أنماط: (51) نمط المُتطرِّف
ونمط الأخ المُتطرِّف من أكثر الأنماط التي تتواجد بيننا وحولنا..
ولستُ أعني بالتطرُّف هذا المعنى الذي يتبادر إلى الذهن حين تطرق المسامع تلك الكلمة..
لم أقصد به تلك التهمة الجاهزة التي لنا عقودًا نشهد قصرها وحصرها على المتدينين واستعمالها في حقهم حصريًا، وذلك كفزَّاعة إعلامية مُملَّة يندر أن يخلو منها عمل درامي أو أدبي في السنوات الأخيرة..
لكنني هاهنا أقصد عموم اللفظ الذي صار سِمةً موجودة بين جميع فئات المجتمع على تفاوت توجهاتها وخصوصًا في هذه الأيام التي صارت فيها الحواف القاصية ملجئًا دافئًا يأوي إليه المُتطرِّف، متحصنًا برفاقه المُتطرِّفين راضيًا بهم، ورافضًا كل من سِواهم، سواءً المنتصفيين المائعين الذين تكلَّمت عنهم في نمط سابق (الأخ المنتصفي) وهم أولئك الذين تحصَّنوا هم أيضًا بالمنتصف واختبأوا في ميوعة خياراتهم وتذبذب مواقفهم، أو المُتطرِّفين على الحافات الأخرى وما أكثرها هذه الأيام..
أيام لا بُدَّ أن تكون في أقصى طرفٍ ما؛ لكي تُقبل بين باقي جموع المُتطرِّفين الذين يعيشون فيها..
أيام صار في كل اختيار أطراف، وفي كل رأي أطراف، وفي كل أزمة أطراف، وفي كل موقفٍ صغُر أو كبُر أطراف وأطراف..
وبغض النظر هل يُسوَّغ هنا الخلاف أو لا يُسوَّغ، وهل هي مسألة من معاقد الولاء والبراء ومواطن المفاصلة العقدية أم أنها أمور اجتهادية تتباين فيها الأنظار وتتفاوت فيها الرؤى، فإن كل ذلك لم يعد مهمًا..
المهم لدى هذا النمط أن تتطرَّف في كل صغير وكبير..
المهم أن تكون ألفاظك أشدَّ وأحدَّ الألفاظ، وخياراتك دوماً على أقصى الأطراف، وآراءك باستمرار في أبعد نقطة من الحافة المقابلة..
لا بُدَّ لتكون من هذا النمط أن تُقدِّس متبوعك تمام التقديس، وأن تُطبِّل لحليفك ومحبوبك، وأن تحتفي بكل مواقفه، وأن تدعم كل قراراته، وأن توقع له صكًا دائمًا بالثقة أو (شيك) على بياض تقرّ من خلاله أنه يستحيل أن يخطئ، ولئن بدا يومًا لكل عين أنه مخطئ فلتكذب عينيك ولترح عقلك ولتقل: أكيد له مأرب ومقصد عظيم لم أستطع بعقلي المسكين إدراكه..
لكن يخطئ كالبشر؟!
معاذ الله!
لا بُدَّ كذلك أن تبغض مخالفك بغضًا خالصًا، عليك أن تشيطنه تمامًا، ولا تقبل منه أي شيء حتى لو كان منذ أيام حليفًا لك وحبيبًا وصاحبًا، وحتى لو كانت تجمعكما كثير من المشتركات والذكريات والآمال والأحلام. فلقد صار طرفًا في مجتمع الأطراف والتطرُّف لذا فلا بُدَّ من هدمه بالكلية..
وإني سائل صديقي المُتطرِّف لماذا لا تحاول أحيانًا أن تعدل وتبتعد عن الحافة وتجتنب طريق الغلو والمبالغة؟
لماذا لا تُفكِّر في أن تُنصف فتُقَوِّم من تراه مسيئًا حين يسيء، وتثني عليه حين يحسن ساعيًا لأن تدور مع الحق حيث دار؟
لماذا لا تُجرِّب أن تحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون يومًا ما بغيضك، والعكس كما أمرك نبيك صلى الله عليه وسلم..
لماذا لا تُقَيِّم المخالف بتقييم تراكمي أو كلي..
إن حاولت أن تختلف دون أن تتطرَّف أو تتخلى عن عِفَّة لسانك وأخلاقيات مِلَّتك وتنأى بنفسك عن مستنقعات التراشق وأوحال العنف اللفظي، لتغرس فكرة أو تروي معنى أو تؤصل لقيمة سامية تدوم من بعدك وينتفع الخلق بها، وتكون لك رصيدًا يوم لا ينفع مال ولا بنون.
أم أن هذا كله لم يعد مسموحًا به وليس لأهله مكان في هذه الأيام.. أيام الأطراف...!
مختارات