) »، قال عمر قال أبي: كنت أرى ورادا العجلي يأتي المسجد مقنع الرأس، فيعتزل ناحية، فلا يزال مصليا وداعيا وباكيا كم شاء الله من النهار. ثم يخرج، ثم يعود فيصلي الظهر فهو كذلك بين صلاة ودعاء وبكاء حتى يصلي العشاء. ثم يخرج لا يكلم أحدا، ولا يجلس إلى أحد فسألت عنه رجلا من حيه، ووصفته له، قلت: شاب من صفته، من هيئته قال: بخ يا أبا عمر تدري عمن تسأل؟ ذاك وراد العجلي الذي عاهد الله أن لا يضحك حتى ينظر إلى وجه رب العالمين قال أبي: فكنت إذا رأيته بعد هبته
حكمــــــة
عن سكين بن مكين، رجل من بني عجل قال: كانت بيننا وبينه قرابة يعني ورادا فسألت أختا له كانت أصغر منه قال: قلت: كيف كان ليله؟ قالت: بكاء عامة الليل وتضرع قلت: فما كان طعمه؟ قالت: قرص في أول الليل، وقرص في آخره عند السحر قلت: فتحفظين من دعائه شيئا؟ قالت: نعم كان إذا كان أو قريب من طلوع الفجر سجد ثم بكى ثم قال: « مولاي عبدك يحب الاتصال بطاعتك، فأعنه عليها بتوفيقك أيها المنان مولاي عبدك يحب اجتناب سخطك، فأعنه على ذلك بمنك عليه أيها المنان. مولاي عبدك عظيم الرجاء لخيرك، فلا تقطع رجاءه يوم يفرح بخيرك الفائزون » قالت: فلا يزال على هذا ونحوه حتى يصبح قالت: وكان قد كل من الاجتهاد، وتغير لونه جدا.
حكمــــــة
" لما مات وراد العجلي، فحملوه إلى حفرته، نزلوا ليدلوه في حفرته، فإذا القبر مفروش بالريحان فأخذ بعض القوم الذين نزلوا القبر من ذلك الريحان شيئا، فمكث سبعين يوما طريا لا يتغير، يغدو الناس ويروحون ينظرون إليه » قال: وكثر الناس في ذلك، حتى خاف الأمير أن يفتن الناس، فأرسل إلى الرجل، فأخذ ذلك الريحان، وفرق الناس. ففقده الأمير من منزله لا يدري كيف ذهب ".
حكمــــــة
عن مخول قال: جاءني بهيم يوما فقال لي: تعلم لي رجلا من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني؟ قلت: نعم فذهبت إلى رجل من الحي له صلاح ودين، فجمعت بينهما وتواطآ على المرافقة. ثم انطلق بهيم إلى أهله، فلما كان بعد، أتاني الرجل فقال: يا هذا، أحب أن تزوي عني صاحبك وتطلب رفيقا غيري. فقلت: ويحك فلم؟ فوالله ما أعلم في الكوفة له نظيرا في حسن الخلق والاحتمال، ولقد ركبت معه البحر فلم أر إلا خيرا. قال: ويحك حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر فهذا ينغص علينا العيش سفرنا كله. قال: قلت: ويحك إنما يكون البكاء أحيانا عند التذكر، يرق القلب فيبكي الرجل، أو ما تبكي أحيانا؟ قال: بلى، ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم جدا من كثرة بكائه. قال: قلت: اصحبه، فلعلك أن تنتفع به، قال: أستخير الله. فلما كان اليوم الذي أراد أن يخرجا فيه، جيء بالإبل، ووطئ لهما، فجلس بهيم في ظل حائط، فوضع يده تحت لحيته، وجعلت دموعه تسيل على خديه، ثم على لحيته، ثم على صدره، حتى والله رأيت دموعه على الأرض. قال: فقال لي صاحبي: يا مخول، قد ابتدأ صاحبك، ليس هذا لي برفيق. قال: قلت: ارفق، لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم فرق. وسمعها بهيم فقال: والله يا أخي ما هو ذاك وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة. قال: وعلا صوته بالنحيب. قال لي صاحبي: والله ما هي بأول عدواتك لي أو بغضك إياي، أنا ما لي ولبهيم؟ إنما كان ينبغي أن ترافق بين بهيم وبين ذواد بن علبة، وداود الطائي، وسلام أبي الأحوص، حتى يبكي بعضهم إلى بعض، حتى يشتفوا أو يموتوا جميعا. قال: فلم أزل أرفق به، وقلت: ويحك لعلها خير سفرة سافرتها. قال: وكان طويل الحج، رجلا صالحا، إلا أنه كان رجلا تاجرا موسرا مقبلا على شأنه، لم يكن صاحب حزن ولا بكاء. قال: فقال لي: قد وقعت مرتي هذه، ولعلها أن تكون خيرا. قال: وكل هذا الكلام لا يعلم به بهيم، ولو علم بشيء منه ما صحبه. قال: فخرجا جميعا، حتى حجا ورجعا، ما يرى كل واحد منهما أن له أخا غير صاحبه. فلما جئت أسلم على جاري قال: جزاك الله يا أخي عني خيرا، ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر ؛ كان والله يتفضل علي في النفقة وهو معدم وأنا موسر، ويتفضل علي في الخدمة وأنا شاب قوي، وهو شيخ ضعيف، ويطبخ لي، وأنا مفطر وهو صائم قال: قلت: فكيف كان أمرك معه في الذي كنت تكرهه من طول بكائه؟ قال: ألفت والله ذلك البكاء، وسر قلبي، حتى كنت أساعده عليه حتى تأذى بنا أهل الرفقة. قال: ثم والله ألفوا ذلك، فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا والمصير واحد؟ قال: فجعلوا والله يبكون ونبكي. قال: ثم خرجت من عنده، فأتيت بهيما فسلمت عليه، فقلت: كيف رأيت صاحبك؟ قال: كخير صاحب كثير الذكر طويل التلاوة للقرآن سريع الدمعة، محتمل لهفوات الرفيق ؛ فجزاك الله عني خيرا.
حكمــــــة
خالد بن الصقر السدوسي قال: كان أبي خاصا لسفيان الثوري قال أبي: فاستأذنت على سفيان في نحر الظهر، فأذنت لي امرأة، فدخلت عليه وهو يقول: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ثم يقول: بلى يا رب بلى يا رب وينتحب، وينظر إلى سقف البيت ودموعه تسيل. فمكثت جالسا كم شاء الله، ثم أقبل إلي، فجلس معي، فقال: مذ كم أنت ههنا؟ ما شعرت بمكانك.
حكمــــــة
خرج عطاء بن يسار، وسليمان بن يسار حاجين من المدينة، ومعهم أصحاب لهم، حتى إذا كانوا بالأبواء نزلوا منزلا، فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم، وبقي عطاء بن يسار قائما في المنزل يصلي. فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة، فلما رآها ظن أن لها حاجة فأوجز في صلاته ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم. قال: ما هي؟ قالت: قم فأصب مني فإني قد ودقت ولا بعل لي. فقال: إليك عني لا تحرقيني ونفسك بالنار. ونظر إلى امرأة جميلة فجعلت تراوده عن نفسه، وتأبى إلا ما تريد قال: فجعل عطاء يبكي ويقول: ويحك إليك عني إليك عني قال: واشتد بكاؤه. فلما نظرت المرأة إليه، وما داخله من البكاء والجزع، بكت المرأة لبكائه. فجعل يبكي، والمرأة بين يديه تبكي. فبينما هو كذلك، إذ جاء سليمان من حاجته. فلما نظر إلى عطاء يبكي، والمرأة بين يديه تبكي، جلس يبكي في ناحية البيت لبكائهما لا يدري ما أبكاهما وجعل أصحابهما يأتون رجلا رجلا، كلما أتى رجل فرآهم يبكون، جلس يبكي لبكائهم لا يسألونهم عن أمرهم، حتى كثر البكاء وعلا الصوت. فلما رأت الأعرابية ذلك، قامت فخرجت. قال: وقام القوم فدخلوا. فلبث سليمان بعد ذلك وهو لا يسأل أخاه عن قصة المرأة إجلالا له وهيبة. قال: وكان أسن منه. قال: ثم إنهما قدما مصرا لبعض حاجتهما، فلبثا بها ما شاء الله. فبينا عطاء ذات ليلة نائم، إذ استيقظ وهو يبكي فقال له سليمان: ما يبكيك أي أخي؟ قال: فاشتد بكاؤه قال: ما يبكيك يا أخي؟ قال: رؤيا رأيتها الليلة. قال: وما هي؟ قال: لا تخبر بها أحدا ما دمت حيا. قال: وذاك. قال: « رأيت يوسف النبي صلى الله عليه وسلم، فجئت أنظر إليه فيمن ينظر. فلما رأيت حسنه بكيت فنظر إلي في الناس فقال: ما يبكيك أيها الرجل؟ قلت: بأبي أنت وأمي، ذكرتك وامرأة العزيز، وما ابتليت به من أمرها، وما لقيت من السجن، وفرقة الشيخ يعقوب صلى الله عليه وسلم، فبكيت من ذلك، وجعلت أتعجب منه. فقال صلى الله عليه وسلم: فهلا تعجبت من صاحب المرأة بالأبواء؟ فعرفت الذي أراد، فبكيت، واستيقظت باكيا » قال سليمان: أي أخي وما كان حال تلك المرأة؟ قال: فقص عليه عطاء القصة فما أخبر سليمان بها أحدا حتى مات عطاء ؛ وحدث بها بعده امرأة من أهله. قال: وما شاع هذا الحديث بالمدينة إلا بعد موت سليمان بن يسار.
حكمــــــة
عن إبراهيم بن صبح البراد قال: دخلنا على المغيرة أبي محمد وكان إذا تكلم بكى وأبكى فقال: « يا إخوتاه ابكو وبكوا هذه الأعين والقلوب، فإن الحزين غدا مسرور، والباكي ضاحك، والخائف آمن، وطويل السغب في الدنيا طويل الشبع في الآخرة، وطويل الظمأ طويل الري عند الله. ألا فتخيروا واختاروا، واتقوا أن تغبنوا فتهلكوا » قال: ويبكي، ويبكي الناس.
حكمــــــة
عن مالك بن ضيغم قال: حدثني الحكم بن نوح قال: بكى أبوك ليلة من أول الليل إلى آخره لم يسجد فيها سجدة، ولم يركع فيها ركعة، ونحن معه في البحر. فلما أصبحنا قلت: يا أبا مالك لقد طالت ليلتك لا مصليا ولا داعيا؟ فبكى ثم قال: « لو يعلم الخلائق ماذا يستقبلون غدا ما لذوا بعيش أبدا إني والله لما رأيت الليل وهوله، وشدة سواده ذكرت به الموقف، وشدة الأمر هناك، وكل امرئ يومئذ تهمه نفسه، لا يغني والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. قال: ثم شهق، فلم يزل يضطرب ما شاء الله ثم هدأ. قال الحكم: فحمل علي أصحابنا في المركب وقالوا: أنت تعلم أنه لا يحتمل الذكر، فما تهيجه » قال: فكنت بعد لا أكاد أذكر له شيئا لا يسألني عنه.
حكمــــــة
عن عبد العزيز بن سلمان العابد قال: انطلقت أنا وعبد الواحد بن زيد، إلى مالك بن دينار، فوجدناه قد قام من مجلسه ودخل منزله، وأغلق عليه باب الحجرة. فجلسنا ننتظره ليخرج، أو نسمع له حركة فنستأذن عليه. فجعل يترنم بشيء لا نفهمه. ثم بكى حتى جعلنا نأوي له من شدة بكائه. ثم جعل يشهق ويتنفس حتى غشي عليه. فقال لي عبد الواحد: « انطلق، فهذا رجل مشغول بنفسه ».