فقه الذكر (٣)
وألفاظ الذكر ثلاثة أنواع:
فأفضلها ما كان ثناء على الله سبحانه كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)} [الفاتحة: ٢ - ٤].
وقول المصلي في دعاء الاستفتاح: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرَكَ» أخرجه أبو داود والترمذي (١).
وقوله في الركوع «سبحان ربي العظيم»، وفي السجود «سبحان ربي الأعلى»، ثم يليه ما كان إنشاء من العبد، أو اعترافاً بما يجب لله عليه، كقوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)} [الأنعام: ٧٩].
وقول المصلي في الركوع: «اللَّهُمَّ! لَكَ رَكَعْتُ»، وفي السجود: «اللَّهُمَّ! لَكَ سَجَدْتُ» أخرجه مسلم (٢).
ثم يليه ما كان دعاءً وطلباً من العبد كقوله سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)} [الفاتحة: ٦].
وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه (٣).
والإنسان إذا استعاذ بالله من الشيطان حفظه الله، ووقاه كيده، وإذا ذكر الله وبدأ عمله ذاكراً اسم الله فإنه يشعر أن الله معه يعينه ويسدده، ويشعر أنه بدون الله غير قادر، وأن قوته الذاتية لا تنفعه، وأنه بحاجة إلى عون الله في كل لحظة، وفي كل عمل، ويطرد الغرور عن نفسه.
ومن لا يذكر الله يعمل والغرور يملأ قلبه؛ لأنه يشعر أنه يستطيع أن يحقق ما يريد بقوته الذاتية.
فكأنه استغنى عن الله وابتعد عنه، وكيف يستغني العاجز الفقير عن الغني الحميد؟.
ومن أعظم المصائب أن يحس الإنسان أنه يستطيع أن يحقق لنفسه ما يريد بذاته ناسياً ربه.
فإذا أصابته نعمة من الله نسبها إلى نفسه، وادعى أنه يستطيع الحصول على الرزق بقدرته هو، مستغنياً عن ربه: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (٨٣)} [الإسراء: ٨٣].
فإذا أنعم الله عليه بنعمة نسبها إلى نفسه، فأعرض عن الله بدلاً من أن يشكره.
لماذا؟.
لأنه حقق شيئاً بما أعطاه الله من علم في الأرض، فأوهمه هذا العلم أنه استغنى عن الله، وأنه بذاته يحصل على ما يريد.
ولا ريب أن الله بيده كل شيء، والمؤمن دائماً يسأل ربه حاجته، ويستعين به في جميع أموره.
فإن نزل المطر شكر ربه.
وإن تأخر المطر رفع يديه إلى السماء طالباً من الله رحمته، هذا حال الإنسان، حتى أنعم الله عليه بشيء من العلم فاستطاع أن يشق الأنهار، ويبني السدود، ويخزن المياه؛ ليستعين بها في وقت الجفاف على حوائجه، فأحس أنه استغنى عن الله فلا يدعو ربه، فهل نسي أن الله هو الذي أنزل الماء الذي ملأ به السد، وحفظه من التسرب والفساد؟.
وهكذا أنعم الله على الإنسان بالعلم الذي استطاع به أن يقيم سداً، ليحجب ويحفظ مياه المطر حتى الموسم القادم.
وكان الرد أن الإنسان بدلاً من أن يشكر الله على نعمة العلم الذي أتاحه له ليجعل حياته أيسر، فإذا به ينأى عن الله سبحانه وينساه، وينسب العلم إلى نفسه وإلى قدراته هو، وكأنه استغنى عن الله الذي خلقه، وساق إليه المطر، وأوصله إليه، وأعطاه العلم ليبني السد ويحفظ الماء فيه.
وماذا يغني السد لو حبس الله المطر؟.
وماذا يغني السد لو ملأه الله بالماء الملح الأجاج الذي لا يقبله نبات، ولا حيوان، ولا إنسان؟.
ألا ما أجهل الإنسان.
وما أشد غروره.
كلما زاده الله نعمة ازداد بها غروراً وطغياناً: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧)} [العلق: ٦، ٧].
إن الله تبارك وتعالى كلما كشف للبشر من العلم ليعطيهم حياة أيسر وأفضل ابتعد هؤلاء الناس عن الله، وانشغلوا بالمخلوق عن الخالق، وبالنعمة عن المنعم، ونسوا أن الذي أعطاهم السمع والبصر والعقل، هو الذي أعطاهم العلم، وهو الذي أعطاهم النعم.
إن العبد كلما ذكر الله كان الله معه يعينه، ويفتح له الطريق، ويحفظه من الشر، ويذلل له العقبات، ويدله على الخير، كما أمر الله موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام أن يذهبا إلى فرعون ذاكرين لله بقوله {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤)} [طه: ٤٢ - ٤٤].
فلما قالا: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥)} [طه: ٤٥].
قال الله لهما: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦)} [طه: ٤٦].
والإنسان عندما يعتاد دوام ذكر الله في كل أحيانه، ويذكر الله عند كل عمل، فإنه لا يمكن أن يبدأ بمعصية.
فلا يسرف، ولا يزني، ولا يشرب الخمر، ولا يقتل، ولا يسرق.
فما دام ذكر الله على لسانه فإنه يمنعه من المعاصي، وهو سد منيع بينه وبين الآثام، ولذلك أمرنا الله بذكره في جميع الأحوال والأوقات.
(١) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (٧٧٥)، صحيح سنن أبي داود رقم (٧٠١).
وأخرجه الترمذي برقم (٢٤٣)، صحيح سنن الترمذي رقم (٢٠٢).
(٢) أخرجه مسلم برقم (٧٧١).
(٣) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٧٤٤)، ومسلم برقم (٥٩٨).
مختارات