من مظاهر الغلو
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن للغلو مظاهر متعددة، منها ما يتعلق بالاعتقاد، ومنها ما يتعلق بالعمل، ومنها ما يتعلق بالحكم على الناس.
الغلو في الاعتقاد:
إذا كان الغلو يعني مجاوزة الحد، فإن الغلو في الاعتقاد يعني مجاوزة الحد فيما شرعه الله من الأمور الاعتقادية. فالغالي هنا لا يكتفي بما أنزل الله، بل يسعى إلى الزيادة ومخالفة مقاصد الشريعة.
ولا شك أن الغلو في الاعتقاد من أخطر أنواع الغلو؛ لأن صاحبه مستعد لبذل روحه وماله في سبيل ما يعتقد، ولهذا كان تحذير علماء المسلمين من أهل البدع والأهواء أكثر من تحذيرهم من أهل المعاصي والفسوق. فالضرر الحاصل بالغلو في الاعتقاد أعظم من الضرر الحاصل بالغلو في العمل.
ومن أبرز الأمثلة على هذا النوع من الغلو: غلو الخوارج الذين دفعهم الغلو في هذا الجانب إلى تكفير المسلمين حكاما ومحكومين، فخرجوا على الحكام وقاتلوا المسلمين.
تحذير النبي من الغلو في الاعتقاد:
لقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الغالين وبين صفتهم حين قال: " إنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ وَكَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ " قَالَ حذيفة بن اليمان: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الرَّامِي أَمِ الْمَرْمِيُّ؟ قَالَ: " بَلِ الرَّامِي " راواه ابن حبان والبزار.
فهذا الغالي دفعه غلوه الاعتقادي إلى التكفير والقتل وزعزعة الأمن. وهذا هو الغالب فيمن غلا في المعتقد وحرف الكلم عن مواضعه أن يغلو في الحكم على الناس، فتارة يفسقهم وتارة يبدعهم وأخرى يكفرهم.
وقد وقف النبي منكرا على من تسرع في الحكم على الناس، ففي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه أنَّ رَجُلًا علَى عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وكانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وكانَ يُضْحِكُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ جَلَدَهُ في الشَّرَابِ، فَأُتِيَ به يَوْمًا فأمَرَ به فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العنْه، ما أكْثَرَ ما يُؤْتَى بهِ؟ فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: " لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ إنَّه يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ ".
فتنزيل الأحكام على شخص بعينه لابد له من تحقق شروط وانتفاء موانع؛ لهذا لا يتصدى لهذه المهمة الجسيمة إلا العلماء، قال الإمام الذهبي رحمه الله: والكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع.
ومن غلا من أمة الإسلام في جانب الاعتقاد ففيه شَبَه من اليهود والنصارى، فقد غلا اليهود في عزير وغلا النصارى في المسيح، قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} (التوبة: 30).
وقد رد الله عليهم زعمهم هذا وأنكر عليهم هذا الغلو فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (النساء: 171). وقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} (المائدة: 75).
ومن مظاهر الغلو في الاعتقاد غلو بعض الناس في الصالحين حتى عبدوهم من دون الله، وقربوا لهم القرابين،وسألوهم قضاء الحاجات وشفاء المرضى، ونذروا لهم، وطافوا بقبورهم كطوافهم ببيت الله الحرام، وزعموا أنهم وسطاء بينهم وبين الله تعالى، فشابهوا المشركين الذين أخبر الله عنهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3). قال ابن كثير رحمه الله: قال قتادة، والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد: (إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أي: ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده منزلة.
ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بِرَدِّها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36] (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [الأنبياء: 25].
وأخبر أن الملائكة التي في السماوات من المقربين وغيرهم، كلهم عبيد خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه، (فلا تضربوا لله الأمثال) [النحل: 74]، تعالى الله عن ذلك.أ هـ.
الغلو في العمل:
وهو يعني الخروج عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم والتشديد على النفس في العمل بزعم زيادة التقرب إلى الله تعالى، وقد نهى النبي عن ذلك فقال: " إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأَبْشِرُوا، واسْتَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله- في " الفتح ": المشادة بالتشديد المغالبة، والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع؛ فيغلب.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تشدِّدوا على أنفسِكم فيشدِّد اللَّهُ عليْكم فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسِهم فشدَّدَ اللَّهُ عليْهم فتلْكَ بقاياهم في الصَّوامعِ والدِّيارِ ورَهبانيَّةً ابتدعوها ما كتبناها عليْهم " رواه أبوداود. وهنا يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكتاب الذين شددوا على أنفسهم، وقال الله عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد: 27).
وقد جرت سنة الله تعالى في هؤلاء الذين أصيبوا بالغلو في العمل أن ينقطعوا عن العمل بالكلية، إلا من أراد هدايته فوفقه للرجوع إلى الطريق المستقيم.
قال ابن المنير: فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ هذا الدينَ متينٌ، فأوْغِلُوا فيه بِرِفْقٍ " رواه أحمد.
وأوصى صلى الله عليه بالقصد مع المداومة فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ الأعْمَالِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قَالَ: " أدْوَمُهَا وإنْ قَلَّ ". وقَالَ: " اكْلَفُوا مِنَ الأعْمَالِ ما تُطِيقُونَ ".
وقال بريدة الأسلمي رضي الله عنه: خرجتُ أمشي فرأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا فظننتُ أنه يريدُ حاجةً، فعارضتُه حتى رآني، فأرسَل إليَّ فأتيتُه، فأخَذ بيدي فانطلَقنا نَمشي جميعًا، فإذا رجلٌ بين أيدينا يصلِّي يكثرُ الركوعَ والسجودَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: " تراه يُرائي؟ "، قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ، فأرسَل يدي، فقال: " عليكم هديًا قاصدًا؛ فإنه مَن يشادَّ هذا الدينَ يَغلِبْه " رواه أحمد.
وشدد النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من الغلو في الأعمال، وبيَّن أن ذلك سبب للهلاك والدمار، عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَداةَ العقبةِ وهو على راحلتِه: " هاتِ القَطْ لي "، فلقطتُ له حصَياتٍ مثلَ حصَى الخذْفِ فلمَّا وضعتُها في يدِه قال: " بأمثالِ هؤلاء فارموا وإيَّاكم والغُلوَّ في الدِّينِ فإنَّما هلك من كان قبلكم بالغُلوِّ في الدِّينِ " رواه أحمد.
وحذر صلى الله عليه وسلم أمته من الخروج عن سنته والتشديد على النفس، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: " أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي " رواه البخاري.
مختارات