" كيفية المحاسبة "
" كيفية المحاسبة "
الحق أنه ليس هناك وسيلة محددة ذات خطوات وأساليب منضبطة في كيفية محاسبة النفس، وذلك لأن النفوس البشرية متباينة الطبائع والسجايا، لكن هناك أطرًا عامة وخطوطاً عريضة يمكن الإشارة إليها الاستفادة منها في هذا الموضوع، والأمر الذي يجب أن يفقهه كل مسلم ومسلمة أنه لابد من الجدية في المحاسبة والحرص الشديد على أخذ النتائج والقرارات التي يتوصل إليها بعد ذلك بمأخذ العزيمة والجد.
قال الغزالي: (اعلم أن العبد كما [ينبغي أن] يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم حرصا منهم على الدنيا، وخوفا من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته... فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟ ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك) (الإحياء).
ويمكن لنا تقسيم مجالات محاسبة النفس إلى نوعين اثنين:
النوع الأول: محاسبة قبل العمل:
وهي: أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه، قال الدكتور عمر الأشقر: (ينظر في همه وقصده، فالمرء إذا نفى الخطرات قبل أن تتمكن من القلب سهل عليه دفعها.. فالخطرة النفسية والهم القلبي قد يقويان حتى يصبحا وساوس، والوسوسة تصير إرادة، والإدارة الجازمة لابد أن تكون فعلا، قال الحسن: كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة تثبت، فإن كانت لله أمضاها، وإن كانت لغيره توقف) (مقاصد المكلفين فيما يُتعبَّد به لرب العالمين بتصرف).
وشرح بعضهم قول الحسن فقال: (إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهم به العبد وقف أولا ونظر: هل ذلك العمل مقدور عليه أو غير مقدور عليه؟ فإن لم يكن مقدورا عليه لم يقدم عليه، وإن كان مقدورا عليه وقف وقفة أخرى ونظر: هل فعله خير له من تركه، أم تركه خير له من فعله؟ فإن كان الخير في تركه تركه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله – عز وجل – وثوابه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه، لئلا تعتاد النفس الشرك ويخفف عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله – تعالى – حتى يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر: هل هو مُعان عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه – إذا كان العمل محتاجاً إلى ذلك – أم لا؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده معانا عليه فليقدم عليه فإنه منصور – بإذن الله) (إغاثة اللهفان).
النوع الثاني: المحاسبة بعد العمل:
وهي على أقسام ثلاثة:
(أ) محاسبتها على التقصير في الطاعات في حق الله – تعالى:
وذلك يكون بأن يديم سؤاله نفسه: هل أديت هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإن كان مقصرًا، وأينا يسلم من ذلك؟ فلسد الخلل بالنوافل فإنها ترقع النقص في الفريضة وتربى لدى العبد جانب العبادة، وبالمجاهدة وكثرة اللوم يخف التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة.
(ب) محاسبتها على معصية ارتكبتها:
والمعصية هنا تشمل الصغيرة والكبيرة.
وقد حكي ابن القيم أنموذجاً في كيفية محاسبة النفس على الوقوع في المعصية فقال: (وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته – عز وجل – وجنايتك، فحينئذ يظهر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب. وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب والعبد عبد، ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها وعظمة جلال الربوبية وتفرد الرب بالكمال والإفضال، وأن كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل... فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كل شر وأساس كل نقص، وأن حدها: [أنها] الجاهلة الظالمة، وأنه لولا فضل الله ورحمته بتزكيته لها ما زكت أبداً، ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصول إلى خير ألبتة، فهناك تقول حقا: «أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي» (مدارج السالكين).
وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة، ويجلس معها هذه الجلسة المطولة، فإنه ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تلك المعصية، فيتدارك نفسه بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحية والمذهبة للسيئات. قال سبحانه: " إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ " [هود:114] فالبدار قبل أن يختم للمرء بخاتمة سوء وهو مصر على المعصية ولم يتب منها، وليتذكر الحشر والنشر وهول جهنم وما أعده الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد والزقوم والصديد في نار قال عنها كعب الأحبار – رضي الله عنه - «لو أنه فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها»(الزهد للإمام أحمد) أجارنا الله والمسلمين منها.
ومما يساعد في هذا الجانب أن يستذكر العبد ويستشعر رقابه الحق سبحانه عليه، فإنه لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وحينما تهم النفس بمعاقرة الذنب صغر أم كبر، فليتذكر المرء أن نظر الله إليه أسرع من نظره إلى ذلك الذنب. ولو كان العبد في جوف داره فإن الله سبحانه لا تحجز نظره الأبواب المغلقة، ولا الستر المرخاة. بل لو كان العبد في قعر البحار، أو على رؤوس الجبال فإن ربه يراه، ويعلم بكل حركة منه وسكنة، " وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " [يونس:61].
فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقا في محاسبته نفسه على ارتكاب المعصية والذنب، ومن منا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا؟ نسال الله اللطف والتخفيف.
(ج) محاسبتها على أمر كان تركه خيرا من فعله، أو على أمر مباح، ما سبب فعله له.
فيوجه لنفسه أسئلة متكررة: لم فعلت هذا الأمر؟ أليس الخير في تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي على هذه الشاكلة.
وأما المباح فينظر: هل أردت به وجه الله والدار الآخرة، فيكون ذلك ربحاً لي أو فعلته عادة وتقليدًا بلا نية صالحة ولا قصد في المثوبة، فيكون فعلي له مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجع؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك المباح، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها، أو كان له أثر في قسوة القلب وزيادة الغفلة، فكل هذه الأسئلة لابد منها حتى يسير العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور.
أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله: (إن المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن – والله – ما من صلة إليك، هيهات !! حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء [يقع في الخطأ] فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا، وما لي ولهذا؟ ما أردت إلى هذا، وما لي ولهذا؟ والله ما لي عذر بها، ووالله لا أعود لهذا أبدا – إن شاء الله.
إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقي الله – عز وجل – يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله) (حلية الأولياء وذم الهوى).
وفي الجملة: فلابد للمسلم من دوام محاسبة النفس، ومعاتبتها وتذكيرها كلما وقعت منها زلة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني.
ولننظر إلى أنموذج آخر في كيفية معاتبة النفس أورده الغزالي – رحمه الله – حيث يقول: (وسبيلك أن تقبل عليها فتقول لها: يا نفس، ما أعظم جهلك تدعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً !! أما تتدبرين قوله – تعالى: " اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ " [الأنبياء: 1-3] ويحك يا نفس ! إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك ! وإن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك وأقل حياءك! ويحك يا نفس !! لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟!! ويحك يا نفس ! لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا، ولا يغرك بالله الغرور.. فما أمرك بمهم لغيرك، ولا تضيعي أوقاتك، فالأنفاس معدودة، فإذا مضي عنك نفس فقد مضي بعضك. ويحك يا نفس ! أو ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا؟ اعملي يا نفس بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود) (الإحياء).
مختارات